ملامح تجربتي مع الخط الكوفي القيرواني / الباحث الخطاط عامر بن جدو


بوكرش محمد والخطاط التونسي عامر بن جدو

ملامح تجربتي مع الخط الكوفي القيرواني /   الباحث الخطاط عامر بن جدو

-----------

بسم الله الرحمن الرحيم



الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى أهل بيته الطاهرين وبعد،

لقد أنتجت عشرات اللوحات خلال رحلتي مع الخط الكوفي القيرواني ..هذا الخط الذي ظل قرونا طويلة تحت ركام السنين وفي طي النسيان ... لم أكتف بإعادة صياغته في ثوب أكثر أناقة للمساهمة في بعثه من جديد ، وإنما قطعت معه خطوات تلاحمت خلالها الجرأة والمغامرة لتقديمه في صورة عصرية لا تخلو من الاستفزاز على أمل أن يجد مكانا في حلبة التنافس بين الخطوط العربية المتداولة في زمننا الراهن..

Photo

وبناء على هذه القصد، حرصت دائما على أن أضع بين يدي كما هائلا من النصوص التي أجد فيها مجالا واسعا للاختيار.. ظللت أتأملها من فينة إلى أخرى بدقة متناهية، حتى إذا وجدت نصا فيه توافقات، كتعدد حرف معين ذي مواصفات معينة..وإمكانية لتليين بعض حروفه اشتغلت عليه ، وأما إذا خلا من كل ذلك طرحته جانبا، وهكذا ..وأما عن التراكيب فبعد تكييفات متعددة، أستقر على شكل معين فيه من الجماليات ما يقبله الحس المرهف، بما صارت عليه الحروف من الـتآلف والتقارب والتعانق والتقاطع والتوافق ما يجعل منها تركيبا ذا شكل تجريدي متوازن مميز لا يتخلله البياض إلا بنسب قليلة أحاول أن أضغط عليها إلى أقصى حد ولو التجأت إلى وضع نقاط لبعض الحروف (والحال أن حروف الكوفي القيرواني غير معجمة.).أو وضع بعض حركات الإعراب ..وهذا استثناء أجده ملاذا حين أرى أن بعض الفراغات مقلقة للعين الراصدة.


هذا العمل احتجت خلاله إلى التغيير الطفيف في ملامح حروف علي الورّاق وتليينها أحيانا، وإلى استعارة أشكال من خطوط أخرى كالديواني أو الكوفي المشرقي أو الخط الحر..وقد أبتكر للضرورة أحيانا صورا جديدة لبعض الحروف كاللام ألف الذي اتخذ بفضل ذلك أشكالا متنوعة اقتضته بعض التراكيب.. يلمح ذلك بسهولة كل من اطلع على لوحاتي.

Photo : ‎بعض ما كتبته لأحبتي في الجزائر..كتبته وأنا على 
غاية من السرور وهو أقل ما يستحقون‎

أعتقد بكل تأكيد أن تراكيبي مثيرة للجدل، وقد يجد فيها المشاهد - من حين إلى آخر - رمزية معينة تتطابق مع المضمون ولكنها رمزية غير مقصودة أصلا.. ولا غرابة في ذلك لأني ما أردت أثناء إنجازي أن أظل حبيس صور نمطية محددة وإنما أطلقت العنان للخيال وما فيه من آفاق واسعة..شعاري في ذلك: "أعطني حريتي أطلق يدي" هذه اللمسة السحرية التي تقف وراء كل إبداع..فعلت ذلك مغتنما غياب العاذل الرقيب في ساحة هذا الخط الموغل في القدم ،الخط الكوفي القيرواني الذي لم يكن إلى عهد قريب متداولا على غرار الخطوط المشرقية المعروفة..ورب همة أحيت أمة... بدأ هذا الخط ينتشر في السنوات الأخيرة وتزايد المهتمون به.. وسأكون سعيدا لو اكتشفت أن مساهماتي كان لها جانب من الفضل في ذلك على الأقل في صورته العصرية..

Photo : ‎هدية كتابة اسمي بقلم الخطاط القدير عامر بن جدو‎

من المثير للانتباه في لوحاتي كذلك هو ندرة الألوان والزخرفة التي يركز عليها قطاع كبير من الخطاطين لما في حسن اختيارها وتناسقها وتناغمها من أثر على عين المشاهد... هذه حقيقة لا مراء فيها ..ومع ذلك ما وجدت في غيابها غضاضة..بل رأيتها فرصة سانحة للبحث عن مزيد من أسباب القوة لفرض المشهد على العين بدون مساحيق إضافية ..ولعل هذا الاختيار مؤقت، إذ قد تغريني الألوان والزخرفة ذات يوم فأخصص لها نصيبا من اهتمامي ..خصوصا وأن لي محاولات في الاقتراب منها ولكن باحتشام...

Photo

وإلى جانب هذه الخصوصية، ظللت وفيا للتلازم بين الخط الكوفي القيرواني والخط المغربي في لوحاتي وذلك لسبب أراه من الوجاهة بمكان.. وهوأنهما خرجا إلى الحياة من رحم واحدة وهي هذه المنطقة المباركة منطقة المغرب العربي الكبير..


هذا وأود أن أشير بعد هذا كله إلى أن وضع قواعد لهذا الخط الأصيل في صورته التقليدية كان مطلبا ملحا لبعض المهتمين بالخط العربي في تونس..وتحديدا يوم أسس المركز الوطني لفنون الخط العربي وكان ذلك سنة 1997 ميلادي. وحين استقر بي الأمر في العاصمة وتزايد اهتمامي بهذا الخط خطرت لي فكرة ضبط قواعد له لتيسير دراسته على ممر الأجيال.


.بدأت في التنفيذ انطلاقا من كتابات على الوراق صاحب المصحف الشهير الموسوم بمصحف الحاضنة..دققت النظر وأجريت مقارنات بين الحروف في مستوى الشكل والحجم وفي مختلف المواقع ثم اخترت أجملها في تقديري مع تحوير طفيف جدا في بعض الجزئيات لتكون أكثر أناقة..وفي النهاية وضعت لها مقاييس على غرار ماجرى عليه الخطاطون مع الخطوط الأخرى..جمعت تفاصيل ذلك كله في كراس واضح المعالم عنوانه: "قواعد الخط الكوفي القيرواني" ..أرسلته للطبع وأنا لا أزال منتظرا.. هي تجربة لا أدعي فيها الكمال وإنما حسبي منها أن تفتح الباب على مصراعيه لتجارب أخرى قد تكون أكثر نضجا سواء مني أو ممن استهواهم هذا الخط ، وما توفيقنا جميعا إلا بالله تعالى وهو ولي ذلك والقادر عليه...والحمد لله رب العالمين.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح