الرواية والتاريخ.. الجائز والمحضور.. / الدكتور حبيب مونسي


الرواية والتاريخ.. الجائز والمحضور..

حبيب مونسي



يعتقد كثير من الدارسين أن الحديث عن الرواية التاريخية يطرح ابتداء قضية مسؤولية الروائي إزاء الحدث التاريخي. وينطلق السؤال
 الأول من جواز أو عدم جواز التعامل مع الحدث التاريخي باعتباره مادة للرواية، وهل يجوز التصرف فيه بما يناسب وجهة الروائي في الحدث التاريخي نفسه؟ وهل للحدث كما روته كتب التاريخ، ووثقته المصادر، ضرب من القداسة التي تمنع عنه التحريف؟ أم أن التاريخ هو الآخر باعتباره "مرويات" في أساسه، إنما يكون ضربا من الرواية التي تستند على الوثيقة والدليل، ولكنها تظل على الرغم من ذلك عرضة لأهواء المؤرخ، يذهب بها إلى جهة تملي عليه تصوراته للأحداث ومراميها السياسية؟
يقد يسعى بعض الدارسين إلى التفريق بين العملين: عمل الروائي وعمل المؤرخ، لأنه يتوجب علينا ابتداء:« أن نوضح أن "الرواية التاريخية" من عمل الروائي أو الأديب, وتبدو فيها الذاتية والخيال واضحين للعيان, بينما " رواية التاريخ" من عمل المؤرخ, وتبدو فيها, أو ينبغي أن تبدو فيها, الموضوعية والواقعية, وهما من عناصر التكوين الرئيسية في العرض التاريخي, ومن هنا ينبغي أن نفرق بين طبيعة عمل الروائي وطبيعة عمل المؤرخ, من حيث المنهج, ومن حيث الهدف, ومن حيث الأسلوب.» وكأنه سيسهل علينا وضع الفواصل الحاجزة بين العملين بسهولة ويسر. فللأديب أن يخوض في الحدث التاريخي باسطا ذاتيته وخياله بين يديه، وأن يجريهما في أطراف الحدث كما يشاء. ثم يشفع له أخيرا أنه أديب، أن عمله ليس للتوثيق ولا للمعرفة التاريخية.. وفي المقابل يقف المؤرخ بمنهجه وموضوعيته وواقعيته ليقول عن الحدث ما يقوله عن نفسه.
قد يكون في هذا التبسيط كثير من المدرسية التي يستهويها التصنيف وتمييز الحدود بين المتشاكلات من الأمور. غير أن المسألة أخطر من ذلك بكثير.. فإن كانت فلسفة التاريخ تطرح بحدة حياد المؤرخ إزاء الحدث التاريخي، وتراه -بعد البحث والتمحيص- أمرا مستحيلا، لأن الإحاطة بالحدث من جميع جوانبه متعذر على المراقبين الكثر بله المراقب الواحد، فكيف يجوز لنا الحديث عن الموضوعية والواقعية في ميدان يكتب التاريخ فيه أهل الغلبة قبل غيرهم من الناس؟. وإذا صح هذا الاعتقاد فهل يجوز للروائي أن يخوض في الحدث كما خاض المؤرخ مستندا إلى غلبة سياسية أو فكرية معينة؟
إن الذي يحدث اليوم في زمن الشك والمراجعة التي تفرزها الثقافات المختلفة، وخاصة تلك التي تتفلَّت من رقابة الهيمنة، وتطرح رؤيتها المغايرة المختلفة، لا تجد أوسع من الرواية التاريخية لتطرح رؤيتها، وتمررها ابتداء على أنها حكاية متخيَّلة، غير أنها الحكاية التي تتأسس على أطر واقعية سريعا ما يتعرف عليها القارئ بأسمائها وعناوينها وشخصياتها. وهنا يمكن أن نطرح سؤالا آخر!! ألا يمكن أن تستغل الرواية التاريخية – وبنفس الفكرة- من طرف الغالب المهيمن للتشكيك في مصداقية ما تقدمه هذه الثقافات المناوئة؟ قد تُكتب الرواية وتتعرض لحدث من الأحداث المهمة في تاريخ جماعة من الجماعات، ثم تبث في ثنايا المتخيل أسئلتها المشككة، وتطرح من خلال المتخيل رؤية مغايرة لأحداث، وتجري على ألسنة الشخصيات أحاديث تعيد من خلالها خلط أوراق التاريخ الرسمي نفسه؟.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)