العلاقة بين التشكيل والقصة عند عبد الحميد الغرباوي / محمد سعود
العلاقة بين التشكيل والقصة عند عبد الحميد
الغرباوي
( المجموعة القصصية القصيرة جدا :" قال
لي ومضى" نموذجا )
(محمد سعود)
إن الحديث عن تجربة المبدع المغربي الكبير
عبد الحميد الغرباوي في القصة فقط يعتبر إجحافا في حقه ، إذ بموازاة
مع الكتابة القصصية فإن التشكيل البصري
حاضر بقوة في مساره الإبداعي . وتبقى تجربته الثرية في الفنون التشكيلية مدخلا أساسا
لفهم جوانب مهمة من شخصيته ، وهذا مما يساعد على فهم أكثر لتجربته الكبيرة في مجال
القصة، وهذا الثراء الكبير لن يتأتى إلا باكتشاف عوالم من الأشكال والخطوط والألوان
التي تؤثث فضاءات أعماله الفنية ،وتزيح الستار عن عالم خفي من شخصية مبدعة عز نظيرها
في الإبداع المغربي المعاصر.
حين تتأمل لوحاته تنكشف لك رؤيته الفنية
المحبلة بالكثير من الحس الفني والمتعة البصرية ، جل لوحاته التي اطلعت عليها تتخذ
شكلا عموديا مما يجعلها أكثر حركية ومفعمة بالحياة ، وحتى الأشكال المستطيلة التي تعبر
عن السكينة والهدوء وتتخذ شكلا أفقيا ، يجعلها تنحو عموديا لتقوي من البناء الكلي للوحة
وتزيد من حيويتها .
ألوان ريشته جلها حارة ، يوزعها على لوحاته
في أشكال شبه هندسية متحررة من القياسات أو مساحات لونية تتجاور في ما بينها دون أن
يفصلها بخطوط عن محيطها ، وتارة تتداخل في علاقات حميمية في ما بينها ، وكأنها حالات
إنسانية مستمدة من شخوص إبداعاته القصصية .
إن أعمال المبدع عبدا لحميد الغرباوي لا
أثر فيها للتشخيص ، بل هي تجريدية محضة ،، تعتمد في جلها على أشكال شبه هندسية وتخرق
القياسات المعروفة في رسمها ، و لذلك لا يمكن تصنيفها ضمن التجريد الهندسي، بل تمتح
أكثر من التجريدية الغنائية وان كان فيها بعضا من التجريد الهندسي ،، أي أنها توليف
من الأسلوبين بمقاييس متفاوتة..
هذه الأشكال والألوان ليست لصقا تعسفيا
بأعماله الفنية بل هي ذات دلالات عميقة ،، تنتفي فيها كل الأشكال الآدمية وغير الآدمية
المحسوسة وتبقى الروح ثاوية فيها تحتاج عين المتلقي إلى ثقافة بصرية لإدراكها ،، وهي
نتاج ذات واعية ومفكرة تعبر بتميز عن الجمال الطبيعي ، وبتحرر وانعتاق . وكما يقول
الفنان الإسباني الشهير بابلو بيكاسو :
" إن الفنان لا يكون في واقع الأمر في حالة
من الحرية كتلك التي يجب أن يتظاهر بها ... إن الفنان تحيط به العديد من القيود ، وهي
ليست دائما من القيود التي يمكن يتخيلها الإنسان العادي " 1
إن كل بقعة أو مساحة لونية عند الفنان القاص
الأستاذ عبد الحميد الغرباوي تشكل قصة تتجاور مع قصة أخرى ،،، وبإعادة تركيبها بصريا
تتشكل القصة الكبرى ،، وكأنك أمام قصص ألف ليلة وليلة التي تنضوي كلها في قصة كبرى
هي قصة شهريار وشهرزاد أو بتعبير أدق المبدع عبد الحميد الغرباوي بيت الكتابة والتشكيل .
فحضور التشكيل في كتابات الأستاذ عبدالحميد
الغرباوي حاضرة بقوة ، وللاستدلال على هذا الحضور يمكن أن نأخذ على سبيل المثال قصصه
القصيرة جدا "قال لي ومضى " 2، ففي هذه المجموعة قمنا بمقاربة عامة للتشكيل
من حيث الألوان ومستلزمات التشكيل وصفات الفنان والنور والعتمة ، فوجدنا أن كلمة يرسم
أو الرسام ذكرها عشر مرات ، والنحات مرة واحدة ، وخصص للرسام والنحات قصصا منها
"ابتسامة "( ص 19 ) والشلال( ص 70 )، وكبرياء( ص 94 )، ونحات( ص 116 ) ،،
وفي القصة القصيرة جدا " الشلال"
يحاول أن يضفي حاسة السمع للتشكيل البصري ويجعل العمل الفني ينبض بالحياة من خلال حوار
الرسام مع جاره.
عاتب جاره الرسام قائلا له :
" انأ يا سيدي دائم الأرق بسبب هدير الشلال
الذي يزعجني فلا استطيع النوم , استغرب الرسام من جاره معقبا
"نحن نسكن في منطقة لا يوجد فيها شلال
.. وقبل هذا كله ما علاقتي أنا بالموضوع ؟ ..فأجاب الجار : واللوحة التي رسمت على الجدار
المقابل لشباك غرفة نومي ، أليست شلالا هادرا "( ص 70 )
هنا يبدو مدى بلوغ قمة الحركية والحيوية
المنبعثة من التشكيل في القصة ، وقصة الشلال تحيلنا إلى إمبراطور صيني أمر بإزالة لوحة
فيها شلال من الجدار ، لان هدير الشلال يحرمه من النوم ،
وذكرت كلمة اللوحة سبع مرات ،ووردت لوحة
بعنوانها ووهي الجوكندا في الصفحة 54، إضافة إلى أدوات النحت مرتين الأزميل والمطرقة .
و اللون آو الألوان كلفظ ورد ست مرات ،
أما الألوان الأساسية " الأحمر الأزرق والأصفر " فوردت كلها ، وكان اللون
الأكثر حضورا هو الأزرق سبع مرات ، وإذا كان هذا اللون رمزا للسكون والهدوء والذي يعتبره
الفيلسوف الألماني " هيغل" (أي اللون الزرق) " يتناظر وطريقة هادئة
، متبصرة، ناعمة في التعامل مع الأشياء " 3 فإن الأستاذ عبدالحميد الغرباوي تجده
تارة يحافظ على هذا البعد الدلالي في قصة" تحفز"( ص 29 ) "فألقى نفسه
في قلب محيط هادئ ازرق " ، وأحيانا ينزاح به عن بعده الدلالي المعروف حيث يقول
"لا تعلم أن الزرقة والهدوء خدعة "( ص 45 ) من أقصوصة الجريمة . هذا اللون
المشكل والملتبس في الدلالة على الموصوف أو المعنى ، قد ورد ذكره مرة واحدة في القران
الكريم ومعنى لا يوحي بالسكينة وذلك في قوله تعالى في وصفه للمجرمين " يوم ينفخ
في الصور ويحشر المجرمون يومئذ زرقا " (سورة طه ، الاية 102)
كما أن الأزرق استعمله أكثر من مرة للفستان
، واللون الأزرق في ملابس المرأة يدل على الامومة ، فمريم العذراء حين كان يرسمها الفنانون
كأم ترتدي لباسا أزرقا ، كما أن الأمهات الراهبات يرتدين ثيابا زرقاء ، ويمكن أن نستحضر
الخطوط الزرقاء في لباس الأم تيريرزا ، وهذا ما بذهب إليه هيغل حين يقول : " تلبس
مريم العذراء ، حين تمثل جالسة على عرش بصفتها ملكة 75 السماء ، رداء احمر ، بينما
تلبس أخر ازرق حين تمثل الأم " 4
وهذا اللون عند المبدع عبدالحميد الغرباوي
في الفستان هو تعبير عن حالة لا شعورية عن الأمومة ، وقد تطرح سؤالا حول طفولة وحياة
المبدع ، أهو عانى من اليتم ؟ وليس من الضروري أن يكون من ناحية الأم ...
وذكر اللون الأصفر مرتين، أما الأخضر فثلاث
مرات ـ أما الألوان الثانوية فلم يذكر منها إلا اللون الأخضر ثلاث مرات ، كما وردت
بعض التدرجات اللونية مرة واحدة في كلمات شقراء والزعفرانية وسماويا وموردا ...
أما الألوان المحايدة والتي لا تعتبر لونا
لا في الألوان الصباغية ولا الضوئية فكانت أكثر حضورا في النصوص القصصية فالأسود
13 مرة ،والأبيض 12 مرة والرمادي 5 مرات ولعل حضور الأسود والأبيض بكثرة هو الأثر الذي
تتركه الكتابة في لاشعور الكاتب ، إذ أن الكتابة سوداء على أوراق بيضاء ،، وهما (اللونان)
اللذان لا تخلو منهما أية لغة إنسانية حتى ولو كانت بدائية حسب عالمي اللسانيات الأمريكيين
" برلين" و"كاي" 5 ،
وهما( لونان) يحضران بقوة في نصوصه وأحيانا
يجمع بينهما فيخلق منها تباينا يقوي من النص
يقول ابن سنان الخفاجي : " ولا شك
في أن الألوان المتباينة إذا جُمِعَتْ كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة ،
ولهذا كان البياض مع السواد أحسن من الصفرة ، لقرب ما بينه وبين الأسود، وإذا كان هذا
موجوداً على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه ، كانت العلة في حسن اللفظة المؤلفة من الحروف
المتباعدة في حكم العلَّة في حسن النفوس إذا مُزِجَت من الألوان المتباعدة "
6 ،
وبمزج الأسود مع الأبيض نحصل على الرمادي
، وإن كان هذا اللون ذكر لفظا خمس مرات إلا انه اللون الذي اعتبره أكثر أهمية في القصص
القصيرة جدا "قال لي ومضى " إذ هو اللون المهمين على واجهتي الغلاف الأمامية
والخلفية بتدرجاته، ولون خلفية الكثير النصوص التي سنتشير اليها في ما بعد .
أما النور والعتمة فتم ذكرهما عدة مرات
فالعتمة أربع مرات والنور خمس مران والضوء ثلاث مرات والظلال أربع مرات وكلمة خافت
مرة واحدة وفاتح أيضا مرة واحدة .
فالمعجم الفني حاضر بقوة في المجموعة القصصية
" قال لي ومضى " والرؤية البصرية للنور والعتمة والألوان للمبدع عبدالحميد
الغرباوي واضحة، وتضفي على كتاباته تميزا في تعامله معها ، فيجعلها تارة تحافظ على
مدلولاتها المتداولة وتارة يمنحها أبعادا جديدة ، فتتحول إلى نقيضها وهذا ما يفصح عنه
بوضوح في قصة" تحول " :" العتمة ضوء ، الضوء ظلام أبيض، الظلال أجساد
’ الأجساد ظلال .." ( ص 30 ) ،وكذلك في قصة العمى " عم المدينة ، فجأة ،
عمى أبيض، عمى يجعل كل من يصاب بهي غوص داخل هالة من نور شديد التوهج "( ص 97 ) .
هذا الربط المتامسك بين التشكيل والقصة
نابع من ذات واعية خبرت الألوان وجعلتها تتداخل مع الكتابة ، وأصبحا يتساكنان في ما
بينهما ، إلى درجة أن التشبيه أصبح مستبعدا ، ويقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز:
" وإنما سبيل المعاني سبيل الأصباغ التي تُعمَل منها الصور والنفوس ، فكما أنك
ترى الرجل قد تهدَّى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى
ضرب من التَّخيُّر والتدبُّر، في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها
وترتيبه إياها ؛ إلى ما لم يتهدَّ إليه صاحبه ، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب ، وصورته
أغرب كذلك حال الشعر والشاعر، في توخيهما معاني النحو ووجوهه الذي علمت أنها محصول
النظم"7.
فإن سبيل الأصباغ وسبيل المعاني يتجاوران
في نصوص عبدالحميد الغرباوي ، وبالتالي فإن هذا الترابط يجعلنا أمام تجارب جديدة تحتاج
إلى كثير من الدراسة ، كما كانت سابقا وفي تجارب عديدة تتجاور فيها القصيدة مع اللوحة
باشتغال الكثير من الفنانين على نصوص شعرية ،
ويبرز الجانب التشكيلي بقوة في الكثير من
النصوص إلى ما يشبه لوحات حيث تكتب على خلفية رمادية وتوضع داخل إطار من خط اسود رقيق
في أربعة عشر نصا ـ وجلها مستطيلات ،،
وكل هذه النصوص المؤطرة تنتهي بعنوان المجموعة
القصصية "قال لي ومضى " باستثناء تعديلات بسيطة في نص "ثروة "
(ص43) حيث تحذف كلمة "لي" ، أو في نصي تعليل (ص 53 ) ومفارقة ص 107 )، حيث
تعوض عبارة "قال لي" بيسألني.
وتتميز هذه النصوص بتعبير عن حالات وجودية
، وقلق يساور الكاتب ،، ونستدل على هذا ببعض الجمل " لا اشعر بكينونتي "
في نص ألم( ص 13) وفي النص الثاني "أوراق " (ص 18) نجد ما يلي " كما
أنها رسائل تعذر على سعادة البريد العثور على عناوينها ... " والعالم على مشارف
التلاشي " من نص تحول( ص 30 ) ، و
" موت
والباقي لا شيء .. "
من نص العالم (ص 76 ) ، وأيضا" دموع
وتلويج بمنديل ابيض " من نص( ص112)
وغدا حين أموت " من نص "اتفاق
"( ص119 )
وإذا انتقلنا إلى الشكل العمودي هو الذي
يؤطر لوحاته ، لأنه أكثر ثباتا ودينامية ،، وهو نفس الشكل الذي اعتمده في مجموعته القصصية
،، اذ بدل ان يتم التشكيل التيبوغرافي أفقيا للنصوص باعتبارها قصصا إلا أنها تنحو عموديا
،، ويترك فراغات وبياضات ونقطا للتعبير عن مسكون عنه لا يبوح به
ويبلغ الشكل العمودي ذروته في نص"
مجد " حيث يلجأ الى ما يسمى بالحرفية LETTRISME بتفتيت كلمة (الأعلى )ويجعل حروفها مفككة
تتهاوى نحو الأسفل ، ليخلق لعبة بصرية تشاغب الذات الواعية لإعادة تركيبها بعد تعطيل
وظيفتها التواصلية .
فاللون عند التشكيلي والقاص عبدالحميد الغرباوي
ينتقل اللون من حالته الكيميائية و الفيزيائية الى حالة الكتابة ويتحول الى علامة تمنح
اللغة إبعادا إبداعية جمبلة ، وتحقق نوعا من التزاوج بين اللوحة والقصة القصيرة جدا
، وتعتبر تجربته إثراء للإبداع المغربي من حيث الجدة في التعامل مع التشكيل البصري
كتابة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد سعود
مصادر ومراجع البحث
1د. شاكر عبدالحميد : العملية الإبداعية
في فن التصوير سلسلة عالم المعرفة 1987 (109) يناير ص 13
2 - عبد الحميد الغرباوي ـ قال لي ومضى ـ قصص
قصيرة جدا , التنوخي للطباعة والنشر ،ط1 ، 2010
3ـ هيغل : فن الرسم – ترجمة جورج طرابيشي
. دار الطليعة .بيروت .ط1.1988.ص75
4- المرجع السابق ص 75 و76
5- -BERLIN & KAY (1969), Basic
Color Terms, Berkley , CA, University of California
6- ابن سنان الخفاجي – سر الفصاحة ـ تحقيق
عبد المتعال الصعيدي – مكتبة صبيح – القاهرة – 1969م
7– عبد القاهر الجرجاني ـ " دلائل الإعجاز
" – تصحيح السيد محمد رشيد رضا ، - دار المعرفة للطباعة والنشر – 1402ه –
1981م ص70
تعليقات
إرسال تعليق