محمد بوكرش*... عندما يرتقي الإبداع بين الريشة واليراع / بقلم كمال صلاي




"بصمات فنية" الحلقة الثانية:

L’image contient peut-être : ‎‎‎محمد بوكرش‎‎, assis‎
وأنت تحاول أن تستشف منه أبجديات الإبداع، وتقتفي بنظرات البصيرة ما يستلهمه عقل اليراع، ستجد ذلك المفكر المكهرب، الذي اجتمعت فيه شتى الأطروحات المعرفية، وانصهرت في رحابه كل المرئيات الجمالية، وزُينت على مأدبته الفكرية كل الأطباق الفنية، التي نحتت النحت نفسه فأبدعت، ومثلت التمثيل عينه فسطعت، وألّفت موسيقى التدوين فأطربت وأمتعت، وإن كان كل هذا وذاك بريقا لعوالم الأنوار، إلا أنه لم يزغ يوما عن منحى الأتراب الطبيعية المتفتقة من حديقة التشكيل، التي لطالما كانت عالمه الشائك وملجأه المنيع، فعندما يعانق فنّانُنا اللوحة الزيتية، سيستفزك رغبا وطوعا باستفهاماته الأركيولوجية، التي تحفر الذات والذاكرة الجماعية معا، لاسيما وأنه ذلك الرحالة المحمل بهواجس فلسفية كنّته بغريب العصر، لقوة ما أفرزت موضوعاته الفنية من قضايا طابوهاتية عالقة بين المقدس والمدنس، حاورت على إثرها التفكيكية الديريدارتية، عندما بصمت حروفها الأزلية في الجسد الطبيعي، لتُحدث ترسانة تأويلية ضخمة في نطاقاتها وأجهزتها ومفاهيمها، وهي في لجة محاولتها الافلات من النسق الميتافيزيقي، على الرغم من انغماس هذه الشخصية الفيلسوفة في ثنايا الخطابة التجريدية، وهذا ما أهّلها إلى تبوء رتبة الغموض المنهجي، في إنتاج مرجعية توليفية بالمفهوم البوردوي، حيث لم تُرص الصفوف الفكرية لهذا الفنان في بوتقة التمركز المنطقي، الذي استشرى في الهيمنة الواحدية، وإنما جالت بنا عبر منجزه الفني بين الطرح التاريخاني الجامع للثقافة الشعبية بفن الممكن لديه، والحس الأدبي الذي جعله يتعقب مع "بودريار" مرحليات تحول الصورة بين التقنية والحقيقة عبر لسانيات "سوسير"، التي أنتجت منه ذلك المتكلم الفصيح، الذي استمد من اللغة مستواها الاختلافي البنيوي، ليسطع نجمه في عدة حقول معرفية مجاورة، فمن يكون هذا الظاهرة الذي له من الشخصية المرحة ما يؤلف بين عمق التأمل وروح التفاؤل؟..، إنه ابن مدينة تيبازة الساحرة، الفنان والمبدع التشكيلي الأستاذ: "محمد بوكرش".




اكتست مسألة العودة إلى مختبرات العقل الفني لدى "بوكرش" أهمية بالغة، ونحن نجابه المرتكزات التأسيساتية، التي انبنت عليها لمساته الإبداعية في عالم التشكيل، فإن كنا نريد توطين بداية البدايات كعمق انطولوجي في مساره الفني، فستغيب عنا كبسولة الزمن لترتحل بنا إلى نقطة الانطلاق التأريخي، حيث كانت تشكيلية الأستاذ "محمد" مستوحاة من فنيات النحت والتجسيم، كهابيتوس يومي مع قصة التجسير أو- رسم الجسور-، التي كان يشتغل عليها والده ،فمن خلال التغذية التشاركية استسقى فنّاننا حس القلق الابداعي بواسطة العين المجردة، فبنظرة روحية، فخربشة خطية، ثم فكرة جمالية، حقق "بوكرش محمد" طفرة نوعية وسحرية، ليظفر لنفسه مكانة خاصة كأحد مؤسسي الثقافة التشكيلية المعاصرة في الجزائر، أين ظل ذلك الفنان المغامر والمحب للتجديد عبر عالمه التجريدي الغالب في أعماله الفلسفية والفنية. وأنت تتصفح ديوانه الفني، ستتيه في تلك التجاذبات الاستيطيقية، التي مكنته من نهل أمهات الكتب، ليكون ذلك المثقف الملتزم –بالمفهوم السارتري-، حيث كان منه الروائي والموسيقار والشاعر والسنيمائي ..وغيرهم كثير، مما دفع هرمونوطيقا "مارتن هايدجر" إلى الانبجاس من ذلك الزخم الفكري الذي طبع رائدنا الفني "بوكرش"، فأمام ذلك الالتباس التحليلي في اصطياد مزايا المجال الثقافي الثابت في فكره، وجدته يتغنى بحكمة "أبو تمام" كلّما تعذر للآخرين تمحيص وتشريح لغة لوحته الصامتة، بالقول: "لماذا تقول ما لا يفهم؟ فيجيب :"ولماذا لا يُفهم ما أقول !؟"، فهكذا كانت ثقافة الاختلاف والتنوع متجلية في انتاجات مفكّرنا، ليكون ممثلا تشكيليا لسفارة الثقافة التشكيلية المحلية، فممثلا سينمائيا مع كبار النجوم والوجوه السنيمائية الجزائرية والمغاربية، عبر فيلمين لامعين : )"قيس وليلى" بتونس و"الطاكسي المخفي" بالجزائر(، كما سيُستخرج منه الكاتب والإعلامي اللامع، الذي طعّم الساحة الثقافية الجزائرية في أحلك ظروفها -في أواخر التسعينيات- براية الفن والإبداع عبر اشرافه على برنامج إذاعي موسوما بـــ"ملتقى الفنون"، ليؤكد بعدئذ على ترسيخ الثقافة الجمالية والتفاؤلية في الوعي الجزائري بعمل تلفزيوني معنونا بــــ" خليكم معانا"، فكنا معك يا أستاذنا في كل لقاء لنستمتع بنشوة الارتقاء.




وفي ظلال هذه الجولة الفريدة في عالم الأستاذ "محمد بوكرش"، ها نحن نحتفي به، باعتباره بصمة من بصمات جمعية البصمة للفنون التشكيلية، حيث وجدناه وهو في آخر تظاهرة تقيمها المؤسسة -الملتقى الوطني للخيمة البيئية التشكيلية-، يشتغل ليلا وعلى شعاع قناديل "قلعة المشور" بتلمسان، ليتحفنا بلوحات راقية في تصوير حالة التلوث البيئي في الأراضي الخصبة بالجزائر، مطالبا بضرورة استرجاع الحق الجمالي للطبيعة من الاستعمار البشري، فهكذا كان دوما مرافعا للحياة المصيرية للفن، ناهيك عن حسه الأدبي المميز في تغطية التظاهرة، التي لم يدع فيها شاردة أو واردة إلا وولج في طياتها، تثمينا وتشجيعا للإنتاج الثقافي والفني الذي لم يجد "محمد بوكرش" جليسا أفضل منه، مستشهدا بتغريدة -فولتير- :"ما دمت أتصرف كما تراني، فالذي يتصرف تصرفا آخرا لم يعد أنا".
بقلم :صلاي كمال.
المرجع:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)