الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

Mohamed Fares

محمد فارس

محمد الفارس باحث في الفنون التشكيلية من تونس بصدد انجاز دكتوراه بعنوان التشكيلي و الفرجوي في فن الأداء من خلال تجارب تونسية معاصرة
أقدم إليكم هذا المقال بعنوان "الهدم البناء و  مفهوم الزائل في الفن المعاصر"

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر

يدفعنا ما نراه من أعمال تندرج ضمن الفن المعاصر إلى التساؤل عن ماهية الفن، ويسبّب لنا حيرة تزداد عند عدم إيجادنا لإجابات حاسمة و دقيقة، ففي الفن المعاصر يصعب إيجاد المفهوم و الدّلالة ونظل ضائعين في علامات تجريدية، بالإضافة إلى كونه جامعا للتناقضات، فيخاطب عامة الناس في الوقت الذي يكون فيه نخبويا، ويعالج قضايا و يكون ملتزما في الوقت الذي يكون فيه مفرغا من المعاني و الدلالات .
لا يستقرّ الفن المعاصر على شيء معيّن يمكّننا من تحديد مفهومه و إيجاد تعريفات محدّدة له، ففي حين ينقلنا إلى النّشوة و المتعة النفسيّة و في حين آخر يصيبنا بالضجر            و الانزعاج، وبذلك فإنّه يفلت من التعريفات المحددة و للسائل أن يسأل عما يمكن أن يراه مستقبلا، فلا توجد حدود يمكن أن تحبس حركة الفنّان الذي يعلن عن حرّية تعبيره ولا يعطي للمتلقي أية مقاييس تساعده على فهم العمل الفني و فكّ شفراته ، و كلّ شيء يمكن أن يصبح فنّا،فانخرط الفن المعاصر في ثقافة ليست ببصريّة فحسب، وإنما تجمع مواقف فنية متعدّدة، ولم يعد بالإمكان تصنيف الفنان بحسب التصنيفات التّقليديّة ولا توجّهه الفني، و تخرج أعماله عن دائرة المعروف و المتداول. فيستعمل الأشياء التي نصادفها عرضاً، أو نستعملها في شؤون حياتنا اليومية، سواء في البيت أو الشارع، وهي عناصر مألوفة للمتلقي وتكون بسيطة، عادية، قريبة إليه، فيصبح العابر و الزائل و الهش و  ما لا قيمة له مادة فنية،    ويتخلى بذلك الفنّان عن الشغف بـالقيمة ويتبنى الشغف بـالحياة العادية و اليومية ويلغي المسافة بين الفن و الحياة. وتبدو أعمال هؤلاء الفنّانين كأنها مغرقة في التبسيط، غير أنها مغرقة في الذهنية والتجريد وذلك هو تعقيد البساطة، أو العلو بالبساطة إلى مرتبة التعقيد. 
مازال الفن المعاصر مستعصيا من ناحية فهمه مما يدفع المتلقي إلى رفضه و عدم تقبّله، و يعود ذلك في الكثير من الأحيان لعدم توفّر ثقافة تشكيليّة تخوّل له التّرحيب بهذا الزّائر و قبوله كفن معاصر ناتج عن تحوّلات العصر، فمن الوهلة الأولى يبدو الفن المعاصر صعب المراس لدرجة استحالة اختراقه بالنسبة لغير العارفين به بحيث لا يفهم المتلقي ما يراه و يشعر بالإقصاء من هذا العالم الغريب عنه وذلك ما يؤكّده "ايف ميشو"  Michaud  Yves بقوله :
"في تجربة الفن المعاصر، لم نعد في مواجهة أعمال ولكن نظل في حيرة و غاطسين في البحث عن العلاقات، بحيث نكون في التجربة الجماليّة و كأنّنا في بخار الحمّام، بدون تركيز على أشياء معيّنة أو خاضعين لبرنامج ما." 
يبحث الفنان المعاصر عن شدّ انتباه المتلقي و دعوته للمشاركة و أن يكون واعيا بفعل المشاركة لتطوير قدرته التّصوّريّة للأشياء بالتلمس و الشم و التذوق و تشغيل جل حواسه   و يسمح الفنان كذلك للمتلقي بتهشيم العمل الفني وتكسيره فتكون مشاركة ذهنيّة و جسديّة وهو ما ظهر في ممارسات فناني الهابينينق(Happening) ومثالا على ذلك عمل       "بيارو مانزوني"  Piero Manzoni  في سنة 1960 الذي دعا فيه المتلقين لتذوّق عمله الفني فقدّم لهم مجموعة من البيض واضعا عليها بصمة إصبعه، ولم تمض ساعة حتى ألتهم المشاركون نصيبا هاما منها ومثل هذا العمل ينطبق  عليه رأي "مارسال ديشون"     Marcel   Duchamp في ما يخصّ المتلقي ، حيث يرى أنّ وظيفته لا تقتصر على استهلاك العمل الفني فحسب و إنّما يجب أن يساهم في إنجازه. 

    و يمكن أن نذكر كذلك عمل "ياكوف آقام" الذي أنجزه سنة 1967 و الذي يجبر فيه المشاركين علي إثارة الضجيج   و التصفيق لينبعث الضوء في القاعة و كلما زادت حدّة الضجيج زاد توهج الضوء ، ومثل هذه الممارسات تدعو المتلقي إلى تغيير عاداته في تقبّل العمل الفني و تجعله مشاركا بذهنه  و جسده، وتقوده إلى التّمعّن و الاكتشاف و يرفض الفنان تفسير عمله حتى لا يفرض وجهة نظره و يسلّط تفكيره على المتلقي ، وهو ما تجلى منذ السبعينات من القرن المنقضي حيث أصبح المتلقي مشاركا و جزءا لا ينفصل عن العمل الفني ، وذلك باستفزازه و إثارة حواسه .   


لا تتعدّى الأعمال الفنية المعاصرة حدود التّجربة و التّجريب الدّائم وهو ما يحيلنا إلى انفلات الممارسة التّشكيليّة من القوانين المألوفة لتتنزّل في سياق المغامرة والانفتاح على كل ما هو ممكن وما كان غير ممكن في السّابق ، لدرجة أن هذا الانفلات يمكن أن يصل إلى درجة الدموية ، حيث ظهر فن الجسد وليدا للفن المفاهيمي ويختبر فيه الفنانون بطرق مختلفة حدود أجسادهم الخاصة، و يصل ذلك حتى إلى القيام بتجارب تلامس الألم أو الجنس أو كذلك تحريف الجسد، و يجعل بعض الفنانون من أجسادهم موضوع بحث، لدرجة الحرق    و تمزيق الجلد   و إحداث الثقوب وهو ما يدعونا للبحث عن سرّ هذه الممارسات  التي يكون فيها الجسد شاهدا و رهانا  في حد ذاته في مشهديّة يظهر فيها الفنان مدى تجلده  و صبره و يشرك الآخرين في آلامه . حيث يقول الفنان الحركي الفييني "قاندر بروس" Gunther Brus   :"جسدي هو القصد ،جسدي هو الحدث ، جسدي هو النتيجة"  فلم تعد الغاية من العمل الفني إنتاج  شيء      و إنما وضع  المتلقي  في  وضعية   تأمل    و تفكير و يعجز في بعض الأحيان عن تحمل هذه الأفعال مع مواصلة الفنان اختبار طاقات الجسد و تعبيره عن رفضه للواقع الظاهري لجسده    و يبحث عن كيفية تمظهر جديد له عبر التعنيف  و التمزيق  كالفنانة "أورلون" Orlan التي سعت إلى التشويه بشتى الأشكال بغية إقامة علاقة جديدة مع الجسد و خلق قواعد جمالية مغايرة للسّائد ، فطوّعت جسدها لخدمة رغباتها .
يبحث الفنّان المعاصر في كلّ حين عن آليات جديدة لغاية تخفيف الفن من المواد الثقيلة التي تقاوم الزّمن و من هذه الآليات يمكن أن نذكر بحث الفنّان عن المواد الخفيفة التي تزول بسرعة و تعلن زوال العمل الفنّي، و أحيانا يلجأ إلى تحطيم عمله بنفسه بحيث يفقد تواجده المادي ويبقى في ذهن الفنان و المتلقين ويمكن أن يتواجد في ذاكرة من لم يشهده ويكون ذلك عبر الأثر الذي يتركه سواء بتسجيل مكتوب أو صور فوتوغرافيّة أو فيلم أو فيديو و غير ذلك من وسائل التّوثيق ولذلك فإنّ "فولتون Fulton" يسمي هذا الأثر الذي يتركه العمل الفني "منحوتات ذهنيّة"  تعرض في الأروقة و المتاحف و تكتسي ولادة جديدة بحسب قراءات المتلقين.ويمكن أن نذكر كمثال على هذه الأعمال ما يقدّم في فن الأرض و في العروض القياسية والهابينينق happening.
لا يتواجد  العمل الفني الزائل إلا مرّة واحدة و يكون زواله إما إثر عامل طبيعي بحكم المادة المستعملة فيه و إما بفعل الفنان عبر تحطيمه لعمله و يكون ذلك في شكل فرجة يقدّمها للمتلقين و بذلك يكون فعل التحطيم عنصرا من عناصر العمل الفني بحيث يكون فعل التحطيم خيارا تشكيليا.
لا يمكننا ذكر الزائل دون التفكير في فكرة الموت التي لطالما خامرت الفنانين و كانت موضوعا لأعمالهم، وكان التعبير عنها مختلفا باختلاف توجّه الفنانين و خياراتهم التشكيلية فسعى بعضهم إلى قتل العمل الفني و أدوات التعبير ويمكن أن نذكر عمل الفنّان "جيلي Gilli" في سنة 1962 و الذي جمع فيه كامل أعماله و لوحاته وقام بحرقها حيث يقول في كتاب         " Connaître la sculpture de Claude Gilli " "في 31 ديسمبر 1962، وعلى الساعة الحادية عشر صباحا ولدت من جديد في نيس و كان عمري حينئذ أربعة و عشرين عاما ،حيث رافقتني زوجتي ووثّقت ما قمت به في صور فوتوغرافيّة،     و تمثّل عملي في جمع كلّ لوحاتي التي رسمتها حتى ذلك اليوم و قمت بحرقها، فلم أعد أحتمل مشاهدتها و لا تذكّر أنّي راسمها. عندما تحوّلت لوحاتي إلى رماد أحسست أنني إنسان آخر بحياة جديدة، عذراء، و نقيّة بلا ماض. 
    يمكن أن نذكر كذلك في نفس السّياق الفنانة "نيكي دي سانفال" Nikki de St Phalle  التي عملت في 1961 على تدمير  أعمالها  فتضع  على  اللوحة حاويات بلاستيكية ممتلئة بالدّهن و تطلق عليها النار بالبندقيّة و بذلك تكون الحركة القاتلة هي حركة باعثة لولادة عمل فنّي جديد حيث تقول في ما يخصّ هذا الفعل " أتصوّر اللّوحة وهي تنزف ، تصير جريحة كالإنسان، بالنّسبة لي فإن اللّوحة تصبح إنسانا له مشاعر و أحاسيس" 
يمكن أن نذكر كذلك في إطار هدم العمل الفني لغاية إعطاءه ولادة جديد، ما قام به الفنان "إيف كلاين" Yves Klein   حيث استعمل شعلة النار كفرشاة لرسم لوحاته فسمح مركز التجارب الغازية بفرنسا ل" كلاين " في سنة 1961 من استعمال شعلة النار المنبعثة بشدة   و تصل إلى أربعة أمتار لتنفيذ أعماله الفنية القائمة على الحرق ، حيث سجّل كلاين مرور النار على مسطحات من الورق المقوى وتكون في بعض الأحيان لينة و تترك أثرا خفيفا عليها و في بعض الأحيان قوية فتحدث ثقوبا على السّطح فتتراوح حركته على هذا الأساس بين الحركة البناءة و الحركة المدمّرة. 



من الفنانين الذين تعمّدوا تعنيف العمل الفني و تحطيمه كذلك يمكن أن نذكر "أرمون" Arman حيث أنّه يكسّر و يشقّ و يقصّ و يضرب في حركات يملؤها الغضب الهستيري فيستعمل الفأس أو كتلة صلبة لتهيم الأشياء ثم يقدّمها كعمل فني أو يلطّخ الأشياء بالدّهن      و يضربها على قماشة فتترك أثرا تشكيليا فيؤسس غضب "أرمون" فرجة حيّة ويظهر فيها الفنان و هو يحطم الأشياء بشكل عنيف  فيكون التحطيم و الهدم بالنسبة ل"أرمون" ولادة لعمل فني.


الحرق كخيار تشكيلي لدى البشير قرشان


يتمثّل ما سنقوم به في دراسة مقتضبة للمسار التشكيلي للفنان  البشير قرشان باشتغاله على الفن الزّائل وسنخصّ بالتحليل عمله "Elle  " و الذي تمثل في حرق لوحاته سنحاول تبيين الخيارات التشكيلية التي اتبعها في هذا العمل والتي من أهمّها تحطيم العمل الفني       و تدميره و تعنيفه عبر الحرق و جعله يحيى في ذهن المتلقي.
إنّ المتتبّع لتجربة البشير قرشان يلاحظ ميلا نحو الفن الزّائل و ذلك سواء من خلال استعمال مواد هشة كالتبن و الفلفل و غيرها من المواد التي لا تقاوم الزمن و تندثر بعد مدّة وجيزة و كذلك يلاحظ أنّه في بعض الأحيان يلجأ إلى تحطيم و تدمير العمل الفني عبر الحرق و هو ما يعني في السائد الخلاص النهائي منه فيصبح رمادا تنثره الرياح و للسائل أن يسأل عن سبب هذا التوجّه الذي اتّبعه و هل من غاية تشكيلية تستدعي الحرق؟



قام البشير قرشان في 2008 بتجميع أعماله في منطقة خالية و حرقها في إقصاء للمتلقي، وهو يقول في هذا الإطار أنّ كلّ أعماله زائلة وهو لا يترك أثرا لها و كلّها تمرّ بعمليّة الحرق بعد عرضها كما أنّه قام في فيفري 2010 بتجميع لوحاته في ساحة المعهد العالي للموضة بالمنستير و أضرم فيها النّار، و كان ذلك في شكل عرض قياسي بحضور المتلقين.



مثل هذه الممارسات لم يتعوّد المتلقي المحلي  على  تتبّعها  فتصطدم  مع  أفق  انتظاره 
الذي اقتصر على المفاهيم التقليديّة للفن و المرتبطة بقواعد جماليّة محدّدة، فتعمد هذه الممارسات إلى التعارض مع هذا الأفق و تحطيمه، ليخرج المتلقي بأفق انتظار مغاير بعد أن تصيبه الدّهشة والحيرة النّاتجين عن عدم الفهم و عسرا في التّقبل، و بالرّغم من أنّها تبدو في غاية البساطة فإنّها تكتنز العديد من المفاهيم وناتجة عن بحث عميق في ممارسات الفن المعاصر و يترجم ذلك عبر تجاربهم.
فعندما أقدم البشير قرشان على حرق أعماله أمام الحضور فقد رسم واقعا على اللّوحة و حدّد مصيرها، فالمتداول في الفن هو جعل العمل الفني يصارع الزّمن إمّا عبر تمثيل الواقع و جعل الزمن متواصلا في اللّوحة أو عبر إيقاف الزّمن الضمني في اللوحة و جعلها شاهدة على حدث ولكن البشير قرشان بفعله خضع لمشيئة الزّمن و سايره و تحرّر من عقدة الفناء وصار يحدّد مصير عمله، فيدفع أعماله للموت الذي هو قدرها و أن طال أمدها         و صار فناء أعماله قدرا معلوما بالنسبة له، وكأنّه يقتل ليعيش ، فيصير العمل الفني عنصرا في حياة الفنان فيتحرّر منه  ويقتله ليكتسب ولادة جديدة دون ماض ليعيد البناء من جديد، وبذلك فإنّ الفن يكتسب أحقية تواجده في حياته وواقعا معيشيا و يبني الفنان علاقة حميميّة مع أعماله، فيحييها و يميتها في لقاء مباشر مع المتلقي الذي يشهد موت العمل الفني وولادة جديدة للفنان.
يسجّل حرق البشير قرشان لأعماله جرأة و خرقا لما اعتاد عليه المتلقي و بذلك فقد تحمّل مسؤوليّة عدم فهمه و تمادى في صدم المتلقي ليكسب العرض طابعه الفرجوي بما يتضمّنه من إدهاش المتلقي و إثارة حواسه و مشاركته الذّهنيّة و حتى الجسديّة في عمليّة الحرق التي تترك حسرة واستياء في نفسيّته و تمثّل استفزازا له من حيث معارضتها لمكتسبه وفي هذا الإطار تقول جينا بان التي تستفز المتلقي بتشويه جسدها أنّ الوظيفة الأولى للفنّان هي إزعاج المشاهد و دفعه للتساؤل عمّا هو مكتسب.



لقد قام البشير قرشان بحرق أعماله و لكن ذلك لم يحصل قبل طبعها في ذاكرة المتلقي الذي شهد على موتها و ترك أثرا متفاوتا بينهم، و بذلك فإن العمل بقي حيّا في ذاكرتهم، فقد اضمحلّ العصر الذّهبي للّوحة ونزلت من علياءها تتمرّغ في التّراب و تحرق و تصبح النار الوسيط الجديد الذي يأخذ محلّ الوسائط التشكيليّة التّقليديّة، فيتغلّب اللّهب على القماشة        و الإطار والدّهن، مما يفرض تعاملا جديدا مع العمل الفني خلافا للمتداول المتمثّل في الوقوف أمامه و قضاء وقت في النّظر إليه و التّمعّن في تفاصيله ، و يتمثّل هذا التعامل الجديد في اللقاء الحي مع العمل الفني و الفنان في حد ذاته و يساهم كلّ من الفنان و المتلقي في إنشاءه أو قتله فالفنان المعاصر لا يبحث عن كيفية إنهاء عمله فقد يترك هذه المهمة للمتلقي و حتى و إن حرقه فذلك لا يعني موته المؤكّد، فالرماد يمكن أن يكون ولادة جديدة.
شكّل الأداء الجسدي للبشير قرشان مرتكزا جوهريّا من مرتكزات الاتصال الحي مع المتلقين ،مما من شأنه أن يدمج وعيه فتنبع صلة تفاعل و يكتمل للعرض طابعه الفرجوي.فكان الفنان صانع الحدث بحرقه لأعماله وتحرّكه وانتقاله لجلب أعماله و صبّه للبنزين فوقها و إضرامه للنار، و كلما تآكلت أطر اللّوحات أحدثت صوتا ورائحة ووهجا يبعث حرارة في الفضاء مما مكّن من ارتباط وثيق بالواقع و بالحقيقة فيعيش المتلقي عرضا حيّا في زمن حقيقي يمكّنه من متابعة احتضار العمل و الوقوف على جثمانه، وذلك لا يخلو من ردود فعل تتراوح بين الدّهشة و الاستياء و التّساؤل  ليصل الفرجوي إلى ذروته مع الفرجة الجماعيّة التلقائيّة حيث يرى "قي ديمور" Guy Dumur أنّ الفرجوي يمكن أن ينتج على الضّغط  المشترك  للمتفرّجين  الذي  يزيد  من  الإثارة  في  الحدث   الذي  يشاهدونه  و يستمعون إليه . غير أنّ المتلقين الذين حضروا عرض البشير قرشان لا ينحصر دورهم على الاستماع فحسب و إنّما  اشتمل على شمّ رائحة الدّخان المتصاعد و مداعبة النّار لجلودهم و الشّعور بالحرارة المرتفعة مما يجعله عرضا تتفاعل فيه الحواس و قادرا على ترك أثر في ذاكرة المتلقي، فعنصر التّشويق الذي حملته عمليّة الحرق يمكّن من تفعيل القدرات الذهنيّة للمتلقي ومن مخاطبة حواسه ويمكّن من توسيع مخيّلته و ينقله من المحيط الضيق إلى المحيط الواسع و يكسبه أكثر مهارة و نشاطا في الكشف و التّحليل. 










تعليقات

  1. الكثير منقول من مجلة بلادي العراقية : مقال الهدم البنّاء ومفهوم الزائل في الفن المعاصر. مقال صادر منذ سنة 2010 فإن لم تستحي ففعل ما تشاء.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي