بكاء على " كاحل" امرأة / سها جلال جودت


رسم الفنان الجزائري أحمد سطمبولي

بكاء على " كاحل" امرأة / سها جلال جودت


.. أمام باب العيادة وقفت تتأمل الاسم، طبيبٌ نسائيٌ مختصٌ بالجراحة والتوليد ومعالجة العقم والسرطان، أرسلت من شفتيها وميض ابتسامة ساخرة، وتابعت صعود الدرج. لم تكن هذه هي الزيارة الأولى لتلك العيادة، اعتادت زيارتها غير مرةٍ ... حيث أدمنت مؤانسة الطبيب ومعاشرته!
دخلت عليه ترفل بثوب أحزانها الذي دنسته يد الخطيئة، اعتملت في صدرها هواجسُ متشابكةٌ متشعبةٌ اشتقتها المرأة الحزينة من أنوثتها التي اغتصبت . خوفٌ وارتعاشُ أنفاسٍ اطّردت في داخلها وهي تقاوم رغبته العنيفة على احتوائها.. - ماذا دهاك أيتها الجميلة ؟ أي خوف ذاك الذي استقر في ذاكرتك منذ أن كنت طفلة رضيعة ؟
******
كان الجو ربيعياً، وكانت السماء ساكنة تبحث عن قمر ينير ظلمتها الحالكة، وكان هو يهرب من الليالي القمرية، يهرب منها كي يختفي عن أعين الناس، حتى عيون السماء لا يريدها أن تراه. قال لها برجاء يستعطف أغطية دّثارها المركونة على قبتين كان يحاول أن يفك عنهما أزرار القميص البني: - دعيني أتحرر من صدأ سنيني، وأكحلّ مرآي بهما...
أوراق الأشجار التي كانت تصغي إلى زفرات عاشقين مترملين من الحب كانت ترتجف، أما هي فكانت تخشى من هذه اللحظة، اللحظة القاهرة لكل سني تعبها ووجدها وبغيها..! أرادت أن تبتعد عنه، لكنه اقترب أكثر، كان لحوحاً، أذهلها وأرعش فؤادها المكتوي بجراح الخطيئة، خطيئة لم ترسمها هي، بل رسمتها لها امرأة كان اسمها ريّا.
كشجرة حزينة وقفت مشدوهة أمام رغبته، دمعه فتح نوافذ الرفض، كشف عن قبتيها الرمانتين بهدوء، تطلع بشراهة إليهما، صرخ : - احتويني ، أرجوك احتوي طفلي الناهض من بركان الدمع.. الماضي الحالك بسواد الخطيئة يرسم لون الدم، نحيب الصبية وتوجُعُها، اندهاشُ الدمع واحتباسُه على كعب امرأة لم تعش بكَنَفِها..!! بريق العينين الذابلتين يتحول إلى شرر وغضب وحقد وانتقام، تصرخ في وجهه: - ابتعد أيها الملعون الخدوع الخاوي. يتجمد الرجل في مكانه، بينما عيناه تستقران هناك.. لن تعيد تفاصيل الوجع لفك العقدة..؟!
كانت رغبته على احتوائها تلهب سويداء فؤاده، أمسك يدها، وضعها على صدره، كانت ضربات القلب تضربُ بعنفٍ كادَ أن يسلبها قوتها، مالت برأسها تحدق في بلاط الغرفة، شعرت بالعالم يدور بها، يدور من حولها، إنها لا تقدر على منحه ما يريد إذا لم تكن سكرى، بالسُكر تنسى من هي!! وكيف تشكلت شهوتَها!! تقول له: - دعني أمضي في سبيلي . وتهم في الخروج.. كانت يده ما تزال ممسكة بيدها وقد ارتعش صوت الحب واللوعة والحاجة إليها، فقال: - كيف أدع آلهتي المباركة لا تتشكل بين يدي بأسفار حبي وتلاوين عشقي، لا تخافي مني، اقتربي، دعي شفتيك تمسحان دمعي..
تضعضعت عزيمتها في تصديها لطفله المجنون، الطفل الذي أحبته، الطفل الذي أغمضت له عينيها وقتما ناداها : "إنانا" . كل توسلاته ورجاءاته النازفة من مرارة الحرمان ردت إليه رجع الصدى .. - أكاد أموت احتراقاً، كفاني موتاً ، لقد ذقته مراراً ونجوت!!
صحتْ على كلمة الموت، صحتْ من شرودها على زغاريد نجواه المتشكية وانتبهت. - أي ريح تلك التي حملتك لتضرب شباكي برذاذ مائك المعطر؟ - جميلتي، إنه الحب الضارب أوتاده في عمق القلب منذ سنين. وعادت للجلوس، ليس من أجله، بل من أجل كلمة الموت التي حركت كائناً سكونياً استيقظ في داخلها كي تستوضح الأمر، فسألته: - حدثني كيف مت مرات ورجعت إلى الحياة ؟ - دعيني في نشوتي، أرجوك. - كيف أدعك وقد أرقت فكري وحركت فضولي، هيا حدثني، افتح قلبك العاشق وحدثني.
بكى الطفل الوسيم، بكى وأمسك بوشاحها الوردي، بلله بدمعه وقال: - حاولت الانتحار في سفري بعيداً، لكنني كنت خائباً، لم أجرؤ على فعلها، تركت نفسي للحياة، لأنني أحب أن أعيش، لا أريد أن أموت قبل أن أشبع رغبتي بلثم قبتيك الجميلتين يا مليكتي الساحرة. وتابع وقد ارتبك بعض الشيء وهو يذكر صورة الرصاصة الطائشة التي اغتالت رفيق عمره في إحدى المظاهرات أمام ساحة الحرم الجامعي.
طالبها أن تمسك بيديه لتقربهما من نهديها المحبوسين خلف ستار من قميصٍ أنيقٍ فك عقدة لسانه وأخرجه عن التزامه كطفل يضع يديه الصغيرتين عليهما وقتما ينام، كعادة يفعلها بعضُ الصغار. كنيزك يضيء عتمة الصحارى، أضاء عتمة دروبها فانقلبت على نفسها وبدأت تجاريه بعواطفها التي حبستها سنين عديدة داخل زنزانات وحوشها التي بدأت تتمرد عليها واحدة إثر واحدة.
هل أفلت زمامك أيتها الجميلة أمام بكاء طفله ودمعاته الدافئة؟ لم تجب ؟ تابع غرامه بمزيد من الشجن والتوسل العنيد كتمت رغبتها، وتركت كلماتِه تهطل أمام عينيها كنبيذ معتق، لم تمنعه من المتابعة، أصبحت تترنح كسكرى ضيعتها الجهات. واستحضر رائحتها، وهو يدخن سيكارته متأملاً سحب دخانها التي كانت تحوم من حوله مثل غمامات مسافرة، امتزجت رائحة عطره برائحة عطرها، فتنهد كامرأة حبلى تعيش حالة وِحام وهي تتدلل. أي حب ذاك الذي أضاء مساحة السنين الموجعة ؟ ما تزال صامتة، ما يزال حاضناً وجهها الذابل..
*****
الرحلة الماضية رحلة الولادة والبكاء والبحث عن رائحة ثدي فقدته، عادت تفتح شرايين الجراح التي لم تندمل رغم مرور السنين. في المستوصف طلبت امرأة تحمل طفلة آية من الجمال من امرأة تجاورها على الكرسي الطويل أن تحمل الطفلة الآية قائلة بعفوية وبراءة: - ريثما أعود بأمانتك طفلتي . وكانت تريد دخول الحمامات ...
حين عادت ضجَّ المكان بصوت ولاويل المرأة ونحيبها، أسعفوها مرات، كان يغمى عليها، وعندما تصحو ولا ترى طفلتها بين أحضانها تغيب مجدداً عن الوعي. جاءت الشرطة سجلوا الضبط، بعد أن استجوبوا الجميع، المدير والممرضات والمستخدمين، لكن المرأة اختفت، كما اختفت الطفلة الجميلة معها.
وأقفلّ المحضر بعد عدة شهورٍ، والجاني مجهول!!
*****
كانت لائبة تبحث عن رائحة صدر أمها، أمها التي حملتها وتحملت آلام المخاض، بينما الرأس كان يعاند فكرة الخروج . بكاء المولودة أفردّ على وجه الأم ابتسامة راضية، أمعنت في وجه طفلتها، حملتها بهدوء وقد نسيت كل آلامها التي كانت حاضرة في جسدها قبل قليل تمزقه وتطحنه فتتلوى، تتصبب عرقاً، تضغط على أسنانها تارة، وتارة تفتح فمها مثل مغارة جائعة تريد أن تلتهم الألم بكل تضاريسه الموجعة، تمدّ الصغيرة يدها نحو فمها، تزيحها الأم بحنانٍ عجيبٍ، تكشفُ عن صدرها، نهدان عارمان بالحياة والحرارة يمدان الصغيرة بماء الحياة الأبيض، وعلامات الرضا ترتسم على الوجهين الدافئين.. من أجل أن تحميها من المرض ذهبت بها إلى المستوصف، من أجل لقاح يقيها من شر البلية فقدتها وإلى الأبد..
*****
وقد قيل حول الحادثة التي سجلت ضد مجهول، إن أم الطفلة جُنت وأودعت مشفى المجانين، وقالوا أيضاً: إن زوجها طلقها لإهمالٍ منها، وقالوا أيضاً: إنها خوفاً من عقاب زوجها هربت إلى مكان بعيد، ولم يعد لها من أثر ...!! في غرفة المرأة المجهولة انفرجت الشفتان عن ابتسامة عريضة، اقترب زوجها من الكنز الثمين، تأمل صفحتي خديها الناعمين، مسدّ شعرها الغزير، داعب شفتها الصغيرة بإصبعه، أراد أن يفك قماطها، لكن زوجته بوجل مريب صرخت في وجهه : أن ابتعد ، ثم انحنت عليها، قبلتها بشوق عارم بحثت عنه طيلة عقدين مرا مثل كابوس يقتلها في اليوم عشرات المرات، وبكت عند قدميها، بكت حتى أجفلت الصغيرة وراحت تبكي هي الأخرى، تضرب بقدميها وجه المرأة.
*******
ريّا لم تكن تدرك أن الغيرة ستسكن ذاكرتها الراجفة المؤنبة في كل لحظات حياتها، أمام عينيها يشب عود قمر مثل غصن البان، تملأ البيت ثرثرة وضجيجاً وحيوية. أبو المجد لا يشرب الشاي إلا من يد قمر، أبو المجد لا يغادر البيت إلا لماماُ وأثناء عمله، الصغيرة التي تداعب ذقنه لم تكن تعرف أنها تشعل فتيل دمع المرأة التي رعتها وربتها، وشعور خفي يتطامن في قلب الرجل كلما كبرت قمر . وما إن تستلقي المرأة على سريرها تريد النوم حتى تبصر نفسها تنهض فزعة تبحث عن زوجها، تتعثر في مشيتها كأنها في شهرها التاسع، تضع يدها على بطنها تُمسكه من الألم، ألم يزورها لا تفصح عنه، تظن في جهل أنها نفس الحالة التي كانت تختلق لها تضاريس الوجع وقتما يزورها أحد ما من أهلها أو أهل زوجها، حين قامت بتمثيلية المرأة الحامل. لا تملك ريّا في عتمة الليل إلاّ أن تصدر صوتاً، تسعل وتنده بصوت تجتره من عذابات ضميرها الباكي: - قمر، أبا المجد أين أنتما؟
تقف بدهشة عظيمة أمام مشهد لا يمكن أن يكون إلاّ لعاشقين، كرسيان متجاوران وسحب دخان سيكارة ويد فوق كتف تكاد تصل إلى مستوى الكتف الأخرى يسامران لجين القمر في عتمة ظليلة وهدوء مستميت.
في البداية ظنت أن العلاقة ستستمر هانئة بلا منغصات بين رجل وطفلة كانت تحبو، فجأة أصبحت تشدو بصوت كالعندليب فتثير الغيرة وصياح الشهوات القديم الذي فقدته المرأة وهي تعاقر المشاهد بصمتٍ مريضٍ. تنحدر على خديها اللذين شربا من صفرة الألم كل أوجاع العالم فحالتها أصبحت سيئة جداً، لا أمل من شفائها!!؟ لا ! لا يمكن أن تلفظ أنفاسها دون أن تعلم قمرٌ بالسر ؟!! بأوجاع أشواك الصبار في القلب والعينين والأحاسيس والمشاعر. واتكأت على أريكة في الصالون وهي تمسح بأصابعها الراجفة دموعاً كانت تنسل بهدوء ساخنة جداً. النوم ينبذها هو الآخر، الحبوب المهدئة تجعل رأسها ثقيلاً ومتعباً، تفتح عينيها، تجد يد أبي المجد فوق يد البنت قمر، لقد أصبح الثلاثة ينامون معاً على سرير واحد، حتى هذا أصبحت البنت شريكة فيه، وتدور في رأسها أفكار جنونية أخرى، هل تدفنها في البيت بعد أن تحفر لها حفرة تليق بقامتها الفائرة على الحياة ؟ هل تطردها بعد أن تبوح بالحقيقة الجارحة المرة مثل علقم يحمل سمّ الموت؟ كان ألمها الداخلي يزداد شراسة، وكانت عيناها مجهدتين، وشهيتها للطعام أصبحت مفقودة حتى نحل جسدها واشتدّ ضعفها وهوت في سريرها صريعة آلام مبرحة ما عادت قادرة على كبتها. بعد موت ريا، شعرت من كانت طفلة تحبو، ومن كانت نورسة تطير بأجنحة الأمل الأبيض أن شيئاً في بطنها يشبه الزائر الغريب قد بدأ يقلقها، لم تفكر طويلاً، في غياب أبي المجد، زارت طبيب أمها ريّا، كانت الصدمة مفجعة، وكانت بحاجة إلى من ينقذها..
********
وقد قيل حول الحكاية التي أصبحت حديث الساعة في الشارع الضيق: إن أحداث هذه القصة من خيالات كاتب كان يبحث عن الشهرة، وآخرون قالوا: إن الشخصيات حقيقية بما فيهم الأسماء، وقد وقعت في الحي المصاب برهاب الهذيان من قصص تشبه ما وصفه الكاتب ههنا، وأكدّ آخرون : إن أبا المجد سافر قاصداً بيت الله تائباً، لكنه لم يصل إلى هناك، ولم يعد إلى حيه أبداً...!! وكتبت الصحف في صفحة الحوادث: طبيب نسائي يجهض عشيقته كيلا ينكشف أمره أمام أقرانه وأهل زوجته الميسوري الحال.. وبائع جوال يقتنص أخبار الحكاية الساخنة يصرخ بأعلى صوته: اقرأ خبر الساعة، وجدوه يبكي عند "كاحل" امرأة بيدين ملطختين بالدم.......
سها جلال جودت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح