من الحافات الثقافية التشكيلية سلامات عبد الأمير الخطيب / الفنان علي النجار


من الحافات الثقافية التشكيلية
سلامات عبد الأمير الخطيب


      لم تكن الارض جسدا
     كانت جرحا كيف يمكن
    السفر بين الجسد والجرح
(*)  كيف تكمن الأقامة


   غالبا ما يردد عبد الأمير الخطيب عبارة(دي مونتران): (لا تأسو على شيء في هذه الحياة). لم يكن ترديده لهذه العبارة الا عن قناعة رسخت في ذهنه عبر مسيرة حياة اغترابية
امتدت من الشرق حتى الغرب, حاول خلال ازمنتها وامكنتها المتعددة ان يجد له منفذا للتصالح مع الاخر المتعدد والمتغير دوما. مثلما هي محاولاته للتصالح عندا وظروفها الحياتية التي لم تكن كلها هينة, وان يحاول باستمرار البحث عن سبل الارتقاء معرفيا ومحيطيا. لقد تمثل الكائن الاتصالي بطبعه وعمله, وقدم الكثير من أجل ذلك, رغم كل ما واجه مشروعه الثقافي الفني** من معوقات كثيرة على امتداد سنوات تأسيسه وعمله حتى يومنا هذا. لكن! للحياة طرقها الفجائية احيانا والتي لا توفر المجال للتأسي من عدمه.
      اليس غريبا أن يتحول العديد من ابناء رجال الدين في العديد من مناطق العراق في زمن التحرر الوطني(مابين نهاية الأربعينات ولعدة عقود من السنين ألاحقة) الى يساريين معروفين وغير معروفين. أنا لا أذهب الى آن عبد الأمير الخطيب يساريا تقليديا, فزمن نشأته الأولى لم يسمح له بهذه الانعطافة. لكنه تمرد على صرامة تربية الأب(رجل الدين في مدينة النجف التي هي مقرا للكهنوت الديني) وأخذه ولع الفن بعيدا في مساره. مثلما تمرد دليله الأول(أخوه الأكبر) وأسس في مدينته للمسرح وانتج شعرا وطنيا وعاطفيا جميلا(***). وبقي في ذهن عبد الامير هذا التحول لغزا, حتى اكتشف الذات المتحولة في شخصه لاحقا. ولم يكن تمرده على صرامة تربيته الأولى بعيدا عن كل ذلك. ويبدو انه  رسم مسار شخصيته مبكرا وحتى ان لم يكن يدرك ذلك وقتها.


   مشروع عبد الامير(شبكة الفنانين المهاجرين(أيو مان 1) هو ثمرة هذا الكد الثقافي الفني الذي مهدت له سيرته الشخصية الطريق ليتحقق. هو ثمرة للاجابة عن سؤال الاغتراب.. الشرق غرب.. الأنا والآخر.. الداخل خارج.. الاختلاف والتعددية.. البينية او الهجنة. وكما نفذه فنانوا هذه الشبكة في مشروع الثقافة الثالثة(2) الذي اقترحه هو. صراع الثقافة والهوية كما تتبناه معاصرتنا التي فقدت الكثير من ثوابتها الحداثية السابقة, وسط عالم اختلطت فيه الأعراق والثقافات, أمكنة وأثيرا عابرا. لكن يبقى سؤالنا الأهم؟ كيف استطاع عبد الامير تحقيق مشروع هذه الشبكة الفنية الذي بدأ متواضعا قبل ستة عشر عاما, حينما اسسه بخمسة أعضاء فقط, ليضم الآن مائة وأربعة عشر فنانا مغتربا أو مهاجرا, من شتى الأقطار, غربا وشرقا. وليتبنى ويقدم العديد من الفعاليات الفنية من معارض فنية بعناوين لها علاقة بالثقافة والهجرة, ومساحة الاشتغالات الفنية المعاصرة.
    لقد عايشت تجربة الخطيب لسنوات عدة. ولم تكن مهمته سهلة ابدا. فمشروع فني تأسس بنوايا افتراضية, لا يتعدى افتراضيته الى وقائع ملموسة بسهولة أبدا بالنوايا فقط. فلم يكن ثم مقر لمؤسسة تستوعب كل هذا الحشد الذي وصل اليه من الفنانين المتوزعين على الخارطة الأوربية. لكن إن كانت الإمكانيات متواضعة, فبالتأكيد سوف تكون النتائج متواضعة.             الخطيب وبجهده الفائق قلب المعادلة بشكل اعجازي, وانجز لشبكته الفنية انشطة متتالية عبر كل سنواتها الماضية حتى الآن. ولم تكن العروض الفنية, هي وحدها تثير اهتمامه, على أهميتها, كونها الواجهة الفنية المثلى لنتاج الفنانين. لكنه اجترح فعلا ثقافيا فنيا تواصليا عبر تأسيسه وادامته لمشروع نشر مجلة الشبكة(الالوان الكونية3) والتي رافقت مخاض تأسيس المجموعة الفنية, من مطبوع متواضع الى مجلة فنية ملونة أنيقة التصميم , تضاهي العديد من المطبوعات الفنية لمؤسسات ذات ميزانيات وامكانيات اكثر بما لا يقاس, سواء كانت مؤسسات أهلية أو رسمية. واستطاع الخطيب بجهده أن يحافظ على ادامة اصدارها الدورية بمواعيدها المحددة الا ما ندر. متنقلا من جراء ذلك ما بين هلسنكي حيث مدينة اقامته ولندن التي انطلق المطبوع منها بحلة أبهى, مما استدعى انتقال سكناه الى هذه المدينة الضاجة الحركة, مع كل تبعات هذا الانتقال عليه وعلى عائلته.
    لم يكن غرض الخطيب من مجلة الألوان الكونية التباهي أو الاستعراض. بل, لتحقيق حلمه الذي رافقه على مدار سنوات اغترابه المتعددة الأمكنة, لدخول عوالم الآخر, وحل لغز الفضاء العازل ما بين هذه الأمكنة وثقافاتها المتجاذبة أو المتنافرة. فإضافة الى سعي هذا المطبوع للتعريف بأعمال فنانين الـ(يو مان) فإنها تبنت العديد من العناوين الفنية التي لها علاقة بعالم الفن المعاصر, كمنجزات فنية وثقافية وسلوك واقتصاد, وكخطاب تواصلي بوجهات نظر متعددة تعدد ثقافات مدونيها(المهاجرين) او الأصليين. لقد جهد الخطيب من اجل التقاط  عناوين دراسات أو مقالات المجلة وبما يوازي ما مطروح على الساحة الفنية
الحالية وما قبلها. فمن عناوين الميديا الى متاحف الهجرة والسوق التشكيلية, مرورا بالعديد من العناوين الاخرى. لقد شغل كادر التحرير الذي اقترحه وثبته الى ورشة حقيقية تبحث مستجدات الاطروحات الفنية. لكنه يبقى هو المضحي الأكبر, سواء بوقته او بموارده الشحيحة. وكان, من الممكن ان يحقق ربحا ماليا فائضا بسهولة في أي مشروع يتبناه, غير هذا المشروع الحلم. لكنه اختار حلمه الفني التواصلي الذي أنهك قواه. فما بين المركز والحواف, فروقات كبيرة, ليس من السهل تخطيها وصولا الى المركز(الغربي بالذات). 
   لقد عايشت عبد الامير الخطيب بما يكفي لمعرفة مدى الاجهاد الذي يصيبه جراء كل مفردة ينجزها من هذا العمل الذي تبناه. فكم من المشاكل والمعوقات التي تعترض انجاز أي مشروع, كمعرض في مدينة أوربية , او متابعة خطوات إخراج المجلة, هو يقتنع بأقل ما يمكن من متطلبات الجسد, مثلا.  اظافة الى العمل على توافق مجموعته(مجموعتنا الفنية, بما انني واحد منهم) وحل كل اشكاليات المكان ومتطلبات العرض. وطباعة الدليل, والاتصالات 
سواء بالصحافة او المدعويين او الضيوف. هو دوما يتحمل العبء الاكبر بيننا. يحدث كل ذلك بزمن قياسي. لقد تحقق الكثير بفضل جهده الشخصي, وكنت احسب بعضها خيالات ليس من السهولة تحقيقها.
   لم يكتفي الخطيب بالتزامه وادارته لمشروع الشبكة الفنية. بل حاول التواصل مع فناني الداخل العراقي, وحدث ذلك بعد احدى زياراته المتأخرة الى بغداد. وفعلا اشرك عدد من الفنانين في عرض بينالي (حوار ) البترسبورغي(روسيا) قبل عامين, وثبتت اسماؤهم وصور اعمالهم الملونة في كتلوك العرض. بمساحة احتفائية. لكن الفنانين خذلوه ولم يتواصلوا معه لتكملة شوط وصول اعمالهم حسب الاتفاق. وكم كان بودنا ان نرى اعمالهم جنب اعمالنا في هذا العرض الذي تركت مساحة فراغ اعماله اثرا على نجاح عرض مجموعتنا. لقد كان الخطيب متفائلا في تواصله معهم. وكان يحاورني دوما حول ذلك. اذكر ذلك كواحدة من المشاكل التي تصطدم مع النوايا. وبالتأكيد تترك ثلمة ما في النفس, وعلى عبد الامير ان يتجرعها. علما ان له تجارب اخرى مع العديد من الفنانين التشكيليين العراقيين المهاجرين, وعدد منهم معروفون بالوسط التشكيلي العربي. لكني لا اقول بان تعاونهم معه كان كله محبطا. ويبقى لكل شوط حساباته الخاصة التي تتعارض مع الآخرين. لكنه حاول جهده لأن يكون الفن العراقي حاضرا في عروض الشبكة , وهذه يحسب له. لقد تحقق حلم الخطيب وبالمساحة المتوفرة له. لكنه تجاوز حد المعقول في جهده. والآن هو راقد في فراشة بقلب عاجز عن العمل. لا نستطيع ان نعمل له شيء بمثل ما عمل لنا. لكننا متفائلون من أن بذرة أحلامه النامية دوما سوف تكون عونا له. أنا لا ادري كيف. لكن ثم هاجسا في داخلي ينبئني بذلك. وإنسان بهذه الحيوية ونكران الذات يستحق منا ان ندعوا له بالتعافي ومواصلة مشواره الذي يريح قلبه ويريحنا.
    الفيلسوف والباحث الاجتماعي البولوني المهاجر (زجمونت بومان) يعتقد أن العلاقات الاجتماعية في مجتمعنا ألما بعد الحداثي هذا  تميل الى عدم العيش تحت الجذور. اما عبد الأمير الخطيب فهو يزرع جذوره اعمالا فنية في العروض الاخيرة للـ(ايو مان). فالجذور بالنسبة له لا تغادر, لكنها تشتبك وجذور الاخرين. لقد تركت جذوره بصماتها في العديد من أمكنة العرض الأوربية. فعسى ان تتغذى وتنتعش هذه الجذور بنسغها وانساغنا والآخرين الذين لم يبخلهم حقهم. وان جعلنا قدرنا نعيش حواف العالم. فان خطاب الحواف أكثر أثرا وتفاعلا في عالم اليوم, وكما يزعم الفيلسوف الهندي المغترب(هومي بابا). ولقد أدرك الخطيب ذلك قبلنا, وحاول كل ما في استطاعته تحقيق خطابه في المجال الذي وهب نفسه لها حد الإنهاك. .
.....................................................
    تعرض عبد الأمير الخطيب الى عجز في القلب منذ شهرين على اثر فعالية عرض في ايطاليا, رقد على أثرها في احدى مستشفيا هلسنكي, ولا يزال تحت الرعاية في بيته . وهو من مواليد مدينة النجف(العراق), عام .1961
(*)ـ اودونيس(تاريخ)
(**) شبكة الفنانين الاجانب في اوربا.
(***) اغتيل مسموما في بيت عائلته من قبل المخابرات البعثية.
   European Union Migrant Artists Network (EU-MAN) (1)
بدأ تأسيسه في هلسنكي عام(1997) بخمسة اعضاء فقط, الان يضم(214) عضوا.
 21) عرض في كل من هلسنكي كوبنهاكن.عام 2006
 UNIVERSAL COLORS-) 3)
صدر منها اكثر من ثمانون عددا حتى الان. بدأت طباعتها الملونة عام(2007)
...........................................
علي النجار في 20ـ12ـ2012

تعليقات

  1. تحية ومحبة للفنان عبد الامير الخطيب وللفنان علي النجار

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)