الفنان التونسي مراد الزارعي يتحدث عن تجربته النحتية: "ليس كل نحات الاها... وإنما من الجماد ما نطق"
لن انسى تلك الوهلة الاولى التي وقع فيها ناظري على بعض الاسلاك الحديدية التي كانت ملقاة على الارض. وقتها لم افكر ابدا ماذا سأفعل بهذه القذارة ، بقدر ما كنت مشغول بتفحص تلك المادة البائسة المتلاشية ومحاولة جمع بعض من اوصالها المتقطعة... وبدون وعي، رحت امسكها بها، و اتلمس اجزائها محاولا ترويضها بين اصابعي. وكأني بتلك الام الحنون التي تحتضن وليدها للمرة الاولى، فتقربه منها وتشعره بحنانها، فتعوده على رائحتها. تلك الرائحة التي تذكرني بأمي، بمادتي ، بالأنثى التي تنساب شعرا وجمالا وخصبا ... فهي الحنين ، وكذلك الجنين الذي سيتكون من رحم المعاناة، ويتشكل ليصير ذلك الكائن الجامد الذي ينطق في صمت، ويبوح للعلن عن حكاية خلقه المثيرة.
هكذا حاولت ان احتضن مادتي ، وأعانق ملهمتي في هوس وأقربها شيئا فشيئا لنفسي، وأشعرها بخفقان قلبي لأفقه لغتها، فتحس ولعي بها، فتنشا بين جسدينا تلك الكيمياء الغامضة التي سرعان ما ستتحول فيما بعد الى معاشرة ابدية بين جسدي الحي و جسد المادة الاصم. و التي ستتحول مع مرور الايام و السنوات الى عشق وجودي يتبدد بخاطري ووجداني، ويحول عبثي الطفولي الى اصرار وعزم فنان ترسم ملامحه رغبة ملحة في التجربة وولوج عالم الفن والتشكيل من بابه الواسع. ذلك الفضاء الكبير الذي لطالما احس شغفي به، فراح يجذبني اليه كمغناطيس تتصارع اقطابه على احتضاني وبث روح الابداع في صدري، فتهيم روحي بعشقه، وتكتب اولى حروف قصة عشق بين فنان الهمته مادته، فصار بمثابة ذلك الاله الذي يتفنن في وصف معشوقته بأبهى الاحجام والأشكال.
اقول ان ليس كل نحات إلاها ، بل اجزم ان الاله يسكنني ويتجسد في روحي وعاطفتي ومخيلتي، ويختلي بي في لحظات سكوني وسكرتي وانفعالي حتى في ساعات وحدتي وانشغالي ...يحدثني في همس عن اسرار الخلق بدء من قصة ادم وحواء الى اخر مولود بعث من اجل الحياة وترديد ترانيمها التراجيدية. ليقيم قداسا مأساويا للخلق محاولا احياء الساكن من النحت وبث الروح فيه عبر تحريك بعض من ثناياه او ضخ بعض الدماء في مساراته الحسية والبصرية، التي تستثيرنا في محاولة قراءتنا للمنحوت والحكم عليه بالحياة او الموت.
حينها يصبح النحات اشبه بجراح يمتلك مفاتيح سر نجاح عمليته، فيقلب بمشرطه تارة ذلك العضو ويبتر بمقصه العضو والضلع الاعوج تارة اخرى غير عابئ بان هذا الضلع هو سر من اسرار الخلق والحياة وسبب من اسباب الوجود والتنوع التي تجعل من الانسان الشيء الاكثر جدلا في هذا الكون.
ووسط هذا الجدل المقيت، اجلس وسط اشيائي المبعثرة لساعات وساعات فاغرا فاهي، افكر وأنا مشوش الذهن ، تلفيني المئات من الاسئلة الغامضة وتغريني الالاف من الافكار ، من اين ابدا ؟ وأي من الاضلع سوف اوقف نزيف افكاري المتسارع في نسق تراجيدي ينبئ بوقع المأساة ؟ وانظر فجأة في الساعة المعلقة في السماء ، فأجد الوقت قد حان للشروع في تنفيذ ملحمتي التاريخية الاخيرة ، فاقطع راس هذا واسلخ جلد تلك وأقص اجساد أولائك إربا إربا بكل ما اوتيت من عنف وجبروت ووحشية. فتتناثر الجثث والجرحى امامي كحبات الرمل من اعلى سفح الجبل المطل على تلك الحلبة الحمراء، التي تكاثرت حولها الوحوش والغربان تجذبها رائحة الدماء التي تنزف كل حين من اصابعي ، حينما تخزها اسلاكي الفولاذية الحادة. فأصبح ذلك الجلاد السادي الذي يستمتع بالآلام التي تحدثها حبيبته المادة، فيهمس لها خجولا ويواصل قهقهته المستفزة، ويتواصل العناق الغزلي بينهما الى ما لا نهاية له من البذل والعطاء والعمل المستمر ، الذي تتخلله الحكايا والأغنيات والأهازيج التي توقفها اصوات وقع ضربات المطرقة وكأنها اجراس المقصلة.
فيعلو صوت من الاعماق، تتوقف على اثره عقارب الزمن لبرهة من الوقت ، تستكمل خلالها اشكالي النحتية بناءها اللامكتمل ، فتعيد دورتها الحياتية من جديد فتكسو جذوعها وعظامها التي انهشتها انياب الضواري ، فأضحت منحوتات خاوية بدون عروش ، تتلمس خطاها في صحاري قاحلة وغابات جرداء حالها حال اسلاكي المبعثرة في كل مكان. كأنها عواصف الخريف حينما تهب على اغصان الشجر. فتعريها من ثمارها و اوراقها التي بدأت تتساقط معلنة بداية عجزها... لكنها تظل شامخة بكبريائها رافعة راية انتصارها على الزمن ومتغيراته الكثيرة. فتستمد قوتها الروحية من روح خالقها الذي مازال يجلس وحيدا يتصارع مع افكاره العميقة كما منحوتة المفكر للنحات الفرنسي "رودان" الذي حمله همومه وآهاته، فجعله ينطق عن ما يعجز عنه شخصيا ، فيشاركه لغة الصمت التي تجمعهما. وينشا بين النحات ومجسمه ذلك الحوار الباطني، الذي تنتظم على ايقاعاته مادة الفنان وأحجامه وأشكاله داخل اوتار سمفونيته الخالدة.
وعلى هذا النسق الوجودي، تنتظم الاوتار حسب سلم ايقاعاتها الموسيقية ، بينما تتداخل اوتار منحوتاتي حسب ايقاعها الروحي ، الذي تستمده من الطبيعة التجريدية والحياة المنسية للفلاحين وصور المزارعين الاتية من اراض بعيدة. تسائلنا بلغات لم نعهدها من قبل عن مدى العناء والتعب ، الذي يرتسم في كل جزء من اجسادهم الكادحة والنحيلة في تشققات اياديهم، واثر التجاعيد التي تتركها السنون على ملامحهم . وهم في غفلة عن كل هذا التغير، شانهم شان شجرة السنديان في شموخها وعزتها وصبرها، الذي لا يقهر ويقاوم الزمن والوقت الذي لا زلت اكابده لساعات وساعات، وانا اتصارع مع مادة الحديد الصلبة والعنيدة، فتطاوعني مرة وتعاندني مرات كثيرة فأكون لها بالمرصاد، حتى تذعن لسلطتي وتلين وتصبح مثل الطين والصلصال الذي يسهل تطويعه ومعاشرته. فبفعل المعاشرة تستبيح الذات الفنية قدسية المادة وشعائرها المحرمة وتصبح ملكا لإرادة النحات ورغبته.
ان ترويضي لهذه المادة اشبه بتجربة ترويض فرس جامح عنيد في محاولة اولية فاشلة لامتطائه وركوبه، وتخيل ماذا ستؤول النتيجة في المرات اللاحقة ؟ ذلك هو شاني في تعاملي مع تلك المواد الصلبة التي تبدأ بالصراع وتنتهي بالنصر...
في الحقيقة انه ليس شاني وحدي ، بل هو شان كل فنان اختار مجال النحت لترجمة تصوراته وأفكاره ومواقفه من خلال المادة و التقنية والأسلوب المتبع فنيا وجماليا.
يقال ان الصمت ابلغ من الكلام واشد وقعا منه ، وفعلا تأكدت ان في هذا الصمت تكمن لغة اخرى يتقن لفظها العباقرة في اكتشافاتهم والمفكرين في ابداعاتهم و المعذبون في الارض الذين يرسمهم النحات بفخر ،والأسرى الذين خارت قواهم ولم يعد لمناجاتهم من بد . وحتى المنتصرين في طريقة رفعهم لراياتهم حينما يتوقف الكلام في حناجرهم في لحظة فرح وهلع...
في تلك اللحظة ، تعجز كل الانفاس على استيعاب مجرد انين وتتحول الاصوات الى صمت مميت يكاد يصيبنا بالانفصام في شخصياتنا ، فنتوه بحثا عن مكان نرمي فيه همومنا ونعزل فيه ذواتنا المضطربة ونخفي فيه انهياراتنا وانكساراتنا داخل ثنايا ارواحنا الممزقة التائهة في عالم فانتازي اثير. يستفزنا بلامبالاته وعدم اكتراثه بالواقع، التي تسوده الفوضى وتضيع فيه المعانى لصالح صناع الكلمة وتزويقها لغايات وظيفية صرفة. هنا تكمن جمالية الصمت الناطق في منحوتات لطالما عبث بها الزمن وظلت تقهره بشموخها وجمودها المدوي الذي ينطق بأسرار خلقه المثيرة على مر السنين، وكما يقال لكل زمن رجال ولكل فن مقاومين...
مراد الزارعي فنان تشكيلي وباحث وناقد فني من تونس.
تعليقات
إرسال تعليق