ثرثرة النقد في الفنون التشكيلية / د. كاظم شمهود
ثرثرة النقد في الفنون التشكيلية
د. كاظم شمهود
الثرثرة والفضفضة هي كثرة الكلام في مبالغة وبدون معنى. واحيانا بمعنى ولكنها تأخذ صيغة مذهب السفسطة او الشكية .. وهي مدارس ظهرت في زمن الاغريق. وكان المذهب السفسطائي قد ظهر في القرن الخامس قبل الميلاد وكان احد زعماءه بروتاغوراس 481 ق م – ويذكر انه اظهر كتابا اسماه – اللاوجود- يذكر فيه انه لايوجد شئ وان وجد فالانسان قاصر على ادراكه واذا فرضنا ان الانسان ادركه فلن يستطيع ان يبلغه لغيره .. وهكذا كانت في حراك جدلي لا يؤدي الى اي نتيجة مفيدة حيث يستخدمون طرق لغوية بالغة التأثير على المقابل. وقد غرسوا الشك في حقول المعرفة. وقد اتهمهم افلاطون وارسطو بانهم لم يكونوا راغبين في الوصول الى الحقيقة .. .
والثرثرة ظاهرة اجتماعية اشتهرت بها النساء والساسة .. فهناك اشخاص لهم القدرة ان يتحدث او يكتب دون كلل او ملل بمجرد ان تثير امامه موضوعا ما .. ويقال ان الزعيم الكوبي فيدل كاسترو قد سجل رقما قياسيا في طول خطبه التي احيانا تصل الى ثمانية ساعات .. كما اشتهر الزعيم عبد الكريم قاسم بطول خطبه ايضا والتي تمتد عدة ساعات ..
من ناحية اخرى يذكر بعض علماء النفس ان الثرثرة تظل وسيلة للخلاص والتحرر من الضغوطات النفسية والخلافات. وعبر هذه الثرثرة ممكن تشخيص بعض الامراض النفسية .. .. . ومن ناحية دينية فان الثرثرة غير مباحة وتؤدي الى قسوة القلب ونقص الشخص امام الناس كما ينجر فيها الانسان الى قيل وقال ثم الشر والخصام .. وقال رسول الله –ص- (ان الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وضياع المال).
(خير الكلام ما قل ودل) – (كل مختصر عليه كافي) .. هذه بعض النصوص الدينية التي تكره الاطالة والثرثرة في الكلام دون فائدة ..
الثرثرة الفنية
كان ولازال النقد يسير تبعا للنوازع الشخصية والامزجة وكثير ما يؤدي ذلك الى احكام جائرة تسير في طريق خاطئ. وكثير من النقاد يحملون سيفا مسلطا على رقاب الفنانين فيغرقون الصفحات بمصطلحات سفسطائية .. مما يجعل الفنان يتجرع كأس النقد بمرارة والم وربما ترفض اعماله سواء كان في العرض او البيع كما حدث للرواد الانطباعيين عام 1874 .. . كما يجعل الجمهور غارقا في بحر من كلمات الثرثرة والفضفضة (و السريالية) التي لا يفهم منها شيئا .. فالنقد العربي اليوم يراه البعض انه يقف جامدا يراوح في مكانه ينتمي الى الطريقة التقليدية لادب الرواية في الوصف وصنع الصور الخيالية كما هي عند المنفلوطي ونجيب محفوظ وروايته - ثرثرة فوق النيل –
و هذا مقطع من الرواية (و يضيق الصدر باي حكمة الا حكمة تنعي جميع الحكم. فليذهب العذاب المتراجع امام السحر الى غير رجعة .. وعندما نهاجر الى القمر سنكون اول من يهاجرين هربا من لا شئ الى لا شئ .. فواحسرتاه على نسيج العنكبوت الذي غنى ذات مساء في قريتنا مع نقيق الضفادع ..)
بعض النصوص النقدية
1 - (فيها روح الغابة وسحر الصدفة وغموض المجهول فندرك ان ما القته من ضوء كان يكفي لتبديد الظلمة التي اكتنفت حنايا تلك الفترة .. .. .. وحين بدأت رؤيته تتجه صوب العوالم الداخلية للنفس كان الزمن قد جرى شوطا بعيدا في تقدمه نحو الحاضر .. ..)
2 - (فهي تحكي كم هي بذور الشمس قادرة على اخصاب رحم الارض لتقيم عرسا. مهما كانت تأويلاته تقودنا الى مناطق نائية. انما مازال يمتلك صدى ان الحياة ليست فائضة او من صنع العشوائيات او انها محض جذام .. .)
3 – (اما الرؤية التاملية فترى ان الشعور الانساني بما هو عليه كشعور موجب ازاء الكون يثلب باستمرار الوجود الحقيقي له. لانه لا يكفي للتعبير عن حقيقة الوجود المكاني والزماني معا الا انه يمكن ان يكون شعورا مثمرا اذا ما اصبح متفانيا بالكون بمجرد ان يستحيل الى وجود سلبي .. .)
4- (ان الفن كائن حي رغما عن كل تصورات او توهم او استقصاء فهو يجد بداية في رحم الفكر وينموا ويتكاثر تحت الضغط الحراري والوزني والانشطار والتراكم .. .)
ويبقى النقد يمثل وجهة نظر شخصية لا ترقى الى ذوق عامة الناس. والفن مهما ينطوي عليه من ذاتية الفنان فانه يبقى بسلوكه موضوعيا يستند الى الشمول. ويهدف الى غاية اجتماعية.(حسب راي الفيلسوف كانت) .. فلو وضعنا عملا فنيا امام ناقدين احدهما غربي الثقافة والبيئة والآخر شرقي الثقافة لوجدنا ان التذوق والادراكات الحسية والفكرية والجمالية لكل واحد منهما تتباين، .. وهذا يعود بطبيعة الحال الى الاختلافات في الجذور التاريخية والبيئية والبيولوجية والسيكولوجية والفسيولوجية. وحتى لو كانا من نفس البيئة والثقافة فسنجد هناك وجهات نظر مختلفة .. . وعلى الرغم من ان المجتمعات والثقافات اليوم قد تقاطعت واختلطت .. ولكن ستبقى الخصوصية ماثلة قائمة لكل مجتمع ولكل فنان .. ففي العصر الاسلامي ظهرت المدرسة الاسلامية في الفن وظهرت داخل اطارها عدة مدارس تنتمي الى موروثها الحضاري وبيئاتها وتقاليدها وعاداتها .. كمدرسة بغداد والمدرسة الفارسية والتركية والمغولية والهندية والاندلسية وغيرها .. . كما نجد تباين في العمارة الشرقية والاندلسية حيث يمثلا آيات الابداع والجمال بقصور الحمراء وجامع قرطبة ومأذنة سامراء ومساجد الفاطميين ..
عالم الفنان عالم خاص وهو كعرين الاسد من الصعب اقتحامه وليس من السهل ان يأخذ الناقد الكاتالوك وينظر الى احد اعماله ثم يبدأ يكتب ما يشاء بفلسفة الخيال يخلقها من المصطلحات الادبية والفنية الجاهزة .. .. فالرموز التي نراها في لوحات الفنان العراقي شاكر حسن ليس من السهل القول انه صوفي المنحى ونقف. فهي خاضعة لتاويلات كثيرة قد تسير في اتجاهات مختلفة عن اتجاه المؤلف .. والرموز الهندسية في اعمال احمد نوار في مصر تجمع بين المعاصرة والتراث.و بالتالي فان لكل فنان ظروف وحياة تختلف عن غيره. وان اكثر النقاد يمارسون النقد من خلال اسلوب موضوعات الفنان وليس من خلال تطور ذاتيته .. ولهذا فهم يهربون الى اساليب الاطنان بالكلمات الغامضة واللغة المعقدة ..
و يذكر ان المؤرخين الاوائل لتاريخ الفن كانوا قد ركزوا على دراسة الفنان دراسة ذاتية ومن اشهر هذه الكتب كتاب المؤرخ الالماني كارل فان ماندر 1604 Carel Van Mander كمارفض بند يتو كروتشة (صاحب نظرية الحدس) ان يدرس تطور الفن بعيدا عن دراسة ذاتية الفنان .. ولهذ فان جميع المؤشرات تسوق الى ان فهم الفنان ياتي من خلال حياته الطويل بشكل شفاف ووضوح وليس من خلال الثرثرة والتأنق والخيال في المصطلحات واختيار الكلمات الطلسمية. كما هو عند كتاب الشعوذة لاقناع البسطاء من الناس بفعالية اعمالهم ..
(ان الفنان لا يصور الواقع كما هو مستقلا عنه بعيدا عن مشاركته، لان مهمته ليس مجرد تقديم تقرير عن نتيجة المعركة. بل انه واحد من المناضلين له نصيب من المبادرة التاريخية ومن المسؤلية .. . - جارودي) – ويقول المفكر وردزورت بان الفنان (انسان يتحدث الى الناس) ويتفق هذا التفكير مع الوصف الكامل للفنان المثالي في نظر تولستوي والذي يطالب الفنان والناقد ان يستخدم لغة الناس ..
د. كاظم شمهود
تعليقات
إرسال تعليق