الوعي المؤجل.. المتحف المؤجل / الفنان التشكيلي العراقي والناقد علي النجار
الوعي المؤجل.. المتحف المؤجل/ علي النجار
من ينتطرنا, نحن الفنانون التشكيليون العراقيون, في بلدنا الأم العراق. من ينتطر أن نصل أو تصل أعمالنا الى بغداد وغيرها من مدن العراق. وهل هناك من يقدرنا أو من يقدر أعمالنا. أم لا يزال خطاب الداخل ـ خارج سائدا, وهو خطاب رث على المستوى الثقافي, ما عدى المستويات الأخرى. من ينتظر من. بعد كل سنين الغربة الموسومة بعودة مؤجلة. وهل يبقى السؤال عالقا, وهناك من ينتظر اجابته منذ اربعين عاما(من بقي منهم على قيد الحياة). وهناك من ينتظر ثلاثين, وغيرهم عشرين, وعشرة. لقد عم مفهوم عقود الأجيال(الذي ساد الوسط الثقافي), وصار له نظير من اجيال مغتربة. وان بقي الجدل على صحة هذا المفهوم, لا يزال كما هو, ولم يحسم بعد.
خويت المتاحف وقاعات العرض من كنوزها العامة التي كنا نفتخر بها. وتسيد المشهد سلوكيات العوام و مذاهب العامة المسترجعة من أزمنة الانحطاط. فقدنا الأثر, لصالح محو الأثر الذي استبدل بشبح لأثر آخر لا يغني الذات ولا يشبع الطموح الثقافي الفني المستقبلي. فهل يغني المسخ ما هد من اصل. وهل ذهبت كل اجتهادات محاولات الأجيال لتأثيث الذائقة الفنية, من نتاجات ونتائج مبدعيها, اوائلهم وأتباعهم, هباء. وهل عدنا ننبش من جديد هذا الهباء, بحثا عن ثلمة او ثغرة توصلنا لمشارف الوطن. ام نكتفي لما نؤثثه لانفسنا افرادا نستوطن بلدان العالم التي فتحت لنا ابوابها وفضائاتها. وليكن لكل منا متحفه الذي يلتحف به.
لأزمنة اليأس علاماتها. منها الجهل والتجهيل, والطرش والغي, والانكفاء على ماض انقضى أوانه والحانه. والاستعاضة بالنبش في الرفات لاكتشاف ما يرهب, لا ما يحبب. فلا جسد موهوب, ولا أمل مرغوب, ولا من هو محبوب. وليس سوى التنافر سائد وحالل في النفوس. فكيف بالفن علامة للروح والجسد. وكيف لنا ايقاض الحس ومتعة النفس واستبصار العقل, بما يفتح لنا سبل الانعتاق الى فضاءات أجمل وأرحب وأحبب. هكذا هو حال من يسوسنا, الذي من المفترض به ان يخطط لأستعادة احلامنا بالعيش الكريم الذي يحترم الانسان وفضائات ابداعه كلها. لا بالأسود ولا بالرايات الملونة والمزركشة خربشات تعاويذ اسقطتها أزمنتنا الحضارية منذ قرون. فهل نحن منذورون للغيب, أم نحن مغيبون, وهل سوف نبقى هكذا ما دمتم عرابونا بامتياز وامتيازاتكم لا يحدها حد.
لم يكن في حسبان جواد سليم ولا فائق حسن ولا زملائهم الاولين(وهم وثائق فننا التشكيلي الحديث الاولى والاهم), ولا تلامذتهم اللاحقون أن تتبخر آو تتبعثر أعمالهم. وإلا لكانوا حفظوها في خزائن خارج بلدهم. لقد كنا مغفلين حينما اودعنا نتاجنا الفني مركز الفنون وغيره. لم نكن نستشعر الكارثة. ان يمحى تاريخنا الفني التشكيلي عند دخول أول دبابة أمريكية بغداد, أن يتبخر ارث فني كان العلامة الفنية العربية الأولى, بوزنه وحجمه. أن يتسلط السماسرة والهمج من عرابي السياسة الجديدة على ارث لم يكونوا يقدروه قدره الحق. وان يستمروا على نهجهم هذا متسلحين بلصوص ونصوص رثة. وهل ندرت بنايات لوزارة كالثقافة, الا ان تحتل متحف منهوب. الا بأس بهكذا ثقافة مؤسساتية تيتم عطائها قبل مولده. فهل هو تشريع منظم للنهب والسلب.
الفن قبل ان يكون ارثا, هو ذوق, وثقافة متأصلة ومستقبلية. هو جذوة انسانية الأنسان. هو الندرة النادرة من مخلفات العصور. حتى نازية هتلر لم تنل من مقتنيات متاحف الدول التي دمرت عساكره بنيتها وابادت بعض شعوبها. فأي فعل هو ذك الذي تعدى نازية هتلر, وأي عصر عراقي هو عصرنا. من الذي نهب, من الذي سلب ارثنا. مضت أعوام عشر, وربما تتبعها أعوام اخرى, وربما تطمس خيوط المؤامرة. ويمحى تاريخها, الذي هو تاريخنا, نحن الفنانون التشكيليون العراقيون, الذين لا نزال خارج أسوار وطننا الأم ننتظر فرجا. وأي فرج بعد أن افقدونا عصارة جهد اذهاننا وارواحنا.
هل نبدأ من جديد. وأي جدة تنقذنا. وانا اشاهد رسومات أقل ما يقال عنها, انها مبتذلة, تؤثث مكاتب مسؤلي السلطة من اكبرهم الى ما دون. خلطة, من المعيب ان تسمى فن. هي موصاة وحسب الطلب. قليل من أدلجة دينية ومشاهد ريفية وفولكلورية, ترضي الذوق الذي لم يجرب ذوقا غيرها. وا حسرتي وأنا أشاهد هنا, في دول الغرب, فضاءات لمدارس ومستشفيات ودوائر حكومية مختلفة, تعمر جدرانها بأعمال فنية اصلية. بملصقات لعروض فنية معاصرة, بتماثيل وأعمال تركيبية نادرة. فهل تحولت هذه الفضاءات الى متاحف مصغرة. وهل تحولنا الى خان من بقايا الزمن العثماني.
هل تحول الفنانون التشكيليون الى فئة مهمشة ومعزولة, رغم حصانتهم التي بنتها ونمتها ذاتهم المتمرسة المتمردة. وهل ثمة من لا يزال يشرع للتجريم والتحريم التشخيصي, كما هو حادث في العزل الجنسي الممنهج الذي تشهده مدارسنا ومعاهدنا, بشبهة الجنس المحرم, وهو افتراض تجاوزه زمننا. هل بات الجسد فخا, وهل بتنا ملوثين بفخاخنا. ليس من شك في ذلك, وأنا أراجع وأطالع رسومات انتجناها لفترات سابقة, صور ومنحوتات وأفلام العقود السابقة. التي كانت الأجساد فيها أساطير ترفل بملونتها وبملونة أزياء أرديتها. شبان وفتيات, كبار وصغار. وحيث للسفور حشمته التي فاقت في بعض من مناطق بغداد حجاب بعضهن. فلم العزلة والانعزال, وقد خلقنا الله من رحم واحد. فهل نفقد انسانيتنا, وهي في الجوهر من مفاصل ابداعنا, ما بين احجية وحجاب وتحجب للنفس والأبدان والعقول, وأفول عصر الإنسان القيم على افعاله, لا القيمين عليه.
ليس على الشاعر أن يشطب على الهامه المدون, وليس على الفنان أن يلغي بحثه الملهم, ارضاء لوصي أو ولي. وليس من قانون مدون يستطيع أن يلغيه أيضا. ليس هناك من لائحة مدونة توصي بحدود ومحدودية وسائل وطرق ومفردات الابداع, والا لألغينا نصف موروثنا الأثري, إن لم يكن أكثر. وهل يعقل أن يكون مبدعي ارثنا التاريخي الفني أفضل وأشجع وارقي منا بسبب من إدراكهم وإدراك رعاتهم لأهمية عملهم الابداعي واعتزازهم به علامات حضارية سوف تبقى شاخصة أبدا.
فقدنا مركز الفنون, وهو متحفنا الفني الحديث الوحيد. لكننا لم نفقد غالبية فنانينا. ممن ساهم في تأثيثه بأعماله. ومن اكتشف ودرس ونمى موهبته الفنية خلال حقبتنا الحالية. ان أفقدنا الزمن روادنا. فالريادة مستمرة باكتشافات وفتوحات فنية جديدة ومستجدة, وللحد الذي اهلها لاحتلال فضاءات عروض وقاعات ومتاحف عالمية, وصولا الى اهم متحف للفن الحديث الاوربي(التيت كلري) اللندني. اظافة لمتاحف أمريكية وغيرها. فهل بات الاجنبي حريصا على منجزنا, أكثر من مؤسساتنا الفنية الوطنية. وهل بات من العسير على هذه المؤسسات, أن تعيد أعمار متحف الفنون بافضل ما ينتجه هؤلاء الفنانين الكثر. ليس بمحاولات بائسة للجرد والاحصاء عن بعد. بل بالمتابعة الحريصة والاتصال المباشر ومد الجسور. فلم يعد نتاجهم خافيا على أحد في زمننا العولمي هذا, واخبارهم تملأ الصحف وفضاء الميديا. ولا يعقل ان يبقى القصور الناتج عن عدم القدرة والاقتدار سائدا ومروج له كحصيلة واقع لا يزال يتاجر بمأساة هم من ساهم في صناعتها, وهم من يتحملون تبعيتها.
للثقافة شروطها الانتاجية التي لا تكتمل الا باكتمال الفضاء الممنوح لها والذي لا تحده تابوات سلفية(ماضوية). في زمننا هذا الذي تتسارع فيه متغيراته العلمية لحد مدهش, لم تعد سلوكيات ماضوية مقبولة ولا نافعة ولا منتجة, وبدون فهم شروط هذه المتغيرات, لا يمكن لنا أن نكون أو نتحول الى أناس معاصرين, أبناء هذا الزمن لا غيره ولا سواه, والا فالزمن, وهو متغير دوما, لا يرحم المتخلفين. فهل من وقفة أو مراجعة لواقع حال مؤسساتنا الثقافية والفنية, بدأ من سلوكيات عرابيها الذين يتربعون على قمة مصادر قرار دولتنا الجديدة. فليس بالمحاصصة الحزبية الضيقة, وعناصرها الهزيلة التي ضيقت على مصالح العباد والوهاد نصل الى شاطئ السلام في مدينة السلام وبلاد الله المسالمة.
ليس هناك من تبرير مقبول لتردي الخدمات, ومنها الثقافية والفنية. وليس بالرغيف فقط نبني ونقوم بنيتنا. فهل بات الانتهاك مقننا, وباتت النفس البشرية بهذا الرخص, وللحد الذي وصلت به الأمور للمتاجرة بالأرواح ونحر الأجساد, من قبل هذا الحزب وذك. وهذه الفئة وتلك. لقد تحول العراق الى اقطاعية تتجاذبها الأطراف. محصور برقعته الجغرافية, مغيب عن العالم الا في نشرات الأخبار المعفرة بدماء قتلاه. ولم تعد للفاجعة من لوعة أو صدمة. لقد تحولت الى شيء, مثل بقية الأشياء المألوفة. فهل باتت المنفعة الفردية الضيقة أكبر من سيادة الدول. وليس معقولا هذا التلاعب بوعي الناس(المواطنين) تجهيلا ممنهجا, تحت ضغط فقدان الأمن والأمان, وتنمية هاجس الموت المرعب والمشؤم, الذي ينتظرهم عند كل عطفة شارع, أو مكان عمل.
لم يعد للفنان البغدادي من أمل في زيارة قاعة العرض او القاعتين المتبقيتين في بغداد بمعجزة. فكيف بمساهمته في عروضها, وما اصراره على ذلك الا بدافع من نبل تحدياته. فهل ننتظر أن تغلق هي الاخرى, كما دور السينما, أو مثلما ما يصلنا من أخبار عن إغلاق المقاهي والنوادي وغيرها مما تبقى من القليل من دور الترفيه. وانساننا باحوج ما يكون لأن يرفه عن نفسه, علاجا لكبت وضغوطات محيطه الخرافي في قساوته.
متى ندخل زمننا الجديد بكفائة هي متوفرة في الكثير من أناسنا, سواء منهم من لا يزال يستوطن الداخل, أو بلدان الهجرة والمهجر التي اتسعت رقعتها خارطة العالم. ومتى أزور بغداد مستهلها بمتحف للفنون التشكيلية الحديثة والمعاصرة أفاخر به من يبخس حقنا في بلاد المهجر. سؤال اترك للزمن اجابته, مع شكي في عدم تكحيل عيني بتحقيق حلمي هذا لتقادم وتآكل زمني. لكني لا أفقد الأمل باستعادة وعينا والانتباه لغفلتنا, والافاقة منها.
...................................
علي النجار
تعليقات
إرسال تعليق