"بصمات فنية" الحلقة الخامسة : *مصطفى بوسنة*... عقل المكتبة الذي يجعلك

بصمات فنية" الحلقة الخامسة : *مصطفى بوسنة*... عقل المكتبة الذي يجعلك فنانا موسوعيا.




داخل تيّار النزعة الثقافية للأنثربولوجيا، اكتست مطارحات الوعي الفكري والفلسفي الجديد، في تفسيرها لقضايا الثقافات والفنون، عدّة مداخل أنطولوجية فهمية، بدى على إثرها العقل الإنساني، مستنجداً بحتمية تقديم مقاربة مفهومية، من منظور أكثر انفتاحا ومرونة لعلاقة الذّات بالآخر، حيث نجم عن تلك التّحولات، إنتاج مدارس وطبوع فنية وأدبية، سايرت ركب المنطق الاستيعابي للفكر، بقدرة ما يحمله من انسحابات على مستوى الخيال والوجود، لاسيما عبر فنيات التخطيط والتدوين النهضويين، التي أحيت موجة التشكيل كفلسفة عابرة للحدود والأزمنة على حد السّواء، فعلى مبنى ما توليه معرفة الرسومات من اهتمام بحقول الدراسات الاثنوغرافية، ستلمع أمامنا صورة فنان عريق وغريق، فلسفياً، روحياً وفنياً، تركت ثقافته الخصبة تجاوباً كبيراً وسط بساتين الإبستيما الإنسانية، التي صنع منها سياجه المنطقي بنظرية الذكاءات المتعددة، فكلّما خضت معه أطرافاً من الحديث، التمست فيه ذلك الأديب الذي عشق الشعر والروايات إلى حد النخاع، والاجتماعي الذي وقتما تزلزلت أصوار نفسيته الفنية، تجده مستأنسا بمقاربات السيكولوجيا، ومناهج السوسيولوجيا، وأدبيات الابستيمولوجيا، كما ستستنبط منه استدلاليات المنزع الرياضي في علوم الطبيعة، ومقابسات السماع الصوفي في تأملاته الروحانية، فعندما يشدّك الحنين إلى لقاءه على درب الفن التشكيلي الخالص، فكن مثقّفاً موسوعيا لأنّك ستصطحب معك "عقل المكتبة" !، فمن سيكون هذا العبقري؟ غير الفنان الرائد الأستاذ :"مصطفى بوسنة" ابن مدينة "برج بوعريريج" الجزائرية.




فمن قِبل غزارة التحليلات المُتجاذبة في حلبة النقاش الفنّي لدى الأستاذ "بوسنة"، تنجلي مشاعر الانشداد الثقافي والحضاري في استملاك سيرورة التاريخ الإنساني، مستندّة على نشوء معنى "التثاقف"، باعتباره "مضمون تجربة" إنسانية، تسمح بالانتقال الحر للمتون الثقافية، من حيث هي تشكّل تلقائي لما يمكن أن نسمّيه مع "هوسرل" بــ :"عالم الحياة" (Monde de la vie)، أو ما قد نُكنّيه اصطلاحا بـ "معيش الثقافة" (vecu de la culture)، وهو ما جعل "مصطفى" يبني رابطة فهم وتواصل بين الهويات الثقافية المتباينة، على مشارف أعماله الفنية السحرية، التي أقرّت حسب –جاك ديريدا- "بالتوقّع غير القابل للاختزال" ليبزغ "العالم كوحدة مفتوحة"، وهو الأمر الذي جعل الفنان "بوسنة مصطفى" يتجاوز فكرياً، قصور التاريخانية الجديدة، التي تخلّت على مفهومات المحاكاة، الوهم، التخيّل وفعل الترميز، مما أدى به إلى إخراج مفهوم الهوية ذاته من أسر التقليدانية، الذي يقضي ببداهة التطابق والتماهي مع الذّات، بشكل يمنع اختراق بنيته المفهومية، التي انطوت على قرار ميتافيزيقي لا يطاله أدنى تحوير أو تعديل، فمن هنا، جاءت حيثيات الاختلاف الثقافي والهويّاتي في بناء نزعة الأنسنة، التي تستوعب مقتضيات الغيرية أو الآخروية (L’Altérité)، وفق نمط أساسي من الوجود هو: وجود المعية لا وجود النّدية.






وتباعاً لضرورة التسليم "بالبنية الحوارية" للثقافات في فكر "مصطفى بوسنة"، نجد معيار "الكفاية التواصلية" لزمانية الفكر والتفكير الإنساني، التي تُثير شجون وإلهامات الفنان في رحلاته عبر التاريخ، فإن كانت تحيينات التذاوت (L’Intersubjectif)، قد وجدت كينونتها في العالم المعيش، كخارطة طريق بين "فضاء التجربة" و"فضاء الانتظار" حسب منطق –بول ريكور-، فإنه علاوة على ذلك، قد عبّد مساره الفنّي من أرضية "اللوغوس" إلى كونية "الميثوس"، التي اشتملت حسب منظوره على خاصيتي "القصص" و"الأساطير" دونما أي فعل تماسفي (Distanciation)، ليغدو مع "إدغار موران" نحو مفترق طرق تساؤلي مشترك، تجلّت أحوازه في :هل بمقدورنا حقاً أن نُفكر في الفكر الرّمزي/ الأُسطوري/ السِّحري من وُجهة نظر الفكر التجريبي العقلاني !؟، لاسيما وأن المتتبع لفعل التفلسف الفني لدى "بوسنة" عبر ابداعاته التشكيلية، سيستشف سيميولوجياً أن تركيزه على الألوان الداكنة والمثيرة للانتباه –ومنها البنفسجي تحديدا- لها معان ورمزيات في الروحانيات والخيال، التي تجسّدت بداياتها من عمق الأثر الحكواتي الشعبي والسرد القصصي التمثّلي، التي تبنّاها فنّاننا في منشئه كمعرفة ضمنية في تصوّر الأنا ،الهو والأنا الأعلى –بالمنطق الفرويدي-، فلم تكن طفرة ثمانينيات القرن الماضي، إلاّ وثبة خاطفة في عالمه التشكيلي، المتعطش لمُحاكاة الثقافات والحضارات المجاورة، الغنية بأقصوصاتها الشعبية ومغامراتها السحرية، أين سنجد في مضمار ابتكاراته الخلّاقة، تلك المهمّة التعليمية التي تؤديها لوحاته التشكيلية بفعل "أنسنة الثقافة"، التي نقف من خلالها على استفادة العقل العربي من المثاقفة الأجنبية :"كالهندية، والفارسية والصينية والسريالية واليونانية، ..الخ، أين سنقرأ منها عبرا ونفحات راقية تكتنفها الغرابة التّأويلية لعل أهمها: "خيول الريح، مدن التيه والسراب، أميرة سمرقند المفقودة، ناي الرماد، مدن الملح، حدائق النور، العائدون من زاما، روسيكادا، زانوبيا، خيول الأمير، التائهون، هدهد الرماد، ..الخ
 






فبعيدا عن منطق صراع أو صدام الحضارات التي أنتجتها مقاربة "صامويل هنتجتن"، يمكننا معاينة الفكر التثاقفي لعوالم الأسطرة في زيتيات المبدع :"مصطفى بوسنة"، خاصة عندما ندقق جيدا في أن الفكر الأسطوري، قد تطوّر وتنقّل وتحوّل وأنتج أساطير جديدة، تتركّز على الأفكار، فلا تعيد الأسطورة الجديدة بتاتا إدخال التفسير بواسطة الحي والفردي والمحسوس، حيث يسود التفسير بواسطة الفزيائي والعام والمجرّد، بل إن العيني المعيش الذي يتسلل إلى الفكرة المجرّدة أو العامة هو الذي يجعلها حيّة. إنها لا تعيد إدخال الآلهة والأرواح، بل تُروحن وتُولّد الفكرة من الدّاخل، ومن ثمّ تقوم دافعية الفنان إلى خلق الثقافة السمحاء والمنفتحة على العالم الخارجي بمعيار التنافذ الثقافي، الذي جعله يقارب منطقه إلى فكر –مهدي المنجرة- "عالم المستقبليات" عندما يشير إلى أن القيمة تبدأ باحترام الغير وتقدير الآخر، نافيا كل ما تنتجه أكذوبة "التفوق الثقافي"، التي تجرد الخصوصيات وتحجب رؤيتها في التماهي مع الكونيات، فأمام هذه التعقيدات المتضاربة في فهم الميثوس لدى "مصطفى بوسنة"، لم نتوسم نزوعنا لفشل تفسيرات "اللوغوس" إلا من اختبارات الأنثربولوجي "مارسيل موس" عندما يقول :"إن الأسئلة التي تطرحها الميثولوجيا هي الأصعب"، فعلى العموم، لم تكن مدارة التفكير في عالم هذه الجوهرة بالأمر الهيّن، فلوحاته في كل مناسبة تحييها جمعية البصمة للفنون التشكيلية، تترك طعما وانطباعا خاصا وسط الجمهور الثقافي، لأنها كانت ببساطة منادية على الدوام إلى فن الخطابة التأويلية، بلسان مختلف الحضارات الإنسانية، فعندما ننظر إلى الفنان "بوسنة مصطفى" نستحضر ما عايشه ذلك الأعرابي في العصر العباسي، عندما استمع إلى كلام أهل النحو في مجلس "الأخفش"، فلما سأله الأخفش: ما تسمع يا أخ العرب؟ قال: "أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا".

بقلم: كمال صلاي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح