الكاتب سمير قسيمي للنصر / حاورته نـوّارة لحــرش



الكاتب سمير قسيمي للنصر
الاثنين, 05 ديسمبر 2011
روايتي القادمة خطوة جديدة ومختلفة ولا أرى عملا يوازيها
النمطية التي تعتمدها الرواية العربية لم تعد مبررة لأن زمنها قد ولى

سمير قسيمي روائي جزائري، نشر حتى الآن أربع روايات هي: «تصريح بالضياع» التي فازت بجائزة الهاشمي سعيداني للرواية، «يوم رائع للموت» الصادرة في‮ ‬لبنان عن الدار العربية للعلوم ناشرون،‮ ‬ومنشورات الاختلاف بالجزائر والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام2010، «هلابيل» الصادرة أيضا عن الدار العربية والإختلاف، وآخر كتاباته الروائية: «في عشق امرأة عاقر» الصادرة عن منشورات الإختلاف وجاءت في 215 صفحة. في هذا الحوار يتحدث قسيمي عن هذه الرواية الجديدة وعن شخصياته وسلوكياتها وعن الكتابة التي يرى أنها لا تسمو بأن تكون خلقا، وعن الروائي الذي يرى أيضا أنه مهما بلغ شأنه لا يمكن أن يكون خالقا. كما يتحدث عن روايته الأخيرة التي فرغ منها منذ أيام والموسومة بـ "الكفيف يمكن أن يرى". حاورته/نـوّارة لحــرش

"في عشق امرأة عاقر" روايتك الجديدة والتي تتناول موضوع العقر من جوانبه الأكثر سلبية، الجوانب الفكرية والإنسانية قبل الجوانب الجنسية أو المرضية. هل أردت أن تقول أيضا أن العقر حمّال أوجه، أو حمّال عُقد؟
سمير قسيمي: العقر لم يكن بأي شكل مركز الرواية، بل كان وصفا لحالة ذهنية استشعرها الراوي ونفخها بطريقته في شخوص روايته، وهو في ذلك لم يفرض وجهة نظر ما، بقدر ما أشار إلى العقم ودلّل عليه، لتجد الرواية نفسها تستفيض بذكر تلك الحالة الذهنية، حتى يُخال للقارئ أنها أصبحت مركز الرواية، رغم أن هذه لم تعترف طيلة السرد بوجود مركز أي كان لها، على اعتبار أنها كتبت بطريقة شبكية يستعصى فيها التمركز بسبب الحركة المستمرة للأحداث والشخصيات. ومع ذلك يمكنني الجزم أنه لا يمكن لقارئ الرواية -وهنا أقصد قارئا لا خلفية لديه- أن يفكر في العقم كعقدة أو كعائق جسماني، بقدر ما سيتصور أنه لم يكن إلا حلا سحريا أوجده صاحبه لتبرير العجز وعدم القدرة على الحصول على النتائج، ولأكون أكثر دقة، لم يكن العقر في كامل الرواية ليفسر على أنه حالة قنوط أو يأس، أو حتى ليكون علاَّقة لتشاؤم لا غاية له إلا تحقيق المزيد من التسليم والرضوخ. بل إنه شكّل على كامل صفحات الرواية، أرضية للتساؤل الثائر، الرافض للواقع المفروض.. الواقع العادل في ظلمه.
العقر أيضا كعقدة جنسية تفضي إلى الصراعات مع الأنا والآخر، وتقود إلى قسوة الانتظار الذي قد ينتهي إلى خيبة صادمة، لكن في الرواية البطل يحب المرأة العاقر، هل لأنه يخشى من المستقبل ولا يريد أن تكون له ثمار فيه؟
سمير قسيمي: لم يكن حسان ربيعي إلا مسخا لا حاضر له، ونكتة بذيئة أطلقها الماضي، فكيف يعقل أن نفكر أن يقوم بنفسه بإعدام آخر حيز يقبل به؟!. حين نفكر في خيارات حسان ربيعي ببعض الموضوعية ومن دون إصدار أي حكم، سنكتشف أمرا غاية في الروعة. إنه إنسان أدرك بإعمال العقل ألا ماض تبقى له لينظر فيه، وألا حاضر يمكن أن يقبل به كما هو، بكل تشوهاته الداخلية والخارجية، وما دام الأمر هكذا، فإن العقل نفسه سيجعله يفكر في آخر حيز يمكن، ولو لمجرد الاحتمال، أن يسعه ويقبل به ككائن ترغب عنه الذكريات.. هذا الحيز هو المستقبل، حيز لا يمكن ولوجه إلا عبر الأمل، أكثر ما يملك حسان ربيعي على الإطلاق، وهو ما أكدته في روايتي في فصل "مجرد تفكير في المستقبل"، فرغم سخرية الفصل، إلا أنه أظهر كم يفكر ويهتم حسان بالمستقبل، لأنه أدرك بلا شك بلادة تلك المقولة الشهيرة: "لا مستقبل لمن لا ماضي له".
حسان ربيعي المريض منذ طفولته، كأنك ترمز به إلى خيبات كثيرة على مستوى الحياة وليس فقط على مستوى الفرد/ الذات؟
سمير قسيمي: لا أعتقد أن "الخيبة" استثناء يستحق التركيز أو الترميز الذي تتحدثين عنه. إنه القاعدة في حيواتنا، حتى وإن حاولنا إنكار ذلك. الإنسان يبدأ حياته بصرخة بمجرد خروجه من رحم أمه، تعبيرا منه عن خيبته من عالم رغم ضيائه أقل أمانا من عالم الرحم المظلم، ثم يتدرج على تعلم الخيبة شيئا فشيئا، من أول مرة يدرك أنه مجبر على الأكل بنفسه وبذل مجهود الرضاعة وهو الذي كان في رحم أمه لا يبذل أي مجهود لذلك وهكذا دواليك إلى حين تنتهي حياته التي ألفها بخيبة الموت والنهاية، وحياة يتساءل في النهاية عن غايتها: نولد، نكبر، نعمل، نتزوج، ننجب ثم نموت.. وماذا بعد؟، ليدرك في لحظة السؤال كم كانت عظيمة خيبته أيضا في الحياة.
البطل الرافض لفكرة الوطن الإجباري والمنتظر لمولود من امرأة عاقر، يعني لا وطن بمستوى أحلامه ولا امرأة بمستوى العطاءات التي ينتظرها، ثنائية الحلم والانتظار، ثنائية الواقع المتخيل والواقع الصادم، كأنك تصر أن تكون صادما في رواياتك، ما رأيك؟
سمير قسيمي: كتبت إحدى الزميلات في الأدب قراءة حول روايتي "في عشق امرأة عاقر" نشرتها في بعض المواقع الأدبية، خلاصتها: "كم أنت مقرف يا قسيمي". لا أنكر وأنا أقرأ هذه القراءة كم كنت سعيدا بها، ببساطة لأنني حققت غرضي من روايتي، لقد أشعرت قراءها بما كان في داخلي وأنا أكتب هذه الرواية، ففي النهاية سيذكرونها حبا أو مقتا لها، لا يهم ما دامت ستذكر، ومع ذكرها سيعترفون كم كنت موضوعيا في تصوير الواقع بنتانته وقرفه وتشوهاته. لهذا ففكرة "الإصرار" كما تقولين ضرورية فيما أستشعر أنه مشروعي السردي، أو على الأقل ما أحب أن أصفه بذلك.
البطل جاء نتيجة اغتصاب، ونفسيته المضطربة والمهتزة جاءت نتيجة اغتصاب تعرض له من حارس المدرسة وهو صغير، ما خلفية هذا الربط بين اغتصاب الأم والابن في سياقات الرواية؟
سمير قسيمي: المغزى لم يكن الربط بين حالتيْ اغتصاب، لأن الاغتصاب وإن كان فعلا شنيعا ولا أخلاقيا، فإنه رغم ذلك لا يعدو أن يكون إلا فعلا إنسانيا، شئنا هذا أم أبينا، يمكن تبريره أو حتى معالجة أسبابه.. المغزى كان التأكيد على أنه فعل "مستمر" في ذاته إذا تلازم بـ"التخلي" وعدم الاعتراف، لأن التخلي في نظري أكثر شناعة وأقل إنسانية حتى من القتل. إنه شعور لا يليق بالكائن الحي، لأنه حالة يفرضها الموت لا غير، ففي النهاية لم أكتب رواية "آلام ومآس" إنسانية، ولا كتابا حقوقيا لمناهضة جريمة الاغتصاب. كل ما قمت به هو مزاوجة الأرض- الوطن بالأم، والولد بالشعب، ذلك أن "لاشرعية" أي نظام تنفي بالضرورة الشرعية عن خلفه.
اعتمدت على الاسترجاع في الرواية وعلى اختراع شخوص طارئة في مواقف ويوميات البطل، هل البناء العام للرواية كان يتطلب شخوصا طارئة ومرتجلة، أم أن الحيز السردي المتروك للبطل كان يتطلب هذا؟
سمير قسيمي: بل لأنني أردت ذلك، ورأيت أنه لم يعد يليق بأي روائي ألا يحترم قراءه، وأبشع أنواع هذا "اللا احترام" هو الاستخفاف بذكاء القراء. النمطية التي تعتمدها الرواية العربية لم تعد مبررة، إنه لم يعد مقبولا على الإطلاق الاستخفاف بمنطق وعقل القارئ، بأن تجعله يؤمن بأشياء لا وجود لها، وأهم هذه الأشياء في نظري هو الإدعاء بضرورة تبرير شخصيات الرواية، بحيث لا يجوز لك أن تبتدع شخصية إلا إذا كان لها مبررا وغاية في النص. أعتقد أن هذا غباء وإطراء للحمق، ذلك أن الحياة التي يفترض أن يصورها الكاتب لا تعمل وفق "الوجود لغاية"، كما لا تعبأ بمبررات الموجود والحدث. وليكون كلامي أكثر وضوحا فسأعطي مثالا غاية في البساطة، أو لنقل إنه سؤال مسرف في السهولة: هل يمكن أن تتخيلي امرأة بموقف حافلات فيعاكسها أحد، فتبتسم له ويبتسم لها، ثم تقول لنفسها: "كم كان وسيما ذلك الرجل"، ولعلها تتأسف أيضا لأنها لم تمنح نفسها الفرصة.. سيكون الجواب: نعم، يمكنني أن أتخيل ذلك.. ولكنني حين أسرد بعدها قصة تلك المرأة، أتذكر أمرا خطيرا: إن الرجل الذي ذكرت لم يلعب أي دور في حياة بطلتنا ومع ذلك وجد فيها وأخذ حيزا لا بأس فيه.. كيف يمكن الآن أن يكون هذا منطقيا في الحياة وغير منطقي في الورق؟!. ما أريد أن أقوله، هو أن زمن الرواية المنمطة، المرتبة، المبررة بالتفصيل قد ولى، لأنه لم يعد يلائم عقل ومنطق القارئ، كما أن الحديث عن شخوص ارتجالية أو طارئة لا معنى له في الحقيقة، لأنه لا معنى له أيضا في الحياة.
الرواية زمنيا استغرقت ساعة ونصف، ما الوقت الذي استغرقته في كتابتها؟
سمير قسيمي: زمن تصفيفها ليس أكثر!..
لماذا هذه الصورة السلبية للأنثى في الرواية، امرأة مغتصبة، وعاقر، مقهورة ومضطهدة، صورة بائسة، كأن الرواية تصفي حسابا ما مع المرأة على الورق وعبر الأحداث، كأن الواقع لا يكفي لتصفية هذا الحساب وعلى الرواية أن تكمله أو تتقنه؟
سمير قسيمي: بالعكس تماما، فعلى خلاف رواياتي السابقة، فقد حافظت في هذه الرواية على توازن "نسوي معقول" من حيث التصوير والوجود: أم حسان ضحية الاغتصاب والمرأة الولود، تقابلها زوجة حسان المرأة القوية العاقر، وتقابل هاتين المحامية ذات الشخصية القوية.. لا أرى بالفعل أي صورة بائسة للمرأة، ولا أي حساب يصفى على الورق.
هناك من صنف روايتك بأنها رواية في حب الأرض والأم رغم الجانب السوداوي فيها للفردانية والذاتية؟
سمير قسيمي: إنها رواية فحسب، أما التصنيف فلا يعنيني من قريب أو بعيد.
كمٌ هائل من الأوهام والتراجيدية والقساوة الطاحنة في الرواية، لم تكن رحيما مع أبطالك كعادتك؟
سمير قسيمي: صحيح، ومع ذلك فسأعترف لكِ أنني لم أكتب هذه الرواية إلا لتجريب بعض تقنيات الكتابة الجديدة، لاسيما "الاسترجاع" وتقطيع المشاهد وتعدد الرواة والراوي العليم، مزجت كل شيء مرة واحدة لأرى أي نظام ستخلق هذه الفوضى. لأن المرحلة القادمة وأقصد من ذلك روايتيَّ القادمتين ستحتاجان إلى الكثير من التحكم، لهذا ربما يمكنك أن تقولي أن "في عشق امرأة عاقر" لم تكن أكثر من فأر تجارب لتحقيق غاية أكبر، وكانت أيضا متنفسا لي أخرجت من خلاله كل الغضب والحقد اللذين كانا يغمراني قبلها.
قلت بأنك كتبت «في عشق امرأة عاقر» وأنت غاضب وحاقد على نفسك، لماذا هذا الغضب والحقد، ما خلفياته، وهل كل رواياتك كتبتها بهذا المزاج؟
سمير قسيمي: لن أجيب عن هذا السؤال، ببساطة لأنني أشعر الآن بالرضا على نفسي وبقدرتي على محبة الجميع حتى هؤلاء الذين لا ولن يحبوني أبدا.
أمازلت تعاني من ازدحام القصص التي تجعلك تتبع الرواية بالرواية؟، ثم من أين يحدث كل هذا الازدحام في القصص، من خيالك، من ذاكرتك، من الواقع، من أين تحديدا؟
سمير قسيمي: من ثلاثة أمور لا أكثر: قدرتي على الإصغاء، أرقي المزمن وحبي للرواية من دون مقابل.
ماذا عن شخصياتك؟، هناك من يتهمك بالمبالغة في خلقها وخلق سلوكياتها الغريبة؟
سمير قسيمي: لم أفعل أكثر من رصدها في مجتمع يتفنن في الكذب على نفسه وفي محاولة إخفائها. أما اتهامي بـ"اختلاقها" و"خلقها" فمن الأفضل أن يُعيدوا التفكير فيه، لأن الأكيد عندي أن الكتابة لا تسمو بأن تكون خلقا، وأن الروائي مهما بلغ شأنه لا يمكن أن يكون خالقا.. إنهم بطيبتهم يتهمون كائنا أسمى..
أنت من الكتّاب القلائل الذين لا يعانون من أزمة نشر، هل هو حظ أم ماذا؟
سمير قسيمي: الحظ أمر يمكن أن يتحدث عنه رجل يخرج في يوم ماطر من دون أن يرتدي معطفا أو يحمل مطرية، فيجد سيارة أجرة بجوار بيته تقله من دون أن يبتل. أما أنا فمن عادتي ألا أخرج في يوم ماطر من دون معطفي ومطريتي. أتعتقدين حقا، أن منشورات الاختلاف وشريكها اللبناني بكل احترافيتهما وثقلهما في الساحتين العربية والجزائرية تجازفان بنشر نص سيء وإن كان لكاتب مرموق؟!.. ومع هذا فأعترف أن الحظ أصابني على حين غرة، حين قُدّر أن أنشر في دار نشر يفهم أصحابها في الأدب، وبقدر فهمهم له، يجهلون كل شيء عن معنى الإقصاء، حتى وإن تعلق الأمر بكاتب مثلي: متغير المزاج، كثير الطموح والتشكي.. والأخطر من كل هذا: غارق في غروره إلى حد القرف.
ماذا عن روايتك الجديدة التي أتممتها منذ أيام "الكفيف يمكن أن يرى"، هل يمكن أن تحكي عنها قليلا؟
سمير قسيمي: أفضل أن يكون الحديث عنها بالتفصيل مباشرة بعد صدورها الموسم القادم كما آمل، ومع هذا فيمكنني أن أقول أنها ستكون بالنسبة لي خطوة جديدة في مرحلة جديدة. أدرك أنني بقول هذا أحكم على نفسي ولكنني أؤكد لكِ أنها مختلفة في كل شيء عن سابق أعمالي، ولا أرى عملا يوازيها في الاختلاف إلا الجزء الثاني من "هلابيل" الذي أنا بصدده والذي آمل أيضا أن يرى النور مع الموسم القادم، لأشهد دخولا أدبيا بروايتين مثلما كان الأمر في العام 2009، حين أصدرت عملين دفعة واحدة. المهم "الكفيف يمكن أن يرى" أو حتى الجزء الثاني لهلابيل "رسل الحقيقة.. هلابيل، القصة الكاملة" ستكونان مفاجأتي لقرائي الذين يغمرونني بحبهم وفي نفس الوقت "لجاما" أضعه بإحكام على أفواه المتشدقين المشككين في الرواية الجديدة وكُتابها، والمشككين بموهبتي. إنها طريقتي لأقول لهؤلاء: "صمتا من فضلكم.. إننا نعمل".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي