ملامح تراثية في التشكيل الجزائري -محمد راسم نموذجا - / أ.عزيزة شرارد جامعة الجزائر -2-
-محمد
راسم نموذجا-
أ.عزيزة شرارد
جامعة الجزائر -2-
مدخل
:
يعتبر التراث المكون الأولي عند الشعوب نظرا لما يحويه من
مادة دسمة تدخل في تركيبة الأمم و تعد ركيزتها الأساسية ، لأنه من المستحيل الفصل بين ما هو معاصر وما هو
قديم إذ أن المادة التراثية " هي مجموع ما تتوارثه أجيال الأمة من نتاج فكري وإنجاز مادي وما يضيف إليه كل جيل
من إسهامات ، وهو بهذا المعنى نشاط تراكمي متصل ومتواصل وثيق الصلة بالحضارة
" (1)، في هذه الحالة يصبح من المتعذر أن ينسلخ هذا
الإنسان عن الأولين ويعرض عن تجاربهم لبناء حاضره
كيف ذلك إن كان هذا الإنسان فنانا ؟ الفن بالأساس يرتبط أيما ارتباط
بالمجتمع الذي ينشأ فيه ويتمخض عنه لأنه وليد للحظة تفاعلية بين الفنان نفسه
وحيثيات المنظومة التي تحوطه (المجتمع بكل تفاصيله) ؛ لذلك لطالما شكل التراث
الملاذ الذي التجأ إليه الكثير من الفنانين الذين وجدوا فيه الوجهة التي لا لم
تخيبهم.
في ظل هذا وذاك يبقى التراث
"الأصل الذي يرجع إليه في بناء الحاضر مع إضافات العصر وهو المثال الذي يحتذى
به في بناء الجيل الجديد"(2).
1-زواج المتعة بين التراث والفنون:
نظرا للأهمية البالغة التي يكتسيها
التراث في المجتمع إذ أصبح بمثابة المصدر المرجعي لمختلف الفنون فتوافدت الجهود
بغية المحافظة عليه إما بتدوينه (أمثال، أساطير ، أغاني شعبية، حكايات، خرافات) أو
بتوظيفه في أعمال سردية وشعرية ومسرحية (حيزية
وسعيد على سبيل التمثيل)، وبعضهم اتجه إلى توظيفه في السينما وآخرون اتجهوا به إلى
عالم التشكيل.
فأصبحت العلاقة بين التراث والفنون
أشبه ما تكون بعلاقة زواج المتعة التي تحقق الرغبات الروحية والجسدية في آن واحد
فيعيش الفنان حالة تحرر تام ومواجهة عنيفة تحقق له رؤاه وينتهي من علاقته تلك بعمل
يقترب به من الرضا إن لم يحققه له كاملا.
2-استحضار التراث في الفن التشكيلي:
بعدما تفطن الفنان التشكيلي إلى
مدى ثراء الزخم التراثي الذي يحيط به ، انكب ينهل منه موضوعاته ويتشبع قدر الإمكان
لإرضاء رغباته وتوقه إيمانا منه بأن
الطبيعة البشرية تحتم عليه العودة دائما إلى ماضيه لبناء لوحته باعتبار " الطبيعة البشرية
تفرض علينا الاندماج في الماضي والتواصل معه دون أن نشعر بهذا الإندماج أحيانا
وغالبا ما يكون دون رغبة الفرد ، وكذا الفنان يجد نفسه محكوما بطبيعة المواضيع
والقضايا التي يعالجها"(3) فلا يمكن للفنان التشكيلي أن ينحرف عن
بيئته تمام الانحراف بل إنه مرتبط بها ارتباطا وثيقا لذلك نجده يعبر عن نمط
المعيشة في مجتمعه فيقف عند العادات والتقاليد والطقوس ليؤكد بذلك مقولة ((الفنان
ابن بيئته)) باميتاز.
3-ملامح تراثية في التشكيل الجزائري:
لقد أحيا البعض من الفنانين
التشكيليين الجزائريين روح التراث في لوحاتهم التي طغت عليها اللمسة التراثية
لتعبر عن الانتماء القوي لهذا الفنان وتؤكد صلته المتينة بمجتمعه ، فوجد نفسه أمام
حوار جمالي على قدر من الوعي العالي ؛ حوار يشد قطبيه ثنائية الانتماء للأرض التي
تؤكد الهوية والحس الفني العالي الذي يؤكد القدرة الإبداعية الجمالية لهذا الفنان.
ونذكر على سبيل التمثيل محمد راسم كونه النموذج المثالي الذي حقق ذلك في
لوحاته ، بالرغم من أنه هناك أسماء جزائرية التفتت إلى ذلك محمد تمام (العروسة/ شارب الأرجيلة/ امرأة صحراوية/ تزيين
العروسة/جلسة في المقهى)، بشير يلس (عرس بتلمسان/ منصورة/ لالة ستي/ مناظر من
الريف)، محمد بوكرش (رقصة رجل ترقي)، سمير
كزاس (معرض لتكريم المرأة الجزائرية) ، كربوش علي (حرفيّ)، عداس سمية (قعدة
مسامعية)، قرماتي زروقي (تلاوة القرآن) ، بلقسوم كسيلة (فضاء قبائلي) ، جلغوم نوال
(فانتزيا) و خليلي أحمد (زفة عروس).
لقد نشأ الفنان التشكيلي محمد راسم
في بيئة اجتماعية جزائرية "تتميز بالتمسك بالتقاليد والأصول والتراث في قلب
قصبة الجزائر"(4) هذا المكان الذي تشكلت فيه "مخيلة
محمد راسم حيث أرسى البنات الأولى لوعيه الفني ... حاملا على كتفيه ذاكرة
القصبة" (5) ، ما جعله يرتبط ببيئته كثيرا الأمر الذي انعكس
على لوحاته المتعددة التي تنتمي إلى فن المنمنمة (6) ، هذا
الفن الذي يعد من جهة " مرجعا لاستقراء عصور
وجوده الآخذ في مسارات التطور الحضاري ، حتى ارتقت إلى مستوى الوثيقة التي يعود
إليها الباحث والمؤرخ معا وهما يستكشفان جذور حضور أمة اعتمدت لغة الجمل الفني
أسلوبا معبرا عن ذاتها" (7) ، و الذي أصبح بفضل جهوده
وإبداعاته "فنا عالميا وفي فترة وجيزة إذ تمكن من منافسة
الفن الغربي الذي احتكر المشهد التشكيلي"(8) واحتل
الصدارة في تلك الحقبة لذلك يعد محمد راسم رائد فن المنمنمة.
محمد راسم
1896-1975
لقد تميزت منمنمات محمد راسم عن غيرها وتعددت
مواضيعها ما بين تاريخية ، اجتماعية ودينية ، لكن ما جعلها تتفرد أكثر وتصطبغ
بطابع خاص هو تلك الشحنة التراثية التي تكتسح فضاء لوحاته ، إذ سعى في الكثير منها
إلى تخليد التراث الجزائري بفضل "التفاته إلى مختلف جوانب حياة المجتمع
الجزائري"(9) لذلك تعد وثيقة اثنوغرافية وثقت لجانب هام من
حياة المجتمع الجزائري ؛ من بين أهم تلك اللوحات التراثية التي وظفته ساعيا فيها على المحافظة على أصالة هذا التراث وهويته:
أ/لوحة
تزيين العروسة:
وهي لوحة من عمق عادات المجتمع
الجزائري ، رصد محمد راسم من خلالها مظهرا من مظاهر مجتمعه الذي يعنى بتزيين العروس يوم زفافها ،
وهو أحد الطقوس الهامة في البيئة التي نشأ فيها الرسام ويولى قيمة لا يستهان بها
لأن هذه اللوحة هي عبارة عن لوحات مترابطة ومتلاحمة (التحضيرات للعرس ) تنتج هذه
الأخيرة. أولى اهتماما بالغا بالأزياء التقليدية والحلي ، كما أنه اهتم بالتسريحة
والتاج الذي تضعه العروس على رأسها ، وبالحنة الني تضعها على راحتي يديها والتجميل
البادي على ملامحها (أحمر الشفاه، العيون المكحولة ، الخدود الموردة)، وهي واقفة
أمام مرأى من امرأتين جالستين متزينتين ترتبان ملابسها وتحرصان أيما حرص على
التفاصيل في فضاء خاص يلفهن جميعا (الغرفة )، وهذه عادة معروفة في المجتمع
الجزائري إذ تحاط العروس باهتمام بالغ من طرف أمها وخالتها أو أمها وأختها لتبدو العروس في أبهى حلتها.
ب/لوحة زفاف جزائري:
وكأنما هذه المنمنمة جاءت لتكملة
لوحة تحضير العرس ، تكشف لنا عن مراسيم الاحتفال بالعروس الجزائرية التي ترتدي زيا
تقليديا وتحرص على وضع الحلي والحنة تتوسط
فناء في أحد بيوت القصبة المزينة بالزرابي ، تجلس بملامحها الجميلة وملابسها
الأنيقة البراقة وسط النسوة اللائي كن
يرتدين ملابس تقليدية من قفاطين وفساتين أخرى كالقندورة ابقبايلية وتضعن دميعهن
محرمات فوق الشعر ، كن يستمتعن بأنغام
العود والطبل والكمانجا والبندير التي كانت تعزفها مجموعة نسوية يبدو أن ألحانها من
الشعبي الأصيل الذي عرفت به المنطقة (المسامعيات كما تعرف في اللهجة الجزائرية) .
ج/لوحة ليلة رمضانية:
هي من بين المنمنمات التي تجسد
سهرة في ليلة رمضانية لمجموعة من النوسة تجلسن حول مائدة الشاي على أحد سطوح بيوت
القصبة المطلة على ميناء الجزائر ، اهتم فيها باللباس التقليدي والحلي الذي كانت
ترتديها النسوة اللائي كان يبدو عليهن أنهن منشغلات بالحديث ، ونسوة أخريات تطل من على سطوح بيوتهن بأزيائهن التقليدية ، وبكل المعالم المعمارية
لمنطقة القصبة التي تعد معلما أثريا لمدينة الجزائر العاصمة وقد خلدت في العديد من
القصائد الشعبية . ركز كذلك على الجامع الذي يعلو البنايات
بقبته البارزة ليجسد بمنمنمته تلك طقسا آخر من طقوس العائلات الجزائريات ألا وهو
السهرة الرمضانية التي كانت تجمع بين النسوة في السطوح ، وتجمع بين الرجال في
المساجد لأداء صلاة التراويح.
د/لوحة داخل المسجد:
لقد سعى محمد راسم إلى تجسيد
الجانب الديني للمجتمع الجزائري من خلال أكثر صورة معبرة عن ذلك ألا وهي فضاء
المسجد ليعبر من خلاله عن طقوس العبادة الخاصة بالمسلمين (الصلاة) ، مهتما بكل
تفاصيل اللوحة بدءا بالعمارة والتأثيث
ولباس المصلين ، فجعل قاعة الصلاة واسعة مفروشة بزرابي حمراء عليها بعض النقوش
الخضراء متعددة الزخارف ، واهتم بالقبة
اهتماما بالغا إذ تعتبر " القبة تمثيلا للفضاء الرحب والسماء الواسعة ...
لذلك حرص أهل الأديان على أن يجعلوها في المعبد لما توحيه من المعاني الروحية اليت
جاءت بها الأديان المختلفة لاسيما تلك الأديان التي توصف بالسماوية"(10)
التي تعلو هيكل الجامع ، وبالمئذنة وهي المكان المرتفع الذي يعلن منه المؤذن دخول
وقت الصلاة ، كما حرص على إظهار المحراب
الذي خصص له الجدار الأيسر بأكمله . التفت كذلك إلى الأثواب التي "كان
يرتديها الرجال المتواجدون بقاعة الصلاة بين ساجد وراكع وواقف وجالس "(11) .
خاتمة:
-لقد اهتمت منمنات محمد راسم
بالتراث بنوعيه :
المادي (كل ما هو مادي من : اللباس
، الحلي، التأثيث ، العمارة -المسجد و القصبة-) واللامادي (المتمثل في العادات
والتقاليد من طقوس الدنياوية منها الأعراس
و الأغاني والطقوس الدينية كالعبادة -الصلاة-) وبالتالي هي تأريخ لحياة الجزائريين.
-سعت منمنمات محمد راسم إلى ترسيخ
التراث الجزائري وتبيان أهميته في حياة الأمة الجزائرية في تلك الحقبة لأنه كان
دليلا على أصالتها المتجذرة التي لم يستطع الاستدمار الفرنسي القضاء عليها وطمسها.
-تعتبر منمنمات محمد راسم وثيقة
اثنوغرافية صالحة للاستناد عليها في أي بحث تاريخي أو اثنروبولوجي نظرا لما تحويه
من زخم يهتم بالتراث الجزائري في حقبة معينة "لأنه يعد بمثابة المدون الأمين
لتاريخ أمته إذا بعر بصدق عن عاداتها وتقاليدها"(12).
-تنطلق منمنمات محمد راسم من البعد
المحلي بمواضيعها وجزئياتها الدقيقة من شخوص وألوان وفضاءات لتحقق البعد العالمي
نظرا لما تكتسيه من جمالية وقيمة فنية مميزة تمزج بين المعاصرة والأصالة لذلك يمكن
القول أن محمد راسم قد أعاد بذلك بعث ما
ولى من تراث الحضارة الجزائرية المجيد الذي يتشبع بالقيم الإسلامية.
-اهتمام منمنمات محمد راسم باللون
وتدرجاته واشتقاقاته ما يجذب الأنظار نحوها من جهة وما أضفى عليها ملمحا فنيا عالي
الجودة من جهة أخرى. واهتمت كذلك بموضوعي الدين الإسلامي على غرار الفنانين
الغربيين " الذين تأثروا بالثوراة والإنجيل وراحو يستقون مادتهم منه أمثال
رفاييل وكاب واتشووفرنشيسكا بيللني ومارنتسو"(13)،
والعمارة التي تعد من أهم مكونات المنمنمة.
-تشرب منمنمات محمد راسم من التراث
لدليل على رغبة الفنان في تمجيد أمته بكل تفاصيلها وإعلاء صرحها بين الأمم والشعوب
المختلفة بتقديم صورة عنها للعالم بأكمله ، صورة التراث الجزائري الذي يقدم الواقع
الحقيقي للدين والمجتمع ليست تلك الحقائق المزيفة والصور النمطية التي سعى إلى
تجسيدها الفنان الغربي لتحقيق رغبات تجتاح نفسه.
المصادر والمراجع:
1- التليسي خليفة محمد: النفيس من كنوز القواميس، الدار
العربية للكتاب . 2000. ص193.
2- أعراب فهيمة: دراسة تاريخية أثرية من خلال مدينة
قسنطينة –بحث مقدم لنيل شهادة الماجستير في التراث والدراسات الأثرية- إشراف عبيش
يوسف. جامعة منتوري قسنطينة. 2010-2011. ص 2.
3- موزابي ربيع: النزعة الرمزية في رواية فاجعة الليلة
السابعة بعد الألف/رمل الماية. رسالة ماجستير –تخصص أدب عربي حديث- جامعة أبي بكر
بلقايد تلمسان. 2010-2011. ص 40.
4-أوزغلة محمد عبد الكريم : مقامات
النور -ملامح جزائرية في التشكل العالمي-.
دار الأوراس ، الجزائر. د.ط. 2007. ص 116.
5-الكناني عبد الرحمن جعفر : منمنمات محمد راسم
الجزائري -روح الشرق في الفن التشكيلي العالمي-. دار الإبريز ، الجزائر. د.ط. 2012
. ص 91.
6-المنمنمة : هي فن التصوير الدقيق
الذي يقوم أساسا على الرسومات الدقيقة والألوان الجذابة . وهي فن إسلامي ظهر مع
عدة مدارس كالواسطي ومدرسة إيران ومدرسة الهند ومدرسة المغرب الإسلامي.
7- الكناني عبد الرحمن جعفر :
منمنمات محمد راسم الجزائري -روح الشرق في الفن التشكيلي- (دراسة فنية ) . ص 7.
8-عفان إيمان : دلالة الصورة الفنية -دراسة تحليلية سيميولوجية لمنمنمات
محمد راسم-.إشراف : د.بن كروح مخلوف . رسالة لنيل شهادة الماجستير ، كلية علوم
الإعلام والإتصال ، جامعة الجزائر. 2004-2005. ص 115. بتصرف.
9-الشيخ طر الوالي : المسجد في
الإسلام . دار العلن للملايين ، لبنان. ط 1 . 1988. ص 275.
10-عفان إيمان : دلالة الصورة
الفنية -دراسة تحليلية سيميولوجية لمنمنمات محمد راسم-. ص 118. بتصرف.
11-المرجع نفسه . ص 120. بتصرف.
12-الكناني عبد الرحمن جعفر :
منمنمات محمد راسم الجزائري -روح الشرق في الفن التشكيلي العالمي-. ص 36.
13-المرجع نفسه . ص 72 . بتصرف.
الله ابرك
ردحذف