أزمنة العزلة.. في أعمال الفنان سعدي اللبان / الناقد علي النجار


الفنان التشكيلي والناقد علي النجار

أزمنة العزلة.. في أعمال الفنان
سعدي اللبان
....................
في رسوم سعدي اللبان تتحول العزلة شظايا لا تنتسب إلا لهواجسها, وفي حدود ما يقترحه صانعها. أو, بالأحرى ما تقترحه أزمنته. عزلة هذا الفنان هي بعض من عزلاتنا الذاتية العراقية ضمن متاهة الوجود المحكوم بهاجس عدمه. هو لا يملك سوى جسده وحدود فضاءاته الملغومة ندوبا معدنية. لكنه وعلى ما يبدو استساغ مراقبة مداراته التي فقدت بريقها مبكرا, ولم يبق غير اثر من هنا ومن هناك, لا يدل إلا على أن الزمن جرح لا يندمل, ونحن بعض من مخلفاته.


في صيف عام(1966) حصلت على موافقة احد المراكز الثقافية في بغداد لإقامة معرضي الشخصي الأول. ولسعة قاعتي العرض بهذا المركز. طلبوا مني أن يشاركني العرض فنان آخر. بعد هذا الاتفاق مباشرة التقيت الفنان سعدي اللبان صدفة في إحدى زياراته لبغداد. وكان عرضنا المشترك. كنا نحن الاثنين نجرب طرائقنا أو اكتشافاتنا الفنية الأولى. كان سعدي وقتها مولع بتجريب المواد ضمن فضائات لوحة الرسم المكتظة تفاصيل. مثلما كان الدرس التقني الذي تعلمه من أستاذه اليوغسلافي (لازكي) لا يزال حاضرا مع حيوية الطرح الشبابي. ثم فرقتنا طرق الحياة المتشعبة, وفضاءاتها الجغرافية. المركز(بغداد) و(المحافظات). هو احتضنته مدينته(الحلة). وأنا أخذتني متاهات بغداد وشعابها الفنية. ثم تفاجـأت في غربتي وبعد زمن بعيد بسعدي ذك. لكن بآثار عزلته. وبأعمال(رسومات) هذه العزلة.
إشكالية أعمال سعدي, لا تختلف عن إشكالية التشكيل العراقي بمراكزه المتعددة. بغداد والإطراف. مع ذلك فلا تزال بعض من ملامح زمن انجازه الفني الشخصي البعيد واضحة في رسومه الأخيرة. لكنها ملامح باهتة انسحبت لصالح منطقة تعبيرية جديدة, تتجاذب طرفي نقيض. حدة وليونة. حدة ملامح إنسية وفضائية. ورقة ملونة لا تزال تحمل اثر من ذك الزمن الجميل الذي اندرس. لكن لم يعد الجسد مشغولا كما كان, كتلة صلبة متراصة. بل هو الآن يشف عن دواخله المأزومة. كما خلت هذه الرسوم من عناصر البيئة السمحة الأولى التي كانت شاغله الأول. لقد تبدلت أزمنته البيئية الانبساطية الأولى(كما الأزمنة البيئية للرواد), بفضاءات أزمنة مأزومة, هي جزء من حاضر لا تزال كوارثه ماثلة, مثلما هي تأبى المغادرة. أجساده الجديدة تعلن عن نفسها آلات حربية سحقتها هزائمها ولا من أمل. آلات ميتافيزيقية, هي جزء من لعبة قدرية.


من وسط متاهة تفكيك عزلته وإعادة صياغة أزمنتها. انبثقت بصمة هذه الأعمال القدرية بشخوصها النيتشوية. لم تخفي علانية تفكيك مفاصل أجسادها المتوحدة الخاوية. المرسومة أو المنصهرة تحت ضغط تفكك مفاصل مفرداتها وفضاءاتها الكابوسية, وحيث هناك ضغط مسلط من الأعلى لا يدع للمناورة من مجال للخلاص ولا حتى ميثولوجيا. لم يعد(الخلاص صعدا), كما تفصح عن ذلك فضاءاته أو سماواته المشغولة بهاجس الاستحواذ الذي لا يخفي نياته, سواء كانت فضائات من معادن صماء أو من مدارات متوهجة. وعلى الرغم من انه حملها في بعض من رسوماته رسائل اشارية, شكلية أو لونية. استغاثة معلقة بخيط رجاء لا يوفر خلاصا.
سعدي في أعماله المتأخرة يحاول اختزال زمنه الضائع. بتضمينه أمنياته التي سرقتها لحظات أزمنته الهاربة. ليس من اجل إقصاء هاجس النسيان. بل من اجل استعادة نكبات تلك الأزمنة, لا سعاداتها. هو وكأي عراقي لم يفطم بعد من كينونته السياسية, ولا اعتقده يفعلها, بما أن السياسية حسب ما اعتقد, وكسلوكيات قهر, استحوذت على مساحة واسعة من نشاطنا الذهني, بسبب من خروقاتها المحلية والعالمية التي أحدثت أضرار كبيرة بمنظومتنا السلوكية. لكن وكما يبدو من مشهدية هذه الرسوم. فأن نية استحضار الزمن الموبوء لم تستطع الإفلات من شروطها الزمنية الآنية.
كأية أعمال فنية تضمر قدرا من جمالياتها التي هي جزء من أغراضها. تبقى جماليات أعماله ليست كما هي عند مجايليه من حقبة فناني جيله(الستيني) أو الحقب اللاحقة. حيث لا إغراءات لتفصيل من وحدة حروفية أو زخرفيه(جمالية) سواء كانت هندسية أو عضوية، من أية مرجعية(إسلامية أو فولكلورية) كما هو حال رسوم أكثرهم. لقد حافظت على مفردات جذرها البيئي, لكن باختزالية عالية, فقد اختفت تلك
التضاريس الحادة التي كانت تكتظ بها أعماله السابقة. لتدع للخبرة مجالا لانتقاء مفرداتها بحذر, وليس باندفاع. هذا الحذر أو التأني هو الذي وفر فضاء مناسبا من اجل أن تتقاسم وحشته أجساده المتفردة بسلوكياتها الحادة: المستفزة. المسحوقة, والعدائية. أجساد تنتظر هبات السماء شظايا ميكانيكية. وعلى ما يبدو فانه وفي هذه الأعمال يحاول أن يحقق رؤاه التي اكتنزتها ذاكرته من أيام كوارث حروبنا(البيئية). بعد أن أعلنت هذه الحروب المتكررة نيتها لسحق الإنسان. لكنها مع ذلك, أضمرت عن عمد أن تخفي الوجه القبيح الآخر, وهو تلوث ودمار البيئة الذري. وما فضحهم سوى علنية الضحايا, وكما تظهره بعض الشيء قسوة أجساد هذه الرسوم التي أنهكتها فواجعها.


لا اعتقد بان سعدي ينوي أن تكون أعماله متحفية(كما في غالبية رسوم ما بعد الحداثة) بقدر من كونها شهادات رائي فجعته رؤاه ويود أن يحافظ على علانية خفايا شفراتها, لا طمسها. فليس غريبا عليه أن يختار مادة الألمنيوم في نهاية السبعينات هياكل وأجساد وشظايا تتوزع مساحات أعماله. انه المعدن الذي لا لون له(ضمن موشور قوس القزح) انه الحياد الصلب. لكنه النافذ. نبوءة لزمن الشظايا التي عمرت أجسادنا لاحقا من مجمل الحروب العبثية. سواء ما كان منها بالوكالة. أو كمأزق صنعناه بأنفسنا.
الفضاء الفني(التشكيلي) السبراني(الانترنيتي) المفتوح يعج بالصور الفنية التي تناور مرجعياتها التعبيرية والجمالية, والتقنية. بنية الإدهاش أو غيرها, وغالبا ما تناور نية الإمساك بمسالكها الابداعبة. هي عائمة أو عامة, مثلما هي خاصة. ولا يبقى من كل مشاهدتنا لكثرتها وتنوعها. إلا إشارة صادمة من هنا. أو إثارة تأملية في الحدود الممنوحة التي يتيحها لنا عالمها الصوري الواسع, خارج حدود ضوابط التقنيات ومهاراتها, أو حيلها. رسوم سعدي اعتقدها لو وجدت مجالها ضمن مساحة هذا المحفل الصوري الواسع. سوف يكون وقعها الابصاري, كما هو في غالبيتها. فثمة خفة تقنية لونية, هي مشتركة بين ما يشف عنه سطح القماشة وسطح الورقة. بمعنى ما, أنها تجمع مابين الاشتغال الكرافيكي و ألتلويني. وبمقاربات من أعمال شباب الفنانين. فسعدي, لم يفضل هنا استثمار كامل حيل التقنية. من اجل التقنية. ولو فعلها لشغلنا عن استقبال أفكاره بإطارها الدال هذا. بل هو فضل بث أفكاره مباشرة. هنا يكمن الاختلاف ما بين فن الفكرة, وجماليات الحفر التقني واستعراضاته. فالكثير من أعمال مجايليه من الفنانين ضيعتها تقنياتها التي استحوذت على الفعل الفني, على حساب انحسار وضوح مساحة الإفصاح عن دلالات العمل او ما يطرحه من صور أفكار مقننة بذائقة العصر واهتماماته الثقافية ـ الجمالية. لكن إن استحوذت الفكرة, فإنها سوف تختار تقنياتها الخاصة, ليست كهدف لوحدها, بل كاشتغال تفصيلي, لا يتعدى تأكيد محور تأكيد(الفكرة) ضمن العناصر الفنية الأخرى المساندة. لقد اشتغل سعدي أشكال أجساده بمقاربات من المشهدية الفتنازية المعاصرة, كأجساد روبوتية تعرضت لانتهاكات صانعيها. بعد أن استحوذ الندم على فعلتهم. وهو يريد لها أن تكون أجساد مصائر ليس إلا.
أخيرا, لقد أرجعني سعدي لأزمنة افتقدتها .لكنه وهو الذي لا يزال يحمل بعض من ندوبها. لا يزال يستوطنه ذك الحلم الجميل. أن يبقى فنانا. كما هي معجزة فناني الداخل العراقي.
...............................................
علي النجار
مالمو .. 2012ـ02ـ27

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح