عبد الوهاب عبد المحسن ينصت لأصوات الطبيعة / أمل نصر
عبد الوهاب عبد المحسن ينصت لأصوات الطبيعة/أمل نصر
الحوار مع الطبيعة مسعى روحي يتخلص عبره الإنسان من ثواقله الدنيوية وينطلق
إلى ساحة مفتوحة دائماً للإنعتاق والتحليق . وذكرياتنا حول مَشَاهد الطبيعة لاتحمل مجرد صور لسموات وأرض ومابينهما لكنها قبل كل ذلك تحمل ضمناً ما تشعره قلوبنا تجاه تلك المشاهد ، فكل منها مقرون فى دواخلنا بمشاعرنا الخاصة وهذا مايضفي عليها حالة إنسانية تعاطفية تظهر فى تصويرها فنياً بروح مختلفة من فنان لأخر .
ويقدم الفنان عبد الوهاب عبد المحسن طرحاً جديداً لفكرة المشهد الطبيعي من منظور أكثر جدة وحداثة ينقله من طابعه الوصفى ليحيله إلى حالة وجدانية خاصة تنضح بها جميع الأعمال ، إنه يقدم بحثاً بصرياً فى روح مظاهر الطبيعة ويجردها لينقل إلينا تعبيراً مكثفاً عنها .
إن الفنان يتوق إلى الطبيعة فى بلدته هرباً من صخب أصوات البشر المتناحرة ، يتوق للإنصات لأصوات أخرى غير بشرية : حفيف الشجر ، صوت تساقط الأمطار ، صوت رقرقات الريح للمياه ، ضجيج أصوات الطيور الطفولى وفرحتها بالصباح الجديد . إنه يصغى لصوت أخر غير صوت البشر والآلات . ويستحضر تأملنا لأعمال الفنان عبد الوهاب دعوة الفيلسوف الفرنسي "ميرلوبونتى" إلى الإعتراف بالحياة الذكية للجسد نفسه ، الجسد الذى يتنفس وهو يجرب ويسكن العالم وليس الجسد الموضوع فى كتب " التشريح" ، الجسد الحي الذى يجتذب كينونته من التراب والنباتات والعناصر التى تحيطه ، إنه يمنح نفسه إلى الريح إلى البحيرات إلى التربة إلى الأشجار والطيور ناشراً نفسه وهو يتنفس العالم ويتبادل معه العطاء ، يتعامل مع الجسد كنوع من الدائرة المفتوحة التى تكمل نفسها فقط فى الأشياء والعالم . استحضرت هذه الدعوة أثناء حواري مع الفنان حول تجربة المعرض فقال : أنه لايستطيع أن يرسم إلا فى مدينته الأثيرة " كفر الشيخ " رغم إقامته لفترات طويلة فى القاهرة بحكم عمله ، لايستطيع أن يرسم دون أن ينظر للسماء دون أن يمشي فى الغروب أو الصباح الباكر على ضفاف البحيرة ويستشعر قطرات الندى على وجهه ويرى السحاب والشجر ويسعد بمرور الطيور على يمينه تحمل خيراتها وفألها الحسن . إنه يرسم فى ونس مدينته وحكاويها وبحيرتها ، لعله عندما يعود للمدينة الكبيرة يستطيع أن يجلب معه بعض السعادة التى تعينه على الحياة ، لعله يزيل الصدأ عن حواسه التى تراكم عليها غبار العاصمة .
وإذا كانت الأرض قد تحولت بإزذحامنا وتشابكنا إلى غرفة ضيقة تنؤ بساكنيها المتصارعين فمازالت أسطح المياه هى نوافذنا على الكون ، متنفسنا الوحيد للعودة للحياة . إن الفنان يهرب إلى البحيرة كأنه يرتاح معها من وطأة إيقاع المدينة اللاهث المضجر الذى يغتال أرواحنا ببطء وبلا ضمير . فبينما ننظر نحن إلى الأسفلت ينظر الفنان عبد الوهاب عبد المحسن إلى رقرقات ضوء القمر فوق سطح بحيرة البرلس . إن هذه الارتحالات الروحية التى يقوم بها الفنان تحمى روحه من الفقد وسط حالة من اللهاث اللا إنسانى فرضتها الحياة المعاصرة .
إنها مرة أخرى : بحيرة البرلس التى سطرت فصلاً هامة فى سيرة هذا الفنان حيث ظهرت فى تجاربه "الجرافيكية" السابقة لتنقل الكثير من التمكن المهاري والحرفية العالية للفنان كأحد كبار الحفارين المصريين ، لكن فى هذا المعرض يتخلى عبد الوهاب عن تلك الإمكانيات ليخاطبنا بلغة تقنية أكثر بساطة وعفوية وأقرب لإلتقاط تلك الحالة العاطفية الأثيرية التى تناول بها البحيرة هذه المرة ، لقد تجلت بحيرة البرلس فى هذا المعرض من خلال أعمال اعتمدت تقنية السهل الممتنع فقط القلم الرصاص وطبقات من الصبغات الملونة الشفافة حيث يبدأ الفنان بمساحات من اللون الشفاف فيضع بنية بصرية هادئة للمكان ثم ما تلبث الخطوط أن تتدافع متتالية متقطعة متعددة الاتجاهات لتنسج بنية خطية للشكل تترسب فوق بنيته اللونية الأولى فيتنج عن تلاقيهما الكثير من التأثيرات غير المتوقعة فى مساحات الضوء والظل التى لم يستخدمها الفنان للتجسيد أو التجسيم بل بسطها على اللوحة فأعطاها شكلاً متموجاً من الإقتراب والإبتعاد مسافياً بالنسبة لعين المشاهد ، ثم تتناثر بقع اللون كالرزاز أو كخطوط الأمطار أو كحركة مياه يخرجها الريح عن سكونها . تتجاور الخطوط المتقطعة المتتالية القصيرة لتحدث بتراتبها وتتابعها شبكة نسجية ترسم سطح البحيرة الرقراق الذى يحركه الريح فيبعث القشعريرة فى الأرواح التى لم تزل حية ، ذلك الإحساس الذى تضيعه المدن بإمتياز . وقد نجد شيئاً ما فى الأعمال يذكرنا بلوحة "بوتتشيلي" : مولد فينوس التى يظهر فيها" زفيروس" إله النسيم والرياح ينفخ بملء فمه وهو يزفر بالهواء من أقصى اليمين فتتطاير الزهور فى قلب الصورة وتترقرق مياه البحر وتومض معبرة عن حركة متتابعة .
و ينظر الفنان لمنطقة البحيرة الفنان مقترباً يحدق فيها من الداخل ليحقق أقرب تواصل معها فهو يرسم من قلب المكان الحشائش البرية والنباتات غير المنتظمة والمياه التى تحرك الريح سواكنها وينعكس القمر على صفحتها الرقراقة . ويجعلنا هذا الاقتراب نشعر وكأننا فى قلب البحيرة ، جزء اً من المشهد وليس مراقبين له من الخارج بحياد موضوعى ، فيضفي بذلك تلك الحميمية
فى استقبال المشهد وبالطبع لم يضع عبد الوهاب خارطة للعمل فى اللوحة لكن محاولة استقرائها وتفسيرها بصرياً قد تحرضنا على استكشاف خطوات الفنان فى العمل .
إن أعمال عبد الوهاب تملؤها الحياة وتنبض نبضاً مشبعاً بإيقاع الطبيعة التى يعيد طرحها بتماهي كبير معها نستشعره فى خطوطه المتتالية المتقطعة التى تبدو وهى تنسج الصورة وكأنها إشارات لدقات قلب أو إيقاع نبض منضبط على وتيرة الحياة . إنه يقوم بعمل فراغ سحرى أو طبيعة موازية للطبيعة ليس فيها أثر للإنسان الذى أصبح يجترىء على الطبيعة ويعاديها فأخرجه الفنان من المشهد . والفنان يُغَيب الواقع فى التجريد فعلى الرغم من أنه يقدم لنا مشاهداً من الطبيعة إلا أنها تنتمى إلى التجريد أكثر مما تنتمى للواقع ، وقد غمر الفنان مشاهده بضوء درامي وأجواء وادعة أحياناً وموحشة أحيانا و رسمها من زاوية رؤية علوية لكنها قريبة من مساحات المشهد الذي انغمس فيه فأصبح جزءاً منه وقادنا لنرى من نفس الزاوية فأصبحنا داخل المشهد لاخارجه كما هو مألوف فى المشاهد المُصورة للطبيعة . وتذكرنا مشاهد عبد الوهاب بدرامية مشاهد ترنر فنان العناصر الأربع الأرض والهواء والتراب والنار فى علاقتها مع عناصر الطبيعة حيث يذيب مادتها ويحولها لانطباع حسي يميل للتجريد .
والمشاهد تبدو مضاءة بشكل متساو مع غياب للظلال المسقطة والتجسيم ، أحادية اللون إلا من بقعة لون ما ذات وجود أعلى تختلف من عمل لعمل . إن العلاقات البصرية فى الأشكال والأداء النبضى ذو اللمسات والخطوط المجزأة المتقطعة التى تجتمع لتعطى الشكل فى النهاية ، يشعرنا تذبذبها وحركتها الداخلية الناجمة عن تتابعها متتالية فى مسارات متحركة ومتغيرة أنها فى حالة تحول مستمر، ويتغير تأثيرها حسب موقع المشاهد منها فكلما اقتربت من الصورة وجدتها تجريدية تمثل محصلة لمجموعة من الخطوط واللمسات وبقع اللون الشفاف وكلما ابتعدت عنها كلما رسمت لك مشهدا طبيعياً واقعياً . فاللوحة عند عبد الوهاب فى مجموعة الأعمال المقدمة فى المعرض ذات مظهر تفاعلى متغير ، وفضاء المشهد عنده هو فضاء تفاعلى ديناميكى يعكس حالة من حالات نمو الشكل الذى مازال مستمراً ومتفاعلاً ونابضاً ، لكن سرعان ما يتحول اهتمامنا من إدراك قيمة الاستقبال الحسي للأشكال إلى قيمة إدراك بنية الشكل والنظم التى تحكم علاقاته فتعطيه هذا التماسك ، يضاف إلى ذلك هذا الفيض التعبيري الذي تبث تلك المشاهد بحالتها الضبابية الغائمة الغائمة فلا تخلو معظم الأعمال من كتلة داكنة هيولية ومبهمة وفى حالة من التشكل الذى لم يكتمل وهو مايمنح اللوحة سراً جديداً . من هنا عكست المشاهد إحساساً بصور سديمية غامضة على الرغم من انتماءها لفن المنظر .
ويقدم الفنان حالة من التماهى مع المسطح عبر إيقاع صوفى منتظم فى ترديدات وتكرارات الخطوط تارة وبقع اللون المتناثرة تارة ولمسات اللون تارة أخرى وهو بهذا الإيقاع يقطع طريقاً للإقتراب من إيقاع الكون الذى يذكرنا بأننا ننتمى إلى كل أكبر وأكثر جلالاَ ولا حدود له ، وبذلك نستطيع أن نفلت من دوامة الحياة المعاصرة التى تحاول أن تبتلعنا وتطمس الإنسانية فينا . إن الفنان ينخرط بشكل أو بآخر في سياق حركة بنائية تهدف إلى مشاركة الطبيعة تألقها وإشعاعها فمنذ بداية تشكُـل وعى الإنسان وهو يسعى دائما لربط عناصر الطبيعة وتفاصيلها بدلالاتها على مغزى الحياة والانسجام الكوني الشمولي الذي يربط الإنسان في علاقة جدلية بالمنظومة الكونية ككل . إن مشاهد عبد الوهاب تذكرنا بتصور العقيدة الهندوكية التى تقوم على النظر إلى الكون بوصفه حلماً متصلاً تتناثر على سطحه المخلوقات كتناثر مياه الأنهار على الأرض قبل أن تجف وتذهب بدداً خلال الظلمة السرمدية ، وكانت هذه الحركة بتغيراتها المستمرة فى مقابل الطبيعة السرمدية هى كل ما طمح الفن الهندوكى للتعبير عنه . إلا أن الإنسان فى العصر الحديث قد بدأ ينظر للكون بوصفه ملاحظاً ومراقباً وفصل نفسه عن العالم المحيط به ؛ فلم يعد الكون رداءاً يلتف به وإنما مشهداً يراقبه وبالتالى خرج منه ، فخرج أيضاَ من المشهد المصور . وقليلون هم الفنانون الذين أعادوا النظر لمشاهد الطبيعة ليتماهوا معها كأكبر تجلى لهذا الكون ومنهم الفنان عبد الوهاب عبد المحسن .
وأختتم كلمتى هذه بقصيدة من قصائد الهايكو اليابانية استحضرتها أعمال عبد الوهاب ،
يقول فيها الشاعر " لي تابي بو 702 – 763 م"
البحيرة تهدهد قمر الخريف
و قد انعكس على صفحة المياه الخضراء .
لكن ، وا أسفاه ، صوت مجدافي
يعكر نشيد الحب الذي تتوجه به زهور البيلوفر إلى القمر
أمل نصر
تعليقات
إرسال تعليق