رسالة مفتوحة إلى الرَّئيس الأميركي باراك أوباما: شَيخُوخة "حصَان طروَادة" / أحمد دلباني
رسالة مفتوحة إلى الرَّئيس الأميركي باراك أوباما:
شَيخُوخة "حصَان طروَادة"
أحمد دلباني تصوير بوكرش
1
سيادة الرَّئيس،
أتوجَّهُ إليكم، باعتباري مُثقفا عربيا، رجاءَ تأكيد الآدمية المُشتركة بيننا، ومدّ الجُسور التي نُسِفت طيلة عُقودٍ من الصّراع ومن ضياع الأبجدية الواحدة من كلامنا. أتوجهُ إليكم وأنتم تقرعونَ طبول الحرب كعادتكم وتُجيّشون الرأي العام، دوليا وداخليا، من أجل تبرير التدخل العسكريّ في سوريا. كأنَّ الحرب هي الجوابُ الوحيد دائما عن نزق العالم المارق والآبق عن وصاياكم ونظرتكم إلى الأمور. كأنكم لا تحتملون أبدًا نشاز الأصوات التي تُذكركم بتعدّد العالم واستعصائه على التطويع والتدجين. يبدُو أنكم تُريدون، فعلا، عالما تسودهُ هارمونيا صوتٍ واحدٍ تُخفي وراءها أمما مقطوعة الألسُن والأيدي. كأنكم تعتقدون أن لا وجهَ للعالمية إلا الأمركة، وأنَّ كونية القيم التي تقترحُونها على البشر لا يُمكنُ أن تنتصرَ إلا بالغلبة. كأنكم لم تعرفوا جون لوك أو فلسفة الأنوار وأنتم تُدبِّجون وثائق ميلاد الأمة الأميركية وإنما أشربتم وصايا مكيافيللي الخبير بالذئب في البشريّ.
أتحدَّثُ إليكم، سيادة الرَّئيس، أنا المُثقف العربي الذي يزعمُ تحدّرهُ من أرُومة الفكر النقديّ وسلالة الذين انحازوا إلى الإنسان والحقيقة والحرية والعدالة بمعزل عن أنظمة الاستبداد الفكري، وبعيدًا عن التراث الذي ظل يعتقلُ السؤال وحقَّ العقل في المغامرة، أو يبتهجُ برمي عذارى الأفكار في نهر الموت كي تحلّ البركة على المدينة. أتحدَّثُ إليكم وأزعمُ أنَّ لنا لغة مُشتركة صهرتها تجاربُ تاريخية واعدة ألقت بظلالها على حياتكم ولازمها نوعٌ من التعثر عند أمتي العربية / الإسلامية. أتحدَّثُ إليكم مُتذكّرًا، باحترام كبير، كيف كنتم تصنعُونَ نموذجكم التاريخيَّ الفريد وأنتم تُؤسِّسون مشروعَ أمتكم الواثق على قيم الحرية الفرديَّة والشراكة واحترام الحياة الإنسانية. أتحدَّثُ باحترام عن قيمكم التي أطلقت المُغامرة من عُقالها وحرَّرت الحلمَ من المُستحيل. هذا النموذج الأميركي - الذي شكل دارَ هجرةٍ للعقل والروح والصَّبوات الأكثر جُموحا - ظل يسحرُ العالمَ ويُذكّرهُ بشباب الروح الذي خمدت جذوته في أصقاع كثيرة من العالم. لا ريبَ في أنَّ ذلك كان فتحا ميَّز أمَّتكم وصنع مجدها. أقول هذا، سيادة الرَّئيس، رغم أنَّ لنا تحفظا لا يُمكننا أن نخفيه. فقد كان تاريخكم، أيضا، مُحاولات دائمة في صنع التاريخ بالقوة ومحو الآخر المُختلف. ونحنُ نعرفُ أنَّ هذا الأمر تمَّ، بداية العصُور الحديثة، باسم مسؤولية "الرَّجل الأبيض" الذي تحمَّل أعباء إخراج الآخر "من الظلمات إلى النور" بواسطة الإبادة الجماعية والاقتلاع الثقافي. إلا أننا نتذكر بإعزاز، أيضا، كيف ورثتم نضالات كثيرة قاومت الاستعباد والتمييز العنصريّ؛ ونثمِّنُ عاليا التقدمَ الأخلاقي للشعب الأمريكي الذي انتخبكم رئيسا للولايات المُتحدة الأمريكية مُتجاوزا، بذلك، تاريخا كاملا من الظلم واللامُساواة والعنصرية.
لا أحدَ يُنكرُ أهمية القيم الأمريكية وفلسفتها التاريخية القائمة على الليبرالية في معانيها الواسعة التي تمنحُ الفردَ فرصة الازدهار الشخصي والبحث عن السعادة بعيدًا عن النمذجة التي عانت منا مُجتمعاتٌ تقليدية كثيرة. لا أحدَ يُنكر فلسفتكم العملية التي أخضعت العقل والحقيقة لمُبادرات السيطرة على الواقع والانتفاع الخاص والعام. لا أحدَ يُنكرُ روحَ الابتكار التي تنهلُ من تاريخكم غير المُثقل بالكوابح منذ غامرتم في عذرية العالم المُكتشَف وجعلتم الحرية ينبوعا لإعادة ابتكار الحياة. هذه هي الروح الأمريكية بامتياز. وهذا، تحديدًا، ما يجعلنا، سيادة الرَّئيس، ندعوكم إلى الوفاء لقيمكم التي كانت، بالفعل، من أوجه العصور الحديثة الأكثر نصاعة وتأثيرًا في العالم. ندعوكم إلى الوفاء لروح فلسفة الأنوار التي شكلت مهدًا أتاح لأمتكم أن تُعلنَ عن توثبها الباهر وأن تُسعفَ التاريخ بإكسير الشباب وحركية العمل وفتنة الحلم بالنجاح.
2
إنني أنتمي، سيادة الرَّئيس، إلى العالم العربيّ الذي أريدُ الحديثَ باسمه الآن. هذا العالمُ ظل ضحيَّة للعالم الحديث وزلزال المعنى الذي هجر سماءَ اللاهوت ودشَّن مملكة الناسوت التي تربَّع على عرشها الغربُ التاريخيّ وهو يُحيلُ الآلهة على التقاعُد ويفتتحُ أقاليم المعرفة التي تلبسُ تاج القوة. لقد ظل العربُ بمنأى عن التحولات الكبرى في عالم المعرفة والقيم، وركنوا إلى ذاكرتهم البعيدة يستجيرُون من قرّ الأزمنة الحديثة بنار الأصول في شكلها الدينيّ / السكولاستيكي. كأنهم لم يعرفوا طبا ولا هندسة ولا رياضة. كأنهم لم يُؤثّثوا عالمَهم بجمُوح الروح والعَيْن شعرًا وعمارة ومعراجا إلى جمال أعلى يومئُ من خلال صخرة الوجود. كأنهم لم يُحاوروا الآخرَ برحابة عقل ولم يكونوا جسرًا يجمعُ أوصال البحر المُتوسِّط بفضائل الترجمة والتسامح. هذا العالمُ الذي أنتمي إليه لم يتمكَّن من أسباب الحداثة ولم يُدخِلها في نسيجه الثقافي والاجتماعي. لم نستطع، أيضا، بناءَ الدولة المدنيَّة الحديثة أو اجتراح آفاق الدمقرطة وفضاءات المُواطنة والعدالة بمفاهيمها الحديثة. كانت الحداثة عندنا – وما زالت - تحديثا شكليا وحلولا مُستعارة لمُشكلات ظلت تتطلبُ إعادة نظر جذرية. كان تحديثنا آلة لا عقلا. هذا ما يُفسِّرُ نكوصنا الدَّائم وتراجعنا على كل المُستويات. وقد أسهم غنانا المادي وكوننا مركزا لمصادر الطاقة في العالم في جعلنا قلبَ اهتمام الأمبريالية العالمية وصراع القوى المُختلفة. لقد أصبحنا مجالا حيويا للغرب الظافر تاريخيا وللولايات المُتحدة بالأخص. أصبحنا سوقا وبلدانَ استهلاك واستثمار تُغري أذرُعَ أخطبوط الهيمنة الرأسمالية التي تتزعمونها. هذا ما يجعلنا، سيادة الرَّئيس، نرى في سلوك الغرب الرَّسميّ معنا براغماتية ضيقة كان بإمكانها أن تكونَ أكثر إنصافا واحتراما للإنسان العربيّ الذي ظل يترنَّحُ بين القُطبين: رجعية الأنظمة التي تحكمه واستبدادها، وجشع الغرب الباحث عن الرِّبح والثروة والقوة. كان الحاكمُ التقليديّ بأمر الله يتناسل في تاريخنا الحديث، وظللنا نرزحُ تحت إخفاقنا التاريخيّ وعَجْزنا عن مُحاورة البُرهة الحديثة من جهة، ونشهدُ مُصالحتكم مع نظامنا السياسيّ المُستبد والرَّجعي رجاءَ ضمان المصلحة من جهة أخرى. فأين هي كونية التنوير التي ظلت تُشكل خلفية مرجعية لتاريخكم وقيمكم؟ أين هي أمام أنانية المُنتصر وعقلية المُستثمِر؟ أين هي قِيمُكم الإنسانية الكونية التي سقطت كسيحة تحت أقدام شايلوك؟
أنا شخصيا لا أقول، سيادة الرَّئيس، إنَّ الاستعمارَ الغربيّ هو سببُ تخلفنا الدَّائم. لا. لقد بدأ تدهورُنا التاريخيّ والحضاريّ قبل الاستعمار الحديث بقرون كما هو معروف. بدأ منذ هجرنا الأنسنة الناشئة وعنفوانَ العقل المُنفتح على المعرفة في أشكالها الفلسفية والعلمية والنقدية. بدأ منذ انكفأنا – لأسباب موضوعية كثيرة – على الذات المُنهَكة من مُطاردة المعنى في عالم انكمش أمامها وتفتت وعرَاهُ الذبول. هذا ما يُفسِّرُ سطوة تاريخنا الباطني الذي طفقَ ينتجُ ذاته ويُعيدُ إنتاجها عبر زمننا السوسيو - ثقافيّ الرَّاكد. وقد كان لحضور الغرب بيننا أن عزّز انكماشنا على ذواتنا حفاظا على الهوية المُهدَّدة. أشيرُ إلى هذا لأنبِّه إلى أنَّ الأنظمة السياسية العربية الرَّجعية التي تشكل محورَ تحالفٍ معكم في منطقتنا العربية لا تحترمُ الحدَّ الأدنى من حقوق الإنسان كما بشَّرتم بها، ولا تعمل من أجل تنمية بشرية فعلية تُخرجُ الإنسانَ العربيَّ من مناخ العصور الوسطى سياسيا وقانونيا وفكريا. تعرفون هذا جيِّدًا، سيادة الرَّئيس، ومع ذلك تفضلون بقاءَ الإنسان العربي رهينة تاريخ / مومياء لا يُرادُ له أن ينتهي. تعرفونَ مكانة الإنسان العربي المسحوق والمُدجَّن والمُكبل في أنظمة صديقة لكم في منطقتنا العربية. فكيف لنا أن نثقَ بمشروعكم الديمقراطي في الشرق الأوسط ونحنُ نرى تحالفاتِكم المُريبة مع أنظمة التخلف والرجعية مُقابل فتح الأسواق والاستثمار وضمان أمن إسرائيل لا غير؟ كيفَ نفهمُ وقوفكم إلى جانب عصابات القتل التي تستثمرُ في الدين السياسيّ من أجل إبقائنا في دوَّامة التفتت والتمزق وتبرير التدخل في الشأن العربي؟ ماذا فعلتم يا أصحابَ القيم النبيلة للإنسان العربيِّ وأنتم تُهندسون لتبعيته الدائمة، سياسيا واقتصاديا، بتعزيز كل ما يُوهنُ انطلاقته ويكبحُ حِراكه؟ كيف لنا أن نثقَ بحسِّكم الأخلاقي تجاه أطفال سوريا وقتلاها الأبرياء في حربٍ قذرة تُديرها المصالح الإقليمية ومحاورُ النزاع التي لا يهُمّها – على الإطلاق – الشعب السّوري ولا الوطن السوري؟
إنني لا أدافعُ أبدًا، سيادة الرَّئيس، عن الاستبداد العربي. لا أدافع عن الديكتاتورية وأنظمة الحزب الواحد والفساد. لا أدافعُ عن أنظمة سحقت الإنسانَ العربيَّ ووأدت تطلعاته المشروعة إلى الحرية والعدالة والكرامة منذ عقود باسم إيديولوجيات مُدمّرة ونزوع سياسي بطريركي. وأعتقدُ أنَّ النظامُ السوريّ لا يشذ عن هذا بكل تأكيد. ولكنني بالمقابل لا أثقُ بمشرُوعِكم التدميري الذي يستخدمُ ما غابَ عن ذهن ميكيافللي نفسِه من أساليب – آخرُها الكذب – من أجل تمزيق العالم العربيّ إلى طوائف يقتل بعضها بعضا، ومن أجل إعادة ترتيب خارطة الشرق الأوسط السياسية بتغييب الإنسان العربيِّ عن حقه في صُنع مصيره وإجهاض أحلام الأنتلجنسيا العربية وتوقها إلى الحرية والديمقراطية. لا أثقُ بمشرُوعكم وأنتم تعقِدون أحلافا مع بلدان عربية تقطعُ الرؤوسَ في الساحات العامة وتجلدُ المفكر النقدي الليبرالي وتمنعُ المرأة من قيادة السيارة وتحرمُ شعوبَها من دساتيرَ تُعرّفها بحقوقها الآدمية. لا أثقُ بمُبرِّراتٍ تسوقونها، كذبا وبُهتانا، من أجل تأديب سوريا وترويضها. تلك حكاية قديمة مُبتذلة. لا أثقُ بمشرُوعكم وأنتم تجعلون أمنَ إسرائيل فوق العدالة وفوق قرارات الأمم المتحدة القاضية بانسحابها من الأرض العربية الفلسطينية التي استعادها الإله يهوه بالحديد والنار بمُباركة منكم. لا أثقُ بأيّ خطابٍ يستندُ إلى أساطيركم المُؤسِّسة من أجل خنق التاريخ والحقيقة وتنصيب إله قبيلتكم على عرش تدبير سياسة العالم. لقد وقفتم إلى جانب الآلهة والأسطورة ولم تكونوا إلى جانب الإنسان العربيّ الفلسطينيّ صاحب الحق. أهذه هي القيمُ الأمريكية وريثة عصر الأنوار ونظريات "الحقوق الطبيعية" و"العقد الاجتماعي" التي كانت في أساس إعادة ترتيب الشأن السياسي على قاعدة من مركزية الإنسان ومصلحته في عالم انسحب منه الآلهة؟
3
سيادة الرَّئيس،
ما زلتم لم تحظوا، بعدُ، بامتياز تاريخيّ يجعلُ من نظامكم "نهاية التاريخ" كما حدس بذلك مُوظفوكم من أنبياء العولمة. لم نعُد نُصدِّقُ أنَّ مفاتيحَ الجنة بين أيديكم. و الإلدورادو كفَّ عن أن يكونَ أمريكيا. إننا نعتقدُ أنَّ الخلاص هجرَ الليبرالية الأميركية التي تحولت - منذ عقودٍ - إلى آلة هيمنة وسيطرة على حساب العدالة والكرامة البشرية؛ وعلى حساب الحُلم بعالم مُتآلفٍ في تعدّده. لقد هجرَ الخلاصُ فلسفتكم التي ظلت تُقنّعُ سحقَ الإنسان، فردًا وجماعة، من أجل خدمة الآلة والسوق وكهنة معبد وول ستريت. ولتذهب الشعوبُ وأحلامها إلى الجحيم. وليذهب الإنسانُ الأمريكي نفسُه إلى غياهب المحو تحت سنابك الآلة. لن يجدَ أحدٌ له مكانا في مملكة الأرقام وأبجدية السوق الكونية. أهذه هي "نهاية التاريخ"؟
كل نهاية خلاصٌ. كل نهاية نسفٌ للتناقضات ودخولٌ في تآلفٍ أعظم بين الأطراف، وأنتم لا تملكون خلاص البشرية. يكفي ما تُعانون منه الآن من أزماتٍ تعملون على تسويقها والاستثمار فيها. يكفي أن نرى جنونكم وعنجهيَّتكم ولهاثكم وراء المصلحة في حربٍ مُستترة تُستخدمُ فيها كل الوسائل الدنيئة. لم يعُد بإمكانكم أن تسحرُوا العالمَ بقيم عظيمةٍ تمَّ تجفيفُ أوصالها على أيديكم. لم تعُد لكم تلك الحظوة الأخلاقية التي ميَّزتكم عن العالم الأمبراطوري العجوز وهو يعيشُ أيامهُ الأخيرة كطائر مُتثاقل الأجنحة على أعتاب العصر الحالي. إننا نُهيبُ بكم، سيادة الرَّئيس، أن تُنقذوا وجاهة أمريكا ورمزيتَها في العالم. لا نُحبّ شحوبَ الرموز في عالم فقدَ الوجهة والهدف.
كيف ترضون، سيادة الرَّئيس، أن تكونوا على رأس إدارة سياسية تعتبرُ كل من يختلفُ معها مارقا أو عدوّا؟ كيف ترضون أن تكونوا مُمثلين عن سياسة تختزلُ العالمَ في الذات وتجعلُ من مركزيتها معيارًا لكل شيء؟ كيف تستطيعون أن تُقنعوا العالمَ بمرجعيتكم المعصومة في كل شيءٍ بعيدًا عن فضائل الحوار والتفهّم وتواضع من يعتقدُ بالشراكة الإنسانية في البحث عن أساس للقيم الكونية انطلاقا من تجارب البشر عبر التاريخ؟ كيفَ السبيلُ إلى إقناعكم بنسبية نموذجكم في السياسة والاقتصاد؟ في الفكر والثقافة؟ في القيم ونمط الحياة؟ أزماتكم البنيوية الشاملة هي الجواب. أنتم نموذجٌ يتآكل. ويقيني أنَّ التاريخَ لا ينتصرُ على شيءٍ قدر انتصاره الدَّائم على المُطلق. وها هو يقرعُ أبوابكم منذ مُدَّة ليُذكّركم بحلول موعدِ نهاية الصلاحية. تتسرَّبُ النسبية إلى قلعة الحقيقة انطلاقا من التجربة التاريخية وعلاقة الذات بالآخر الذي يكشفُ عن حدُودها. فأين وعودُ خطاباتكم ذات النزعة الإنسانية في علاقاتكم بالآخر وأنتم تُخضعونه وتستغلونهُ وتستتبعونهُ وتُشعلون الحرائقَ في بيته؟ إلى متى يظل كل من لا يتفقُ معكم – ولو كان على حق – يشعُرُ عمقيا أنه هيروشيما مُؤجلة؟ إلى متى تبقى القوة المُمكنَ الوحيد الذي يصنعُ الحقَّ والعدل؟ إلى متى يبقى العقلُ عاجزا عن ابتكار طرق أخرى للعدالة تُحرِّرها من ميراث حضارة فاوست التي باعت نفسها لشيطان المعرفة لقاءَ الهيمنة على العالم بلا حدود؟
4
سيادة الرَّئيس،
ستذهبون إلى الحرب. أو على الأقل ستختلقون لها الأسباب كما عوَّدتمونا. نعلمُ ذلك. فالقرارُ ليس بيدكم. إنهُ حاجة الأمبراطورية إلى الهواء الذي كان في أساس نشأتها. إنه حاجة كاليغولا الدَّائمة إلى خمرة الجنون تأكيدًا لقدرة رماد عالمكم على تحرير طائر نار القوة الذي يسكنه. لقد اعتقدنا، سيادة الرَّئيس، مع العالم كله أنكم قد تُعيدونَ النظرَ في سياسة الهيمنة والحرب والهرولة وراء المصلحة الضيقة انطلاقا من إرثكم التاريخيّ والعرقي؛ وانطلاقا من ذكرى العذابات الطويلة التي تحملونَ نُدوبَها في قلوبكم وأجسامكم. ولكننا اكتشفنا، بكل أسفٍ، أنَّكم لم تكونوا، ربَّما، إلا ريشة الحمامة البيضاء التي تُزيّنُ خوذة المُحارب القديم. فلا شيءَ يعلو على مصلحة الأمبراطورية وهيمنتها على المجال الحيوي الذي يضمنُ خضوعَ القرار السياسيّ وتأمين السوق: هذه هي القاعدة.
ستذهبون إلى الحرب، سيادة الرئيس. نعلمُ ذلك. ستنتصرُون، كالعادة، على جيفرسون ولنكولن ومارتن لوثر كينغ. ستنتصرُون على وولت ويتمان وتشومسكي وبوب ديلان. ستنتصرُ الحربُ على الحب. نعلمُ ذلك. ربما هي حماقة التاريخ التي ورثت مكرَهُ حدَّ الثمالة. ربما هي التراجيديا الأسوأ في التاريخ وقد سكر من غياب الآلهة الفادح تحت السَّماء اليتيمة. سينتصرُ ترومان ونيكسُون وكيسنجر وتاجرُ الأسلحة. سينتصرُ "الولد الصغير" الرَّهيبُ على حرية خرساء سكنت التماثيل. سينتصرُ البيتُ الأبيض على باراك أوباما نفسه. وفوق ذلك ستنتصرُون على الشعب الأمريكي الطيّب المُناهض للحرب. وستسألون دائما بعد أن تستعدُوا عليكم العالمَ المقهور: لماذا يكرهوننا؟
ستظل الحربُ كما كانت دوما، سيادة الرَّئيس، وسيلتكم المُثلى في تطهير العالم من "الشر" الذي يتربَّصُ بجزيرتكم الطاهرة وسط عالم "البرابرة". ستظل الحربُ هديتكم للعالم الذي تعتقدون أنه في حاجة حارقة إلى حرية يقفُ تمثالها على الدَّمار والجماجم. ليكن. وستنتصرُ روايتكم عندما تكتبُون نهاية تاريخ العالم السفليّ وهو يخرجُ ملاكا مُنتصرًا من وحل الزمنية وجلبة البشر الذين ورثوا خطيئة الاختلاف عنكم. ستستعيدُونَ أيامَ نرجس الذهبية أمام البحيرة مُتمليا في وجهه بعيدًا عن الوحوش التي امتلأ بها العالم. ليكن. أنتم مؤمنون مُتشدّدون ولا بُدَّ للعالم من إلهٍ يحكمُه. واللعنة على فوضى التعدد. لا مكان للهنديّ الأحمر بعد اليوم.
ولكن: لماذا تُريدونَ أن تبقى طروادة العربية مُهدَّدة أبديا؟ لماذا تُريدونها أمَة مملوكة تُستباحُ على فراش الآلهة والطغاة ولا تمنحُ العقل والحرية حقَّ المُواطنة؟ لماذا تُريدونها يدًا ممدودة دوما لاستقبال هداياكم المسمُومة؟ لقد أصابَ الهرمُ، سيادة الرَّئيس، "حصان طروادة" ولم يعُد هدية مغرية لقلاعنا الظمأى إلى الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية. لقد سئمنا من ابتذال الحكاية المكرورة. سئمنا من شحُوب وجهِ الملحمة العتيقة على أيديكم. وربما لا يُضاهيكم إلا سيزيف في سعادته باستئناف أكثر المهام رتابة وخُلوّا من جلال المعارك التي لم تعدِمْ، في الماضي البعيد، بحثا عن البطولة والتَّأله أمام عائلة السماء المُقدَّسة. لم يعُد للكذب معكم مذاقُ الحيلة التي تمنحُ حبكة القصة نهاية مشهدية. لقد شاخ "حصان طروادة" سيادة الرَّئيس.
رجاءً، احترموا ذكاءَنا.
تحياتي.
--------------
أحمد دلباني
الجزائر – 11 أيلول (سبتمبر) 2013
ابتهال فلسفي بمذاق الفعل الروائي والشعر النثري حيث التارجح بين الرجاء المسرول بعتاب التعرية للمخاطب مع البوح الغير الملزم للذات المجروحة امام باب الخصم والحكم
ردحذف