(وحم الشجر) للجزائري المشراوي: بين تثنية اللغة وصورة الإيقاع

(وحم الشجر) للجزائري المشراوي: بين تثنية اللغة وصورة الإيقاع




راجعه: أحمد الخطيب - تأتي المجموعة الشعرية الجديدة « وحم الشجر « للشاعر الجزائري مجذوب العيد المشراوي الصادرة حديثاً عن دار ليجوند في العاصمة الجزائر، لتقدم للقارئ أبعاد التجربة الشعرية التي تشتغل على رصد المسكوت عنه في اللغة والإيقاع والصورة، في موازاة تقديم نص شعري قابل للتمحور حول ظلال الشكل القديم، والنهوض بأوعية النص الشعري الجديد، والمزج بينهما، لتبرئة كل واحد منهما مما علق فيه من زوائد، أو انهيارات على مستوى الإبداع.
تقف المجموعة بين الاتكاء على نصيّة الشعر العمودي، والاتجاه الواعي إلى المتحوّلات الفعلية للنص الشعري الحديث، وبين النزوع إلى تثوير الحالة الكامنة في الصور الشعرية المتوارية خلف الإيقاع المنسدل الناتج عن تدفق الشعور في دوائر محددة، معلومة الاتجاه، وبين الحفر في تربة اللغة الصالحة للتأويل واستنباط الدلالات عند كل قراءة.
منذ اللافتة الأولى للمجموعة التي تقع في «11» صفحة من القطع الوسط، يظهر جلياً إلى ثنائيات التنشيط التركيبي للغة، وهو ما يذهب إليه الشاعر في جلّ أعماله، حيث ترتكز هذه التركيبات على قيم تبدو للوهلة الأولى وكأنها من صيد الخاطر، إلا أننا سرعان ما نكتشف أن وراءها فكراً صافياً، ورؤية ثاقبة، مهادها التلوين والتمكين للحواس الشعرية بأن تفعل فعلها في استنباط كلّ ما هو جديد، ومؤثر، وفاعل في الأزمنة المختلفة.
« جبال لها البحر
تستقبل الماء طودا
يُرى ملء عيني
كمثل الجبال
وغابات هذا الشمال
الذي أبدع العشب فوق التلال
ومن سرحت فيه...
يا شاة عدّي ألوف البلابل».
في مقدمته اللافتة أيضا يرى الشاعر أن « الشعر كان وطنا في العيون، وكان الشاعر في هذه المضارب قلبا مغامرا»، وما بين البصر والبصيرة نرى امتداد المسافات الشعرية التي يشتغل عليها بعيدا عن التلقين، في محاولة لتبطين الفراغات بكل ما من شأنه أن يكون مثيراً.
الشاعر المشراوي يبحث في ديوانه الجديد عن صيغ شعرية غير قابلة للقطع، ليكون الشعر في النص اللغوي، حالة متحركة، وليس ثابتة، ولكن هذا الفعل المتحرك يناط به تجسيد الوسط الثابت في العنونة التي تأتي وكأنها فُصّلت من لدن النص الكلي، وليس لافتة تؤشر فقط، ومن الأمثلة على ذلك « شيء من اللين، جيوش شتائية، حامل الليل، شفق من المدن، لا سجن في هبوب، لا يقول الموت»، وغيرها مما يتيح للنص الابتعاد عن المباشرة، والاقتراب من تأثيث غرفه بما يتيح لها تسلل ما يرد الشاعر في لحظات سريعة ومكثفة، كما أنها تشير بوضوح إلى تلك الخاتمة التي تعلق في نهاية النص، الخاتمة التي تأتي صادمة ومفاجئة ومدهشة، وكأنها تحيل القارىء، أو هي كذلك، إلى نص آخر في المجموعة.
تبرز في قصائد المجموعة دائرة التكثيف على المستوى اللغوي، عبر تشظيها إلى مراحل، تستند المرحلة الأولى على قياس درجة فعالية المفردة، وفي مراحلها الثانية على تحديد المسافة الإيقاعية التي يريدها النص الشعري والشاعر معاً:
« بهاء على شرفة الليل،
يسري بأعماق نفسي،
فتخبو الرياح،
وموج كعذراء في صمتها
أدهش الشمس
يدنو بأصوات حلم قصير
لماذا تجلى الصباح
لماذا تعاني السلالم».
مجموعة المشراوي الجديدة تعاين موضوعات متنوعة، ينتظم فيها جميعاً، فكرة النص والشاعر والوجود، ولكنه انتظام تسوقه معطيات الواقع بما يحمله هذا الواقع من اندهاش ذاتي، وهم وطني، وأنساق اجتماعية، وهو في هذا الديوان كما في دواوينه السابقة يؤكد على جوهر الشعر، الجوهر الذي لا يخضع في أدق تفاصيله إلا لرؤية الشاعر، وهو يخوض غمار التوفيق بين النص القديم والنص الحديث، وإيجاد مساحة خاصة به فيما بينهما، لهذا تتعدد أنماط الكتابة بين القديم المحدّث رؤية واشتغالا، وبين الحديث المعمد بتسابيح القديم.
يشار إلى أن الشاعر المشراوي كتب الشعر في سن متأخرة، تقريبا في بدايات العقد الرابع، حيث كان يختزل في أعماقه انصهارات فعل القول الشعري، ولكنه ابتعد عن تثوير فوهتها لانشغالات متعددة، ولإيمانه أن لحظة الولادة لم تحن بعد، أصدر في الشعر ثلاث مجموعات هي « شظايا، توشيح الذاكرة، ووحم الشجر»، وهو من الشعراء المعروفين الآن في الجزائر وعلى امتداد مساحة الوطن العربي.
http://www.alrai.com/article/22011.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح