رسَالة مفتُوحة إلى السيِّد الوزير الأوَّل الجزائري: عن زَورق الأوديسةِ الجزائريِّ المكسُور / أحمد دلباني
رسَالة مفتُوحة إلى السيِّد الوزير الأوَّل الجزائري:
عن زَورق الأوديسةِ الجزائريِّ المكسُور
أحمد دلباني
سيادة الوزير الأول،
وجدتُني مدفوعا دفعا، باعتباري مُثقفا جزائريا ورجل تربية وتعليم، إلى أن أعلقَ قليلا على خطابكم الأخير أمام مسؤولي التربية الوطنية في مبادرة لفحص عوائق تدهور التحصيل العلمي عند تلامذتنا وطلبتنا تحضيرًا للدخول المدرسي القادم. ونحنُ إذ نعتقدُ معكم، فعلا، أنَّ التركيز على العلوم والرياضيات والطرائق البيداغوجية الكفيلة بالتحصيل الإيجابي للمعرفة العلمية والتكنولوجية من قِبل تلامذتنا يجبُ أن يحظى بالأهمية الكافية، إلا أنَّ مُقاربتكم للمُشكلة تمثل، برأينا، مُشكلة أخرى تُعيقُ هذا المشروعَ التربويّ المُستقبليّ ولا تستوعبُ رهاناتِه.
إنَّ تدريسَ العلوم والرياضيات أمرٌ مهم بكل تأكيد، ورُبَّما سيكونُ من تحصيل الحاصل أن نذكّر بذلك في عالم تحكمهُ القوة وصراعُ الهيمنة المرتكِزيْن على التكنولوجيا في آخر فتوحاتها. ولكنَّنا نعتقدُ أنَّ هذا الأمر يجبُ ألا يكونَ مُناسبة أو مدعاة للتهكم والسخرية من الشعر والأدب واللغة العربية. إنَّ الحديث عن النهضة العلمية المنشودة - في إطار رفع التحديات أمام مُستقبل لا مكان فيه لمن لا يتحكَّمُ في التكنولوجيا والعلوم – لا يكونُ أبدًا بإنسان آلي يستهلكُ المُنجز العلميَّ الوافد من الآخر الغربيّ المُبدع، كما نلاحظ في كل بلدان العالم الثالث ومنها بلدنا بالطبع. فالمُستقبل ليس للكائنات التكنولوجية التي تفتقرُ إلى العقل النقديّ والحس الجمالي والذوق الحضاري. والحداثة التكنولوجية ليست آلة فحسب وإنما هي، أساسا، عقل جديدٌ لا مرجع له إلا حركية الإبداع أمام عالم أصبح مجالا للبحث والاستقصاء والكشف عن المجهول. إنها ديكارت ونيوتن وهايزنبرغ قبل أن تكونَ بيل غيتس وستيفن جوبز. إنها روحٌ جديدة تقودها مُغامرة البحث خارج عوالم اليقين التي تأسرنا. فأين منظومتنا التربوية من هذا؟
هل عملنا فعلا، منذ استقلال البلاد، على التأسيس لمنظومة تربوية حديثة وعصرية لا تلهثُ وراءَ قشرة التكنولوجيا وفتات المعرفة من جهة، والارتماء في أحضان أكثر الإيديولوجيات تخلفا وشوفينية وانغلاقا من جهة أخرى؟ هل استطعنا تخليصَ منظومتنا التربوية من صراعات المواقع وتكتيك أجنحة السلطة الظرفية لنجعل منها استراتيجية شاملة في بناء الإنسان - عقلا ووجدانا ومعرفة وحسا حضاريا؟ هل استطعنا أن نُحققَ نوعا من الانسجام بين البرامج التربوية التي تتضاربُ ولا نكادُ نعثرُ فيها على سياسة رشيدة تنحُو منحى إعداد المُواطن الجزائري الحر والمسؤول؟
ألا تعرفون، سيادة الوزير الأول، وأنتم تلقون باللائمة على الأدب والشعر أنَّ مُعظمَ من حمل السلاح في وجه الجزائريين – من الجامعيين – في حقبة التسعينيات الدموية كانوا من حملة الشهادات الجامعية العلمية؟ فما المعنى العميق لذلك؟ ماذا قدمت الفيزياءُ والكيمياء لهؤلاء؟ ماذا قدمت لهم شهادات الهندسة والرياضيات؟ هل صنعت منهم نيوتن أو آنشطاين؟ هل جعلت من بعضهم باستور أو كلود بيرنار؟ من الواضح أنَّ بناءَ العقل النقدي كان الغائب الأكبر عن سياساتنا التربوية وبرامجنا الجامعية أمام ارتجالنا التربوي الغوغائي ونحنُ ندّعي تحمل أمانة مصائر الأجيال أمام الأمة. هكذا أنتجنا إنسانا جزائريا أجوفَ وسطحيا وبلا لغة. إنسانا يتدحرجُ ككرة القش على سطح العالم. إنسانا قد يتحكمُ في الآلة ويقودُ السيارة ولكنه يعتقدُ، عُمقيا، أنه "يستخدمُ فرسًا من حديد" كما يُعبّر أدونيس. إنَّ العلمَ الحديث، وهو من أبرز مظاهر الحداثة بكل تأكيد، ليس تقنية شكلية أو وسيلة استرزاق وإنما هو نظرة جديدة إلى العالم تخلصت من رواسب الرؤى السحرية التي مازالت تعيش عهودَ ازدهارها عندنا في صورة مأسسةٍ للدين تربويا وثقافيا وسياسيا. العلمُ ليس قناعا نرتديه للدخول إلى بهو العالم المُعاصر. إنه روحٌ جديدة مُغامرة وقيمٌ ثقافية / عقلانية قامت على أنقاض ثقافة المرجعيات المعصومة والعوالم المُغلقة. فأين نحنُ من هذا؟ وما حظ منظومتنا التربوية منه؟
لا يُمكنُ أبدًا، برأيي، بناء منظومة تربوية حديثة دون إعادة النظر الجذرية في برامجنا التربوية وطرائق التدريس التي ما زالت تعلمُ وأدَ العقل وتنشيط الذاكرة. لا يُمكنُ بناءُ الإنسان الجزائري وإعداده ليكونَ مُواطنا مُنتجا ومُبدعا ببرامجَ تقليدية تعلمهُ الطاعة وخنق الفكر النقدي وتجريمَ السؤال. ولو كان الأمرُ بيدي، صراحة، لما تردَّدتُ لحظة في تقديم مشروع مُراجعة شاملة لبرامجنا التعليمية والتربوية. فلا أضعُ، سيادة الوزير الأوَّل، مثلكم العلومَ في مُواجهة الآداب والإنسانيات وإنما أجعلهُما جناحين في مضمار المعرفة يرتبط أحدهما بالواقع العملي / الاقتصادي وسوق التنمية والاستثمار دون أن يقطعَ صلته بمغامرة العقل الإبداعيّ وحركة البحث في العالم، ويرتبط الآخر بمسألة المعنى والقيمة دون أن يرتطمَ بأي شكل من أشكال الدوغماتية المُتحجرة كما نجدُ ذلك في مادة " التربية الإسلامية " مثلا. فهل يُعقل أن تُدرَّسَ مادة تتنافى مع قيم الجمهورية والمُواطنة بالشكل الذي نراهُ في مدارسنا مع مادة "التربية الإسلامية"؟ هل يُعقل تدريسُ مادة تُعلمُ التلميذ أنه يمتلك بها المعرفة الكاملة المُطلقة التي تُتيحُ له أن يُدينَ المُختلف ويُكفّرَ المُجتمع والدولة؟ هل من المعقول أن تعمل الجمهورية، تربويا، ضدَّ قيمها وأسسها بهذا الشكل وكأنها لا تعملُ على إنتاج مواطنين أحرار يتساوون أمام القانون وإنما على إنتاج جماعة دينية؟
سيادة الوزير الأول،
لقد تألمتُ، شخصيا، وامتعضتُ كثيرًا من وُرود شطر من قصيدة مشهورة لأبي العلاء المعرّي، على سبيل السخرية وانتقاص القيمة، في حديثكم أمام مُدَراء التربية. وأظنكم لا تعرفون عن هذه الشخصية الأدبية والفكرية الشيءَ الكثير. لذا أراني، أولا، مُلزَما بتقديم اعتذار شخصي لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء عن هذا التهكم الذي لم يكن في محله صراحة. كما أراني، من جهة أخرى، مُلزما بتوضيح ما يُمثله المعري في تراثنا الشعري والفكريّ العربي المُشترك باعتباره من أئمة العقل والنقد والسؤال الذي لا يركنُ إلى الجاهز أو إلى المعرفة السائدة حتى لو كانت في قداسة المُعطى الديني أو عصمة الارتباط بالسلطة. أليس هذا ما نحتاجُ إليه، سيادة الوزير الأول، من قيم نفتقدها في حياتنا نتيجة سياساتنا التربوية العرجاء التي دمَّرت الإنسانَ الجزائري وأنتجت منه الفرد الأجوف والتكفيري وعبدَ الذاكرة وأحادي النظرة؟
تألمتُ، كذلك، من إشارتكم السَّاخرة إلى آية قرآنية على أنها بيتٌ من الشعر. هذا الأمرُ مُخجل صراحة. فهناك جهل من جهة عدم المعرفة بكتاب المُسلمين المُقدَّس الذي تدَّعونَ حمايته والدفاع عن القيم الواردة فيه دستوريا. وهناك، من جهةٍ أخرى، استخفافٌ بالإبداع الشعري الذي ظل يُمثل – عبر تاريخ العالم وعند كل الشعوب – بداية دخول الإنسان زمنَ التاريخ ومُطاردة المعنى بترميز الكينونة. إنَّ أمة لا تحترمُ الشعر، سيادة الوزير الأول، هي أمة لا تحترمُ ذاكرة الإنسانية وهوية الإنسان العميقة من حيثُ أنَّ الشعرَ أنسنة للعالم وإبداعٌ يُوسِّعُ تخومَ المعنى الذي تضيئهُ قناديلُ الخيال الكاشف. ولكنَّ المُشكلة لا تتوقفُ عند هذا الحد على ما أرى. فالجميعُ يعرفُ أنَّ المُستَهدف من وراء الحديث عن الشعر ليس الفن الشعري بذاته وإنما اللغة العربية تحديدًا. كأنَّ العربية منذورة لأن تكونَ لغة تقليد وماضوية وعقل مرجعي مُنغلق أمامَ العصر وإنجازاته المعرفية والعلمية. هذا الأمرُ يُكذبهُ تاريخها الحضاري من خلال أسماء الرازي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون. كذلك نُنبّهُ إلى أنَّ التركيز على تطوير العربية والاهتمام بها – باعتبارها اللغة الوطنية والرَّسمية – لا يعني أبدًا إحكام إغلاق النوافذ على الذات الموروثة والاختناق بثقافة الاجترار على هامش صيرورات العلم والمعرفة في العالم كما يُريد الأصوليون؛ فلم تزدهر هذه اللغة البهيَّة عبر تاريخها إلا من خلال التثاقف مع الآخر. أعتقدُ، بالتالي، أنَّ المُشكلة ليست في اللغة وإنما في السياسة التربوية والثقافة السائدة بعامة – وهي عموما ثقافة رجعية تكرّسُ الجهل المُقدَّس والمُؤسَّس كما يرى البروفيسور الرَّاحل محمد أركون. وأعتقدُ أنَّ المُشكلة، في عمومها، ترجعُ إلى عقودٍ خلت حين كانت مسألة التعريب قضية إيديولوجية لا معرفية أو علمية؛ ونحنُ نعرفُ كيف حُسمَ فيها الصِّراع بصورة مُتسرّعة لصالح قوى التقليد والرجعية الفكرية وهو ما يتجلى، اليوم، في برامج اللغة العربية والنصوص التمثيلية التي تذهبُ في اتجاه تحنيط العربية بكل أسف.
لقد قلتم إنَّ الشعرَ ليس سبيلا إلى التنمية الاقتصادية. ونحنُ لا نعترضُ على هذا. ولكنَّ التنمية التي تنشدونها تكنوقراطيا - في ظل عولمة مُتوحشة وليبرالية- لن تكونَ إنسانية الوجه ولن تجعل من الجزائر بلدًا منيعا لأنها ستفتقرُ إلى الإنسان وإلى تطلعاته الحارقة إلى العدالة والجمال والحرية. ستكونُ تنمية تصلحُ للإنسان الآلي وتُخفي، وراء حساب مُعدَّلات النمو، شحُوبَ الروح وانكماش دائرة الفعل الإبداعي عند الإنسان الجزائري. هكذا ستكونَ الجزائرُ – كما كانت دوما – بلدًا يُنتجُ البترول ويُراكمُ الثروات التي تُسيلُ لعابَ الفاسدين لا غير. ستكونُ بلدًا يُنتجُ البؤس الاجتماعي ويخنقُ الأحلام ولا يستطيعُ مُجابهة الاقتلاع الثقافي / الرمزي الناتج عن التحديث المُتوحش الذي تدعون إليه في غياب سياسة تربويَّة حكيمة وطليعية؛ كما لا يستطيعُ مُجابهة المخاطر والأطماع الخارجية التي تتربَّصُ بنا في ظل تغييب الإنسان الجزائريِّ الدَّائم عن حقه في المُشاركة السياسية وصنع القرار. ستبقى الجزائرُ بلدًا دائمَ الغياب عن مأدبة الفعل الثقافي والحضاري في العالم. فإلى متى نُدافعُ عن فقرنا الثقافي في العالم بحُجَّة التركيز على الأولويات كالتنمية الاقتصادية أو التحكم في التكنولوجيا؟ لماذا نُريدُ، دائما التمهيد لسياسات تدجين الإنسان واعتقاله إيديولوجيا أو تقنيا بدل تفجير طاقاته وبناء عقله وتحرير مُبادراته؟ لذا نعلنُ، سيادة الوزير الأول، اختلافنا معكم حول مفهوم التنمية والتقدم. أنتم ترونهُ كميا ونحنُ نراهُ كميا وكيفيا معا. أنتم ترونهُ إنتاجا وآلات وأرقاما ونحنُ نراهُ تراكما لا يخلو من البُعد الإنساني ومن فضائل الحرية والوعي وازدهار الشخصية الإنسانية التي تبقى، في كل الأحوال، الضامنَ الأوحد لمناعة الأمة على كل المُستويات.
سيادة الوزير الأوَّل،
أريدُ أن أشيرَ مُذكِّرًا، وأنا أنهي رسالتي هذه، إلى حادثتين توقفتُ عندهما مُعجَبا. الأولى ترتبط بالوزير الأول البريطاني ونستون تشرشل – وكان مُثقفا وكاتبا – عندما قال ذات يوم: " نستطيعُ التنازل عن أي جزيرة من جزر الهند (وكانت مُستعمَرة بريطانية) ولكننا لسنا مُستعدّين للتنازل عن شكسبير ". شكسبير أهمّ من الأرض؟ هذا يعني أنَّ التاريخ والهوية الإبداعية العميقة أهمّ من الجغرافيا الخاوية من البُعد الإنساني. الأمة امتدادٌ في الزمان وذاكرة مُشتركة وتطلعاتٌ إلى الأجمل والأرقى عبر الإبداع الذي يمثلُ خط الدفاع الحصين أمام الهوية الحضارية. ولكن للأسف لاحظنا أنَّ المعرّي لا يحظى عندكم بهذا الشرف.
وأما الحادثة الثانية فهي ترجعُ إلى بداية الألفية الثالثة عندما سُئل الألمانُ عن أعظم شخصية ألمانية في الألفية الثانية المُنقضية: مارتن لوثر أم غوتنبرغ؟ باخ أم فريديريك بروسيا؟ بسمارك أم آنشطاين؟ وكان جواب الألمان: هو الموسيقي باخ. هذه ألمانيا، سيادة الوزير الأول، بلد التكنولوجيا الأول في الاتحاد الأوروبي. بلد هيرتز وكوخ وآنشطاين وماكس بلانك وهايزنبرغ وأساطين العلوم والفيزياء في العالم الحديث تختارُ باخ باعتباره أعظم شخصية في تاريخها. الشعوبُ لا تسخرُ من هُويتها التاريخية والإبداعية مثلنا نحنُ سيّدي. الأممُ الحية لا تسعى إلى طمس وجه الإنسان في ذاتها العميقة وإنما إلى نفخ الروح فيه دائما بالإبداع. فمتى نستوعبُ هذا الأمر؟
أختمُ رسالتي، سيادة الوزير الأول، بكلمة لرئيس الوزراء اليوناني السابق باباندريو وهو يُواجهُ بداية الأزمة التي عصفت باليونان ووضعتها على عتبة الإفلاس قبل سنوات قليلة. لقد خاطب شعبهُ اليوناني مُستحضِرًا عملا شعريا عظيما لكبير شعراء اليونان هُوميروس هو "الأوديسا" التي تسردُ، بصورة آسرة، عودة البطل أوليس من حرب طروادة والصّعاب التي اعترضت طريقَ عودته إلى حُضن حبيبته بينيلوب. لقد أهابَ باباندريو بشعبه أن يتحمَّل المشاق من أجل الخلاص العام من آثار الأزمة بكل شجاعة ورباطة جأش كما فعل أوليس وأصحابه وهم يعودون إلى بلدهم. ولكنني تذكرتُ أيضا ما قاله الراحل الكبيرُ محمود درويش في ملحمته الباذخة "مديحُ الظل العالي": " عمَّ تبحثُ يا فتى في زورق الأوديسةِ المكسور؟".
وتساءلتُ بمرارة: "إلى متى يظل زورقُ الأوديسة الجزائري مكسورًا؟"
تحياتي.
أحمد دلباني
01 أيلول (سبتمبر) 2013
تعليقات
إرسال تعليق