"صور كاروبوليس": الفن في مواجهة قوّة تأثير الصورة للفنانة نادية الجلاصي









بقلم:  مبروكة بوهودي باحثة تشكيلية في علوم و تقنيات



"طَلب امبراطُور صيني من كبير الرسّامين في القصر أن يمحُو صُورة الشلاّل  المَرسُومة على الجدار لأنّ هدير الميَاه كان يمنَعُه ُ من النّوم".
                                                                                            ريجيس دوبري[1]



إن الصورة في الواقع هي الحدث؛ أي أنها المدرك الذي تتناوله العين والنفس في لحظة ما، مما يجعل لها ذلك الأثر الخاص الذي يؤكد أنها حصلت فعلا، لا في ذهن المصوّر فحسب؛ بل في الزمن، لأنها اختزنت زمنًا من الأزمان، ونقلته إلى غيره.




تنطلق الفنانة التشكيليّة نادية الجلاصي من خلال معرضها الشخصي الذي جاء تحت عنوان "كاروبوليس" (Karoplis سنة 2016، من الفهم العميق لمجال الصورة كمكان مكثّف بالدلالات يجعلها مجالا خصبا للمقاربات التشكيليّة المعاصرة والأبعاد السوسيولوجيّة. جاء عنوان هذا المعرض التشكيلي "كاروبوليس" ربّما غامضا كغموض الرسومات التي اعتمدتها هذه الفنانة، فهو يحمل في فحواه العديد من المعاني الخفيّة و المثيرة للجدل سواء من الناحية الفكريّة أو الفنية. فكلمة "كاروبوليس"، تختزل العالم الجديد الخاصّ بالفنانة، وهي في الحقيقة فضاء لمدينة امبرياليّة سرمديّة لا نعيش فيها، بل هي مسكونة هنا فقط في ذاكرة الفنانة التي استوحتها من الواقع السياسيّ التونسيّ.

فهل تعني هذه الفنانة بكلمة "كاروبوليس" بتلك المدينة الجديدة الفاضلة التي يبحث عنها "أفلاطون" في كتابه جمهوريّة أفلاطون، و التي ذكر فيه تصوّره عن مقومات المدينة الفاضلة وطبيعة الحياة فيها؟ أم أنها توحي لنا بصورة المدينة و المعبد المقدّس "اكروبوليس" اليوناني؟ وهل تستبطن هذه الكلمة صورة عهد الملوك "الكارولنجيين"، الذين حكموا أوروبا من عام 750 حتى القرن العاشر، وتحديدا فترة حكم الملك شارل (كارل) الأصلع (823 - 877) الإمبراطور الروماني المقدّس ورئيس الدير ؟

إن أعمال هذا المعرض التشكيلي للفنانة نادية الجلاصي، ارتقت إلى منزلة وجدانية كبيرة، وعبرت برمزية لافتة وعاطفة شفيفة عن الواقع السياسيّ خاصة بعد الثورة التونسيّة سنة 2011. حيث قامت هذه الفنانة بالتجوال في الصفحات الرسميّة للسياسيين باحثة عن الصور الرسميّة أين تأخذ الشخصيّات المصورة بعدا جماليّا و إنشائيّا داخل الخطاب السياسيّ. ومن هنا تأتي أهميّة الصورة السياسيّة للفنانة نادية الجلاصي التي لم تكن بمعزل عن التحولات في المجال السياسي والسوسيولوجي و الفلسفيّ، و باعتبارها تمثل جزءا من الثقافة السياسيّة السائدة في مجتمعنا .غالباً ما يكون واقع هذه الفنانة هو منطلق جميع تجاربها التشكيلية، ثمّ تنطلق نحو الكونيّة، لتُصبح المُعاصرة عبر مسألة أراها مهمّة لكشف المضامين المعرفيّة في الفنون البصريّة، وذلك من خلال إعادة صياغة رسومها إلى فضاء تُسرد من خلاله حكايات ورؤى ورموز. وتتّخذ المُمارسة التشكيليّة تيمة رئيسيّة، أي صورة الأشخاص بما هي أيقونات فنيّة و فضاء ثقافيّ بالمعنى الذي تمنحه إياهم "الانتروبولوجيا" أين يكون مجال اكتشافهم، أي الأشخاص المجهولة بما هم "مُدوّنة" لاكتشاف الذّات السياسيّة المخفيّة.


تبحث هذه الفنانة، من خلال المادّة اللونيّة المجسدة على الخشب، على كيفيّة مسرحة صورها السياسيّة لتجريدها من دلالتها عبر انتزاع هذه الشخوص من فضائها الأولي وتجميدها من الحركة، لتدفع بها إلى الفضاء التشكيليّ المركب، و ذلك من خلال كيفية اختيار نسبة النور والعتمة، وكيفيّة توزيع مُختلف العناصر المكوّنة للفضاء البصريّ لها، عمليّة إخراج وتدقيق في التقنية التي تنشأ على الظهور والتجلّي القائم على الوُضوح. وهو ما يُساعد في توليد البعد الجمالي في الفعل الإنشائيّ للصورة القائمة على التركيب البنائيّ المتوازن شكلاً ولوناً، كما يقول "دينيس ديدرو": "اعتقد أن لدينا أفكارا أكثر ممّا لدينا من كلمات، فكم هي الأشياء التي نحسّها و لا نستطيع تسميتها؟ هذه الأشياء يوجد عدد وافر منها في الأخلاق، و آخر مثله في الشعر، و آخر في الفنون الجميلة"[2] ويكتنف العمل الفني خاصيّات بصريّة وتعبيريّة تتجلى من خلال العمليّات التشكيليّة مثل التناوب والتّواتر والسّكون والحركة والتواصل الإيقاعي لمختلف العناصر التي تولّد الإحساس بالرّوتين المُملّ، ومقوّمات التذوّق داخل البُنية والشكل والعلامات والأيقونات التي تُساهم في تشكيل نوع من التساؤل الذي يُحيلنا إلى البحث عن المعنى الدّلالي .

تقوم هذه الفنانة بانتزاع الصور المرجعيّة من فضائها الافتراضي، وفي نفس الوقت تغيّب جميع تفاصيل الوجه لكي تنتج عالمها الخاصّ، فعلى أساسها سيتمّ استيعاب دلالات الأشكال والخطوط والوضعيّات والتأّطير و زاوية النّظر. فالتّركيب هو صيغة من صيغ إعداد المساحة القابلة لاستيعاب معطيات الصُّورة عبر أشكال خاصة من التأطير. ففي صور هذا المعرض، نلاحظ  في وضعيّة الأجساد المختلفة، تركيبة تشكيليّة و جماليّة، و أقسام  تشكّل الصور الفنيّة. اختارت هذه الفنانة التركيز على البناء التكويني القائم أساسا على مفهوم التضاد، حيث نُلاحظ تواتر الثنائيّات في هذه الممارسة الفنيّة، و التي تنحدر في أزواج كبرى مولّدة لظاهرة التضادّ في المطلق بين صورة الجسد وخلفيّة السيراميك المزخرفة بألوان فاقعة مسطحة تتوزع على المساحة في تناغم مع الهيئات الإنسانية التي تتوسط اللوحة التشكيليّة. و تستحيل هذه الأعمال ذرّات متراكمة تعبر كل وحدة فيها من خلال مبدأ المراوحة بين التمثيل والتجريد عن ماهية الفعل التشكيلي المعاصر، حيث تسجل هذه الفنانة حضور فكري نابض يسمو إلى فعل التغيير والتغيّر في الزمان والمكان من خلال المنطق الإستردادي القائم على صيغ توليدية، باحثة في الواقع السياسيّ والتبصر الجماعي للمتلقي في العملية الفنية .




إن أعمال الفنانة نادية الجلاصي، تستدعينا إلى طرح العديد  من التساؤلات، تكوّن لنا نظرة تجعلنا نراوح من خلال حركة الأجساد وتعبيراتها، ليس على مفهمة وحس النقد والسخرية بل هو بين هذا وذاك، بمعنى ذلك التلاعب الحاذق بين الأشكال والخلفيات والانصهار التام بين هيآت الشخوص ومربّعات السيراميك التي تكتسح المساحة وتحولها إلى فضاء تتوالد فيه الألوان وتتواشج في تناسق مملّ. 

تتلاعب نادية بالأشكال الزخرفيّة و الشخوص وتنظمهم داخل فضائها الافتراضي بطريقة منظمة فتتداخل الخلفيّة مع الجسد فتغيب جميع المتممات السينوغرافيّة وذلك لتأسيس علاقة خفيّة بين التمثيل والشكل. فمن خلال وضعيّات الشخوص المُختلفة، نلاحظ مُحافظة الفنانة على نفس الخلفيّة التي تذكرنا بالسجاد المعاصر. أماّ فيما يخص المرجعيّات الايكونوغرافيّة المتنافرة والمتداخلة فهي قد تحيلنا إلى المنمنمات ابن المقفع من خلال كتابه "كليلة ودمنة"، أي بين الصورة السياسيّة و مربّعات السيراميك. و بالتالي فقد تحوّلت هذه الأجساد إلى رمز، ومن مجرد مثال ملهم إلى عنصر فاعل في هذه الصور، لها حسها وأبعادها وقيمتها الفنية وتساؤلاتها و اشكالياتها وكيانها.


تسعى الفنانة إلى خلق المعنى أو نقله عبر تقنية الرسم، وعرض الحَركة الثّابتة وتجسيدها في بناء مسرحة الفضاء و المشاهد. فربّما نستشفّ من عملها هذا، الحقل المعرفي الذي نكتشف من خلاله الواقع الفني والسياسيّ الذي نجد فيه العديد من المفاهيم النقديّة ذات النفس الإحتجاجيّ الخفيّ. فتتعامل الفنانة مع الصُّورة من خلال علاقات معرفيّة وسلطويّة، حيثُ تقوم بإخضاعها لعمليّة تشريحيّة دقيقة وعميقة و تحوّلها بالفعل إلى موضوع للذّات. إنّها تستخلص فضاء الصورة السياسيّة من خلال الكشف والإخفاء. فهي تطمس ملامح الوجوه، وتحافظ على هيئة الشخوص السياسيّة من خلال عملية المحو لتصبح مساحة فارغة تكسوها في بعض الأحيان زخارف السيراميك الهندسيّة والنباتيّة.

تمثل "صور كاروبوليس" ذلك التحوّل التشكيليّ في مواجهة قوّة تأثير الصورة، فهي تجسّد لنا التحوّل الفني من التصوير إلى الرسم الذي يمرّ وفق سينوغرافيا تشكيلية  من خلال مسرحة الشخوص وفق نظام خاص و سياق خصوصي. و هنا استحضر عمل فني للفنان البلجيكي السّريالي رينيه ماغريت "ابن الإنسان" (1964)، يجسد بورتريه شخصي تصور رجلاً يرتدي معطفًا أسودًا وقبعة "بولر" سوداء مستديرة وربطة عنق حمراء، يقف أمام سور حجري قصير يظهر خلفه البحر وسماء ملبدة بالسحب؛ وجه الرجل مغطى بشكل كبير بتفاحة خضراء لكن بالإمكان رؤية جزء من عينيه وبالنظر إلى ذراعه اليسرى يبدو الرجل وكأنه ينحني إلى الأمام. يقول في هذا المجال: «لا يمكننا فصل الغموض عن أي شيء، وإذا فعلنا ذلك نكون قد أسأنا فهم الشيء وجرّدناه من جوهره». لكن الطريقة التي تعتمدها نادية قد تتبلور إنشائيا و ذلك من خلال الفسخ وتغييب ملامح الوجه وفي نفس الوقت تعتمد "القرافيزم" (الزخارف الهندسية و النباتية والألوان ) كمفردة تشكيليّة . وقد اُستخدم هذا النوع من الفنون في تزيين المساجد وقصور الأمراء وبعض الدّواوين في الفن الإسلامي. كما ااعتمدت نادية في أعمالها على جملة من الأشكال المتتالية و المتواصلة فيما بينها و هي تختلف في سمكها بين الرّقيق والسّميك و بين الغامق و الفاتح وتحُاول إيجادها في وضعيّات وإمكانيّات مختلفة على هذه الأجساد.  فكانت العناصر التشكيليّة المرسومة على اليدين توحي لنا بالحركة٬ وذلك حين تستعمل الخطوط. ثمَّة إشارات رمزيّة أخرى تُحيل إلى الرّحلة، من التّمثيل نحو التّعبير. إذ أخـذنا بعين الاعتبار وضعيّة الأجساد التي تُوحي بانفصالها عن المكان "الهامشيِّ.

ليست هذه الأعمال الفنية سوى علامات لحُضُور المُتناقضات ضمن فضاء الصُّورة الواحدة. فهي تقـوم على إعادة النظر في كل ما يحيط بها، و تعتمد خصوصًا على علاقة إشكاليّة بين الفرد وعالمه بين الفنّان و جماليّة الصورة التي أنتـجها فضاءها الافتراضي المزيّن و المنتـظم ليُحقـِّق نظامـه حسب موقف جماليّ تُعبّر عنه المبدعة بتمثيل الأجساد داخل الصورة. و تدعـو المُشاهـد بالاعتماد علـى هذا الاختيار إلـى الوعي بالأبعاد الفنيّة لما هو مهمل بصريًا ثم إنسانيّا.

تحفر الفنانة في أديم الخشب، لتصبح الأجساد مساحة موشومة، فالجسد الموشوم،داخل هذا الفضاء الفني، مُقتبس من أغوار الزّخارف الإسلاميّة الفارسيّة، ونتوءات "الجسد الجريح"؛ وذلك باعتبار الجسد الأنثويّ كيانا يمدّد رمزيّته ويترجم صوته ورغباته عبر مختلف الأنظمة الدلاليّة التي تؤرخ لوضعه الهامشيّ وما يحيل عليه من أشكال القمع أو الإخفاق أو الصّراع. غير أنّ ثقافة الوشم التي ذكرتنا بها هذه الزخارف ،لم تكن في الحقيقة سوى قناعا يختفي تحته تنوع الأدوار في حياتنا السياسية ومع هذا التنوع تتنوع الوجوه وملامحها تبعا لتعدد المسالك والإتجاهات. فهل يمكن للوجوه أن تتبدل أم أنها الأقنعة هي التي تتبدل من موقف لآخر ومن زمان لزمان؟ وهل هناك عمر افتراضي للأقنعة يا ترى أم أن هناك أقنعة لا تسقط أبدا؟

من جهة أخرى، تحولت رسومات الفنانة في هذه الممارسة الفنية، إلى علامات لفظيّة وبصريّة و أيقونية مُختلفة، تنقل لنا صُورة الشخوص السياسيّة المُغتربة و المرصودة تعييناً أو تضميناً. وبالتالي، يستلزم التفكيك والتركيب، في ضوء سياقاتها الداخليّة من جهة، ومعطياتها الإحاليّة والمرجعيّة من جهة أخرى. فضلا عن ذلك، فقد تُردّ هذه الصور في شكل لقطات مُتتابعة ومتحرّكة ومتنوّعة، فقد تكون لقطة بانوراميّة عامّة، أو لقطة أقلّ عموميّة. وبعد ذلك، ننتقل إلى اللقطة الجماعيّة، أو اللقطة الفرديّة، أو لقطة القامة، أو اللقطة الصدريّة، أو اللقطة المكبّرة، أو اللقطة المكبّرة جدا. ومن جهة أخرى، قد تكون الصورة المرسومة ثابتة أو متحرّكة أو علويّة أو سفليّة. ونضيف إلى ذلك، فإنّ هذه الصور الفنية تتميّز بلغة مشهديّة مركّبة خاصة، تتأرجح بين ما هو لفظيّ وما هو بصريّ. وبالتالي، فهي تحتوي على اللقطة، والمشهد، والمتوالية السرديّة.

فضلا عن ذلك، تبحث نادية الجلاصي في أغلب الأحيان، في مشاريعها التشكيليّة على المقاربات السوسيولوجيّة، تجعلنا أحيانا في حيرة من أمرنا أمام هذه العناصر قليلة العدد و كثيرة المفاهيم. فعند أوّل صدام بيني و بين صور معرضها "كاروبوليس"، أحسست "بوخزة"، على حدّ تعبير رولان بارت، سرت في كامل جسدي، من عيني حتى أخمص رجليّ، خاصة حين اصطدمت عينيّ بسواد هيئات الشخوص، واختفاء الوجوه و الملامح . في هذا المكان (المعرض) أصبحتُ جزءا من التركيبة الفنيّة، و طرفا مُشاركا في مسرحيّتها، يضعنا أمام جدليّة  التشكيل والتمثيل. كل هذه المتناقضات تجتمع أمام عين المُشاهد، خاصّة إذا ما اختار زاوية الرّؤية، فيقف هنا على الفرق بين ترى و أن تنظر. "و نبحث في كل صورة من هذا المشهد عن نقطة الرّؤى" [3]. فعمليّة "الوخز" التي تقوم بها الصورة تُجاه المُشاهد، تترك له حالة من الذبذبة، كما ذهب إلى ذلك "رولان بارت"، في كتابه "الغرفة المضيئة ". فعند النظر إلى صور "كاروبوليس"، فإنّ النظر سيكون كأقصى ما يكون. و ما يحدث أمامنا هو "عنف الصورة" المتمثلة في  أطياف الأجساد المجهولة، والغير مرئيّة.

في هذا الإطار يمكن اعتبار الصورة التشكيليّة في هذه الممارسة الفنيّة، خير وسيط للتمثيل، نظراً لقدرته على التحريض والتنبيه. وإذا كانت الجماليّات ولدت "كخطاب للجسد" على حدّ قول تيري أيغلتون: "غير أن المُقاربات السّيميائية تبيّن كيف أن الصور مشفّرة، وكيف أن الجسد ينحاز للنّوع الاجتماعي في تفاصيل اللّقطات وفي رُموز الأمكنة"[4]، فإن هذه الصُّور تعمل على تسجيل ما هو تاريخي، سياسي و ثقافي (بالمعنى "السوسيولوجيّ" للكلمة).

في هذه الرسومات التشكيليّة، تتماهى هيآت الشخوص، الألوان، الزخارف والأشكال مع مساحة الرسوم المسطحة، فتغدو مفردات تشكيليّة مجرّدة من مفهومها. فيمكن القول في هذا الإطار أن الأمر يطال التجربة النمطيّة التي تقوم بربط علاقة دلاليّة بين بعض العناصر التي تنتمي إلى تجربة بصريّة، نغوصُ في سيميائيّاتها النقديّة الإيديولوجية بالتحليل الذي اعتمده رولان بارت في كتابه "أسطوريّات، أساطير الحياة اليوميّة "[5]. فبالنسبة إلى الفنانة نادية، إذا كانت صُور معرضها "كاروبوليس" نتاج تواضع جماعي فهنالك أيضا لغة الرسم متواضع عليها تشتمل على علامات وقواعد ودلالات لها جذور في التمثّلات الاجتماعيّة السّائدة. بهذا المعنى، فإن قراءة الصُّورة الفنيّة  ليست جردا لدوالها التقريريّة بل عليها أن تبحث عن المدلُولات الإيحائيّة للوُصول إلى النّسق الإيديولوجي.

و يذكرنا هذا التمشي الفنّي داخل الممارسة الفنية للفنانة نادية الجلاصي، بطريقة "هوشني" الذي يشتغل على عمليّة الإدراك البصري للصّورة في بُعدها الواقعيّ، "فقد اهتم بامتداد الزّمن كإنتاج يُجسد "كرونولوجيّة" اللحظات و اتصالها في عمليّة مشاهدة الصُّورة"[6].  فهذه الأزمنة المُختلفة التي تُذكرنا بها الفنانة، هي امتداد النظر عبر الرسم، الذي لا يتم إلاّ بتواز مع تقطيع الفضاء و تركيبه من جديد. أي أن جميع النظرات إلى هذا الفضاء الافتراضي، هي تقطيع في المكان و اتّصال النظرات يرتبط بتجزيء الفضاء الذي يُشكّل موضوع الصُّورة الفنيّة.

 ظهرت لنا نادية الجلاصي فنانة مفاهيميّة من خلال مسارها التشكيليّ، حيث كانت أغلب صورها الفنيّة تتميّز بطابعها الفلسفيّ الإنسيابيّ، الإنشائيّ والشّاعريّ، و بقيت تتماهى مع نموذج المقاربات السوسيولوجيّة متّخذة من الشخوص أداة للإفصاح عن مفاهيمها التشكيليّة، معتمدة الرسم كتقنية رئيسيّة في أعمالها التشكيليّة وهو ما يساعد الفنانة في توليد البعد الجمالي في الفعل الإنشائيّ للصورة القائمة على التلوين و التركيب البنائيّ المتوازن شكلاً ولوناً، وما يكتنفه من خاصيّات بصريّة وتعبيريّة تتجلى من خلال العمليّات التشكيليّة مثل التناوب والتّواتر والسّكون والحركة والتواصل الإيقاعي لمختلف العناصر.

ومع ذلك لا يمكن القول إن العلاقات التي تنسجها العلامة الأيقونية داخل هذه الممارسة الفنية بين عناصرها، كافية للحديث عن كل دلالي. فالصورة ليست محاكاة لعالم غفل، وليست تمثيلا خالصا للموضوعات، إنها تستعيد مجمل معطياتها الأيقونية ضمن أشكال ومواقع وألوان. ولهذا نحتاج، من أجل بناء مجمل دلالات الصورة، إلى مساءلة جانب آخر لا يقل أهمية عن الجانب الأيقوني، ونقصد بذلك ما تقدمه العلامة التشكيلية باعتبارها عنصرا يشتغل كأهم مكون داخل عالم الإبلاغ البصري.



                                                                                                        المراجع:



-         فريد، الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، 1999.

-         رولان بارت، أسطوريات، أساطير الحيات اليوميّة، ترجمة د.قاسم المقداد، دار نينوى للدراسات للنشر و التوزيع، دمشق-سوريا،2012.



-         David Hochney, Thames and Hudson, Alfred A Knopf, New York, 1984.

-         Régis Debray, Vie et mort de l'image. Une histoire de regard en Occident, Gallimard, collection « Folio/Essais »,Paris, 1992.

-         Denis Diderot, Traité du beau, Noël Blandin, Paris, 1983.

-         Roland Barthes, La chambre claire, note sur la photographie, Cahiers du cinéma, Gallimard Seuil, 2002.

 
-        بعض من أعمالها في معرضها "كارو بوليس"
 



 [1] Régis Debray, Vie et mort de l'image. Une histoire de regard en Occident, Gallimard, collection « Folio/Essais »,Paris, 1992.P15.


[2] Denis Diderot, Traité du beau, Noël Blandin, Paris, 1983.

[3] Roland Barthes, La chambre claire, note sur la photographie, Cahiers du cinéma, Gallimard Seuil, 2002, p. 50

[4] فريد، الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، 1999.ص20.

 [5] رولان بارت، أسطوريات، أساطير الحيات اليوميّة، ترجمة د.قاسم المقداد، دار نينوى للدراسات للنشر و التوزيع، دمشق-سوريا،2012.ص 15.


[6] David Hochney, Thames and Hudson, Alfred A Knopf, New York, 1984.P11.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح