من عجائب التاء في الرسم القرآني.. / حبيب مونسي



د.حبيب مونسي

من عجائب التاء في الرسم القرآني..
عندما يساهم الشكل في انفتاح الدلالة..
===
إن السائد في كتابة "التاء" التي تلحق الأسماء أن تكون مربوطة وأن تكتب التاء مفتوحة في الأفعال.. غير أن التاء في الرسم القرآني لها شأن مختلف يلفت انتباه القارئ ويربكه في آن حينما يجدها مفتوحة في كلمات عرف أنها تكون موبوطة فيها على عادة ما تعلم ودرس. غير أننا اليوم حينما نولي البصري اهتمامنا ونسأل عن الأسرار التي جعلت التاء تأخذ هذه الهيئة دون غيرها، نكتشف حقيقة أخرى كنا لا نعرف سرها من قبل حينما كان يقال لنا إن النظر في المصحف الشريف عبادة.. نعم عبادة.. ولكننا لم نكن نفقه سرها إلا حينما أدرجنا هذا البعد الذي يجعلك أمام أبعاد الدلالة وهي تتكئ على الرسم لتفتح أمامك إمكانية التوسع في التخريج والتأويل..
هناك حقيقة يجب إقرارها قبل البدأ.. كلنا يعلم أن الخط العربي لم يستكمل شكله النهائي إلى في حدود القرن الرابع الهجري، وأن الكتابة كانت أيام رسول الله وكتبة الوحي من دون إعجام ولا حركات، وربما كان شكل الحرف فيها يحتاج إلى تحديد أكثر.. ولكن كتبة الوحي رسموا القرآن الكريم على الهيئة التي وصلنا عليها اليوم.. فكيف حدث ذلك وكيف تسنى لهم أن يسجلوا في الرسم ما نجده اليوم في علم البصريات معجزا دلاليا؟؟
نقول إن الرسم توقيف وتوفيق من الله عز وجل، أجراه الله عز وجل في أقلام الكتبة حفاظا على كتابه الكريم ليستمر عطاؤها إلى أن تقوم الساعة. لذلك يجب أن يكون للقرآن الكريم نحوه الخاص، وقواعد إملائه الخاصة، ورسمه الخاص.. ليغاير به ما تعارف عليه الناس في شأن لغتهم التي هي عرضة للتحول المستمر من زمن لآخر تطورا وتأثر وتأثيرا في سياقاتها التاريخية المختلفة. 
من هنا كانت هذه الوقفات فيها شيء من التخريج القائم على الملاحظة والاستقراء، فإذا اطردت الظاهرة في عدد من الآيات أمكننا أن نستخلص منها حكما في الدلالة. ومن هنا سيكون حديثنا عن التاء المربوطة والتاء المفتوحة.
لنتخيل - تقريبا للفهم - صُرَّة الأم التي تضع فيها أغراضها ثم تحكم ربطها بأطرافها فلا نعرف ما صرَّته الأم في منديلها ذاك إلا حينما تفك الرباط وتبسط المنديل ليكشف عن المحتوى.. هذا شأن التاء في الرسم القرآني.. 
لقد رسمت كلمة "امرأة" بالتاء المفتوحة حينما كان الحديث عن امرأة نوح ولوط وفرعون لأننا نعرفهن بأسمائهن وصفاتهن.. ولكن حينما جاء الحديث عن امرأة تهب نفسها للنبي كتبت مربوطة لأننا لا نعرفها ويمكن أن تكون أي امرأة تفعل ذلك الفعل.. وعين الحال مع شجرة ..فحينما كان الحديث عن شجرة الزقوم حينما سماها باسمها كتبت التاء مفتوحة: "إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ [الدخان : 43]"وحين ذكر أنها تنبت في أصل الجحيم ولا أحد يعرف شكلها كتبت بالتاء المربوطة " إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات : 64]" وكذلك الأمر في كلمة "سُنَّة" والسنن قسمان: قسم يتعلق بشؤون البشر وأحوال معاشهم وهي قوانين يكتشها الدارسون تباعا ويؤسسون عليها علومهم الاجتماعية والمادية، فقد كتبت التاء المتصلة بها مفتوحة والفتح فيها إمكانية لمعرفتها وتعلمها واستنباطها، أما الأخرى التي أختص الله بها علمه وتدبيره للكون فقد جاءت بالتاء المربوطة. ومثل ذلك قوله تعالى :{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال : 38] وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء : 77]..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح

آعـظـم 100 كتاب فـي تـاريخ الـبشريـة ... (جميعها جاهزة للتحميل)