(2ـ4)المفاهيمية في التشكيل العربي / علي النجار


 (2ـ4)المفاهيمية في التشكيل العربي
.........................................................

    حداثة او قدامة النص في العمل المفهومي:
... ويمكن القول ان المفهوم كائن اصطلاحي, شرطي لحصول الفهم, له حياته الخاصة, المعرفية, والفكرية, التي تتغير في سياق المجال
المعرفي الحاضن لها, وفي المشكلات التي تطرحها او التساؤلات
التي تجيب عنها أو المركبات التي تقوم أو تنهض على صرحها. وتنتج
المفاهيم اشكالا تنسجم ومجالها المعرفي, كونها ترتب  بمجموع
وعمليات تخص انتاجها وصناعتها, اذ تتخذ ترتيبية تفاضلية بحسب
أهمية حقلها المعرفي, أو بعبارة أدق بحسب الاقليم المعرفي والدلالي
الذي تنشأ فيه وتترعرع
                                                                                                        عمر كوش(*)


....................................
  في معرض دوكومنتا الخامس عام (2072)  وتحت عنوان ذو صبغة(باطنية(**) عرض عمل لفنانين من مجموعة (الفن واللغة) التي تأسست في المملكة المتحدة عام(1968). العمل يتكون من منصة حجرية ترتفع فوقها عدة ادراج لحفظ ملفات سوداء تحتوي كتابات في الفن والسياسة, وعلى الحائط نص باعمدة طويلة من الارقام والحروف والتي تمكن المشاهد من فك نصها حسب هواه. ليس العرض هذا هو الوحيد الذي كرس النص المكتوب عملا فنيا. لكننا ولحد الان لا نعدم الاشتغال على النص المكتوب او المقروء او صورته الضوئية والصوتية الفيلمية. علما بان اكثر الاعمال النصية الفنية سواء ما كان منها ملغزا او مفهوما لا تعدم جذرها الحفري التاريخي. وان كانت في فترات الريخية سابقة تندرج ضمن النصوص السحرية, ومنها طلاسم المنطمات الكهنوتية السرية مثلا. لكن وبما ان القصد من كل ذلك خلق مفهوما من افكار موازية للواقع, رغم لا واقعيتها. فان تاريخنا الادبي العربي والاسلامي لم  يخلوا من شواهد نصية كثيرة مبثوثة في صفحات لا تحصى من المؤلفات المشهورة, كألف ليلة وليلة, وكليلة  دمنة.  والعديد من النصوص الكهنوتية  الباطنية التي لا تحصى.  الفنان المفاهيمي البلجيكي(فرانسز ايلس) جعل الثعلب يجول وحيدا وضائعا في دهاليز متحف البورتريت اللندني وكان عملا عبثيا ظاهره. لكن الفنان لا يبحث عن العبث كفعل مطلق. كذلك لم يكن في نية روزبا كليلة ودمنة ان يكون اختراعه فكرة الثعلب عبثا. وان اختلفت دلالات الفكرتين. لكننا استقبلناهما كعوالم افتراضية محاذية لبعض غموض عوالمنا الدفينة, او كعوالم  مواز ية لعالمنا. هنا يكمن اللغز الفني المراوغ, وسواء كان  صنعة ذكية, او متعديا وهم ادواته التقنية التقليدية.
    قبل سنوات قليلة قام فنان يوغسلافي في قاعة الفن الرئيسئة لمدينة مالمو السويدية, بمناسبة مهرجان الشعر العالمي, باداء نصي مفهومي, لم يكن عرض هذا الفنان سوى ترديدا لحروف الابجدية السلافية القديمة المنقرضة. بجانب صورتها الخطية على شاشة العرض المرافقة. في محاولة منه لاستعادة صوت حروفه الاثرية, او لسانه الضائع شكليا, وسط جمع من مؤدي اصوات الحروف العالميين(الشعراء), وكتذكرة لاستعادة النسيان.                         التذكارات الالسنية(المفاهيمية) العربية الاخرى, ليست نادرة, فالاثر يزخر بها. لكننا وكابناء لجيلنا المعاصر نفتقد النصوص المتحولة اداءات فنية مفاهيمية تستوحي روح العصر ولا تنفصل عن حاظنها البيئي,مثلما كانت,. وبما ان العديد من الاداءات الفنية المعاصرة انبنت على نصوص شعرية. أو الغاز دلالية, او رؤى حلميه او بوح لسير شخصية. أو مقاربات  لمفاهيم سياسية أو اجتماعية أو أي نص قابل لتحميله معان مستترة لكنها ربما تكون  قابلة للكشف عن دلالات خباياها بمفاعيل أدوات الاداء ألمفاهيمي. ولقلة اشتغالات الفنانين العرب على الاداء كـ(نص او صوت), وربما بتأثير من ثقافتنا الشفاهية الطاغية اجتماعيا.  فهل بإمكاننا ان نعتبر اداءات ثقافية اجتماعية لا تزال تمارس تأثيرها في الوسط الاجتمهعي العربي  كـ(الداعية الوعظي المعاصر.. الافندي) او المؤدي الكوميدي الميلودرامي,  مثلا. نماذج فنية ادائية, بما انها امتداد للراوي الشعبي في موروثنا الشعبي العربي (بمنصته, أو مسرحه الافتراضي). اعتقد, وبما ان الاداءات المفاهيمية المعاصرة لا تنفصل عن حاضنها الاجتماعي. فبإمكاننا اعتبارها اداءا مفاهيميا بشكل مجازي. فالفكرة, اوالافكار. جاهزة لمناورتها مسرحيا(أدائيا) في كليهما. ومع ذلك. فان الهاجس ألمفاهيمي المعاصر يبقى غائبا عنهما. الا فيما ندر. لكنها مع ذلك تبقى تجارب من الممكن استلهامها في العمل الادائي العربي وبموازاة مداخلاتها الاجتماعية, مع اللعب على مضامينها بما يناسب الكشف(الباطني) او اسرار اللغة المعاصرة واهتماماتها الفردية والجماعية, الجادة منها والفنتاسية.
    احيانا لا نعدم هكذا اشتغالات بشكل مطلق. الفنان المغربي محمد الباز مثلا في نصه الفني(لنتخيل) يجيز للافاريز الكونكريتية الخارجية لبناية في عمان(اعتقدها مرابا عاما للسيارات) وبطبقاتها المتدرجة, ان تحمل عباراة نصه المفهومي. هو ايضا يحمل العديد من اعماله التجميعية الجسدية(الفوتغرافية) نصوصا لا تبتعد عن خفاياها المفهومية. الفنان  الاخر, الفلسطيني اشرف فواخري في عمله التجميعي(انا حمار, صنع في فلسطين) المتمثل بمجموعة على شكل اوراق مذكرات ملسقة على بلوكات خشبية معلقة ومرصوفة بصفين على الجدار وبرسوم حمير وبتكنيك حر. العمل اعتقده يمثل نصا تجاوزيا  متعدد القراءات. وان كان عمل الباز نصا حروفيا بتأويلات وجدانية. فان عمل فاخوري مقروءا بايحاءات سياسية تعدت نصوصه المدونة.


  اشتغالات الصورة المفاهيمية:
الرسام يمنح جسده للعالم, وتاليا يحوله الى رسم
(ميرلو بونتي)
ولا فرق اذا قلنا: الفنان يمنح جسده للعالم, وتاليا يحوله الى فن
...............................................................
    
       تنوعت الاشتغالات الفنية المفاهيمية بتنوع حوامل موادها واختلاطاتها. لقد دخلت الصورة المعاصرة( وهي من ادوات الميديا النشطة) مجال اداءات الفنان. وباتت الصورة الفوتوغرافية الفنية والفيلم الفيديوي, من عوامل انتشار العمل المفاهيمي, والعمل التجميعي او الانشائي, اظافة للوسائل والوسائط المختلطة المتعددة التقنيات. وزيارة واحدة لمعارض اطروحات طلاب الفن في المعاهد والكليات الفنية العالمية المعاصرة, تقنعنا بان معالم الفن التشكيلي قد تغييرت عن بشكل كبير ومثير, وغريب احيانا يوازي غرابة التحولات الدراماتيكية في مجالات الفنون والعلوم المعاسرة. لقد اقصت هذه النتائج المختبرية الفنية (غالبا)الوسائط التنفيذية التقليدية(الحداثوية) بوسائط الصورة الرقمية الجديدة والضوء والصوت والميكانيك والكهربائية والفروع العلمية الجديدة ومفردات العمارة التفكيكية وكل ما يخطر على البال من وسائط قابلة لمطاوعة تنفيذ الافكار والصور الغرائبية. لكن وفي الجانب الاخر, ادى طهور هذه المكتشفات(الرقمية) الى توسيع ارضية الاشتغالات الفنية الاجتماعية ايضا. وكما حلم الفنان الالماني(جوزيف بويز) بان كل انسان فنان بالفطرة, وحاول تطبيق ذلك حينما كان استاذا بكلية الفنون. فالوسائط الرقمية وما يلازمها من برامج الفوتو شوب وسلالاته التي لاتنتهي, وفرت لأي كان ومن اية فئة عمرية. ان يحقق حلمه فنيا ويخلق  وا
عالمه الثاني المفضل. بل وحتى يعممه على برامج التواصل الاجتماعي عبر الانترنيت. واحتفت 
الحدود بين المفهوم والافتراض.


     كثرة اعمال الفنانين العرب في هذا المجال الابداعي لم تعطني الفرصة الكافية لتغطية نشاطاتهم, داخل وخارج بلدانهم, وان تكن اعمال الفنانين العرب المغتربين اكثر عددا. ولم يعد للريادة من دخل في هذا الامر(كما كانت الحداثة). فالفضاء السبراني مفتوح على سعته للاطلاع والتأثر والتاثير والتداول. لكن مع كل ذلك. فلا يزال الفنانون المجيدين يتلقون (علومهم الفنية) في العديد من اهم جامعات الفن في العالم. مما يوفر لهم فرصة اختزال زمنهم للدخول الى المجال الفني العولمي بادواته المعاصرة الاكثر تأثيرا. وان حافظ العديد منهم على صلة وصل وحواضنهم المحليىة الاولى, فان الاغراءات الملتبسة باهداف شتى اخذتهم بعيدا عن ذلك. لكن يبدو ان للقضايا السياسية والاجتماعية الاكثر الحاحا, ومنها قضية فلسطين ولبنان وحرب العراق, في الشرق. والهجرة الغير شرعية والهوية الوطنية, في شمال افريقيا. والقضايا العامة كالتلوث البيئي والحروب الطائفية والارهاب وصراع الاضداد الثقافي والبيئي, نصيب وافر من هذه الاشتغالات.
    امثلة: من لبنان اشتغلت الفنانة الشابة(تانيا الخوري) على تنفيذ عدة افكار بالفيلم الفيديوي, منها فيلمها(موجز مرئي) عن تعارضات البيئة المدنية وحرية الذات المتوحدة. وانتقلت الى فكرة مغايرة تماما في فيلمها(حياة الخشب, او الغابة) حيث توحدت شخصيا وعالم سكون مخلوقات الغابة الخشبية, وحاولت ممارسة انبات ذات جديدة بمحاذاة ذوات الغابة الازلية. لقد  تنقلت وبكل حرية بين ادائين مفكر بهما قبل التنفيذ. وهذه احدى اهم سمات تنفيذ الاعمال الفنية المفاهيمية.
    المغربية زينب سديرة في مجموعة افلامها (التوابيت العائمة), اشتغلت وبمقدرة تنفيذية عالية على تفكيك صور الهجرة الغير شرعية. ولم تكن الصورة عندها الا معادلا لتبادل الادوار الدراماتيكية عند حافة الانهيارات او الخيبات الانسانية. وسطوة مشهدية البحر بصفاء مياهه الغير عابثة بمصائر لم تكن تخوص تجربة الصراع من اجل البقاء, لولا الضرورة القصوى لذلك. لقد تلاقحت افكارها عن الحدث الدراماتيكي المتحرك. وسطوة الفضاء اللغز النتعثر بما يحمله من اقدار هو غافل عنها.
     للفنان العراقي المغترب(وفاء بلال) صورة فوتوغرافية معبرة تحمل كل معاني الحدث الفلسطيني. لقد بدى الفنان فيها عاريا تغطس ارجله في الارض المشققة و يحمل على ظهره هيكلا لقبة الصخرة. لقد جمع الفنان في هذا العمل معاني النكبة الفلسطينية واستلاب حتى ما تبقى من رموز ارضها, وبقي وحيدا وسط محنته لا يستطيع حراكا. فلا هو استطاع انفصاما من تربته(ارضه) ولا هو ثبت ارثه التارخي ورمز الجيني(كعبته الثانية) ولا استطاع خلاص نفسه. لقد ابان العمل(الصورة عن مجمل اشتغالات الصورة مفهوميا. وباقل الوسائل التنفيذية. وهذه ايضا ميزة من ميزات الاعمال المفهومية. التي يتجاذبها طرفي الاختزال (منيمالت) والمشهدية الواسعة.
  ولا يسع المجال لذكر مزيدا من الامثلة لانها لا تحصى.
...................
(*) ـ عمر كوش, عن كتابه اقلمة المفاهيم, منشورات المركز الثقافي العربي
     Hermeticism(**) ـ
......................
علي النجار
  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي