القصّة القصيرة جدّاً وخطر الانزلاق / بقلم: أحمد عكاش.


 يا كتّاب القصّة القصيرة جداً: هلمّوا إليَّ ..بقلم: أحمد عكاش.

القصّة القصيرة جدّاً وخطر الانزلاق

بقلم: أحمد عكاش.

أيّها السيدات والآنسات والسادة الأدباء بعامّة، والأدباء القاصّون بخاصّة، اسمحوا لي هذه المرّة أن أعتلي مِنصّة الخطابة دقائق، لا لأنّي أهلٌ للخطابة، لا، بل لأنَّ أدبنا العربيّ والقصّة القصيرة جداً بخاصّة، بدأت تسير على طريق زلقة يُخشى عليها فيه أن تهوي في نهاية المطافِ في وادٍ سحيق يُدقُّ عنقها على تلك الجلاميد المُسنّنة في قعر ذيّاك الوادي.
لا يخفى عليكم زملائي وزميلاتي أنّ أحد مقوّمات الأدب النّافع أنْ يحمل (رسالة)، رسالة بنّاءة تُساهم في رقيّ الإنسانيّة، ولا يخفى أنَّ الأدب – وكلّ كلام- إذا خلا مضمونُه من هذه الرسالة أمسى لغواً ولغطاً لا خير فيه، وسلّة القمامة –أقول القمامة ولا أقول المهملات- أَوْلى به، وأولى بكاتب هذا (الهراء) أن يقصر، فيوفّر على نفسه العناء ويُجنّب القرّاءَ إضاعة وقتهم بقراءة غير مُجدية.
المُتتبّع الآن لمنشورات الموقع في حقل القصّة القصيرة جداً، والتي تستقطب الجمَّ الغفير من القرّاء، ستنجلي له سريعاً حقيقةُ ما يعتري هذه (القصّة) من انحراف جليٍّ عن غايتها، وسيرُها حثيثاً نحو خطر قاتل يتربّص بها، والخوف كلّ الخوف أن يُطبقَ هذا الخطر على جيدِها بلا رحمةٍ، حتّى يزهق روحها قبلَ أن تُؤتيَ أُكلها المرجوّة، فيلفظها عُشّاقُ القصّة، ثمَّ نبكي على مصيرها ونحن نراها تُحمل جثّة هامدة بعيداً عن (مُعجم فنون الأدب).
الخطر الذي يكتنف (القصيرة جداً) هو جنوحُها الجليّ إلى أن تغدو (أحاجي) وألغازاً هزيلة يتبارى القارئون في تأويلها، كما يفعل النّاس كلّ الناس بالأحجة إذا طرحت عليهم، والحاذق هو الذي يُعلن قبل سواه اهتداءه إلى كُنهِ اللغز، وهو في حقيقته خرج من قراءته خالي الوفاض من (الفائدة)، صِفراً من (الغرض)، أمَا تلاحظون معي أنَّ كثيرين من القرّاء الأدباء، وكَتَبةَ القصّة القصيرة جداً أنفسهم كثيراً ما يُعلنون صراحةً وبشجاعتهم الأدبيّة أنَّ قراءتهم تعثّرت، فأخفقوا في جني الثمرة من هذه القصّة؟ وأنَّهم شرعوا يخبطون خبط عشواء في تقصّي حلّ الأُحجية التي طرحتها القصّة ؟.
هل نحن بصدد (قصص لها هدف، وتحمل رسالة سامية وهدفاً نبيلاً)؟ أم نحن بصدد (ألغاز تَنْشد كشفاً وحلاً؟).
نعم، يُوصي النُقّاد بأن تكون القصّة القصيرة جداً تثير في القارئ تساؤلاً وتوقّعاً، وأن تكون مفتوحة الأفق، رحبةً، تقبل احتمالات، ولقد استجاب القصّاصون المُوفّقون – ولا أزعم أنّي منهم – لهذه التوصية، ولكن يجب أن يكون هذا الانفتاح في (تضاعيفها)، في سرد حَدَثِها، وقبل الإفضاء إلى خاتمتها (قفلتها)، حتّى إذا جاءت (القفلة المستفزّة) يكون كلّ شيء قد انتهى، وتكون القصّة قد جلّت هدفَها، وبلّغت رسالتَها، ولا مكان بعد هذا للأخذ والردّ والجدلِ، فإذا فرغ القارئ العاديّ من القراءة ولم يرَ في جعبته ثمراً من ثمار المطالعة، فلا تتوانَ بالحُكم على القصّة بـ (الإخفاق)، وإيّاكَ إيّاك أنْ تتّهم القارئ بالتقصير، فلسنا هنا في معرض التّخمين والرّجم بالظنّ ... ولا يُعقل أن نلتمس منَ القصّاصِ أن يُوافينا بكتابٍ مُلحقٍ يُجلّي لنا ما التبس علينا فهمُهُ، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما يريده، كما يأخذ البصير بيد المكفوفِ.
ولقد اخترت من (ملتقانا) أُنموذجين لقاصّةٍ لم تذكر اسمها واكتفت بالإشارة إلى نفسها بـ (طالبة العلم والعمل)، يصلحان شاهداً تبرز فيه عمليّاً سمات الـ (ق. ق. ج.) التي سُقتُها سابقاً نظريّاً:
[[[طويل، جميل، وفيه الكثير من المميزات التي تحلم بها أيّ امرأة – تحدّث جارتها-
سمع الزوج كلامها دون قصد وراء الباب، فثار غضبه، وصاح بأعلى صوت: يا امرأة... 
تعجبت الزوجة وجاءت مسرعة إليه وقالت: ما بك ؟ ]]]
أقف هنا، وأشير إلى أنَّ القصّة لم تكتمل، هذه مرحلة التعريف بشخوص القصّة، وسرْدِ أحداثها، وهي التي يسمّونها (مرحلة العرض)، لن أتحدّث عن اللغة، فهذا شأن آخر، له حديث آخر لن أعرض له الآن، أُشير هنا إلى انفتاح أفاق القصّة، الذي يثير الكثير من التخمينات والاحتمالات:
1-فقد يُباغت الزوج زوجته بقوله (أنت طالق).
2-قد يصفعها بحنق قائلاً: يا خائنة.
3-قد يُغيّب في صدرها سكّيناً، أو يودع في رأسها رصاصة.
4-قد يقول لها: إذا كنتِ تحبّينه حقيقةً فسأدعك له بكلّ بساطة.
5-قد ينفجر منتحباً نادباً حظّه العاثر.
6-قد يقهقه حامداً الله أنّه كشف الزيف الذي يعيشه ..
7- وقد .. وقد.. الاحتمالات عديدةٌ، والانفتاح واسع واسع، والأفق مُشرَعٌ في وجه التنبّؤات على أرحب ما يكون ..
ثمَّ تأتي الخاتمة (القفلة) لتفعل ما فعلتهُ (جهيزة) إذ قطعت قول كلّ خطيب:
[[[ جاءت الزوجة مسرعة إليه وقالت: ما بك؟ حتّى إنّني لم أُكمل مقاسات الفُستان. ]]].
في هذه النقطة انتهى كلّ شيء، وانجلت الغوامض، واستقرّ الأمر، فلا غُموض ولا تكهّنات بعد الآن، بلّغتِ القصّة رسالتَها، فلا تساؤل ولا تخمينات ولا شيء من هذا البتّة.
أُنموذج آخر للقاصّة نفسها:
[[[حمل كلّ أغراضه ..همّ مسرعاً متجهاً نحو الباب ليتفادى الجميع في هذا الوقت، مشى خطوتين حتى وجدها أمامه، توقّف، وضع الحقائب على الأرض ...]]]
لك الآن أن تطلق عنان تفكيرك وتساؤلاتك على غواربها، لكن جاءت القفلة :
[[[قبّلها وقال: وداعاً يا أمّي. ]]].
فليس لك من عمل تعمله إلاَّ أن تتفهّم الرسالة التي أُودِعت في (صندوق بريدك).
السادة الأدباء والمبدعون: (القصّة القصيرة جدّاً) وليد حَدَثٌ غضّ العود، ما يزال جناحاه أزغبين، لم تظهر فيهما قوادم ولا خوافٍ، فأحيطوه بأكفِّ الرعاية والنماء، حتّى يستوي على سوقِهِ (فَنّاً من فنون الأدب) اكتملت له عوامل البقاء والتطوّر، ولا تدفعوا به إلى غياهب الاندثار والفناء، في الوقت الذي نرى فيه كثيراً من النُقّادِ يتوجّسون منه، وينظرون إليه بارتياب، ويأْبون إدراجه في السجل الذهبي لـ (فنون الأدب العربي)، ويزعم بعضهم أنّه ليس أكثر من (دُرْجَةٍ) آنيّة، لا تثبت أمام النقد والتّمحيص، قد تتداولها الألسنُ والأقلام حيناً من الدهر، لكنّ الموت يتربّص بها في مُنعطفٍ قريب، وأنتم يا سادتي كتّابها وأهل بجدتها، فكونوا الذائدين عن حياضها وحقّها المشروع في الحياة، ألا ترون مثلي أنَّ (القصّة القصيرة جدّاً) جديرة بحبّكم ورعايتكم ؟!.

انتهت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)