خلف أسوار الكاتدرائية / الفنان التشكيلي التونسي مراد الزارعي




L’image contient peut-être : ciel et plein air

خلف أسوار الكاتدرائية

الفن كجبل الجليد الصلب، تمتد ابداعاته إلى أبعد من الخيال، أما منجزاته فتسيطر على المكان والزمان، فحيثما تولي بصرك شرقا غربا جنوبا شمالا ، لا تجد سوى بقايا ارث بشري متعدد ومختلف وأزاميل تعبت الاصابع من حملها. أما تراكم السنين فقد أعيى طاقة البشر وأضناها ، وترسبات فوق ترسبات تتكدس في وعينا وفي حاضرنا دون ان ننسى ماضينا الذي يحمل كل ثقل جبل الجليد هذا ويرفعه الى اعلى غير عابئ لا بالوزن ولا بتأثير السنين.
جلست وحيدا فوق مقعد خشبي قديم يطل على احدى زوايا «الكاتدرائية العتيقة» وأسوارها المطلة على مدينة «روان» الفرنسية ، انظر إلى ما ابدعته يد الانسان وأتأمل في جمال العمارة الابدي وسحرها الذي يملأ المدينة بعبق الماضي وبدفئها الاثيري ونفسها الشاعري الذي لا يفهم معناه ولا مأتاه الا من تعود الانصات لترانيم الحياة المنبعث من خرير الجداول المحيطة او من اجراس الكنائس المعلقة او من اصوات الطيور المحلقة التي وجدت مستقرها اخيرا بين أقدام المارة من البشر ...
وقفت مندهشا امام عظمة المكان ألوح بناظري من اسفل البناء الى اعلاه أمام صورة الصليبين الموجهين في استغفار الى السماء ، اعد تلك الاعمدة المتراصفة والمتناسقة بلا حدود لا يربطها من فاصل غير اقواس العبادة وصورة العذراء تحمل ابنها وتشهد أن للإله ابن هو اليسوع .
ذهلت حينما امتد بصري لا اراديا الى تلك التماثيل الكثيرة المعلقة في محراب توبتها بين السماء والأرض، صور الهة ورهبان وقديسين وفلاسفة ومفكرين... أينما تتجول في المدينة تجدهم في بهوهم موقرين شامخين رافعين رؤوسهم وأبصارهم يتلون دعاء الحكمة والمعرفة والنظام ... يحمون مدينتهم من الفوضى والكسل وهو اصنام فكيف اذن كان حضورهم وهم احياء؟
ان الموت لا يعني بالضرورة القطيعة والانفصال بل هو احياء وتذكر ووفاء لقيم التواصل وتأكيدها عبر الزمن ، وان كانت حاجة الانسان عامة الى التواصل مأتاها شعوره بوحدته وانفصاله عن الآخرين فان لحمته بهم ستكون اعمق واقوى ، فالانسان مدني واجتماعي بطبعه. حيث يعتبر «جورج باتاي» ان كل كائن متميز عن الآخرين كلهم ، ذلك أن ولادته و موته وأحداث حياته قد تكون ذات أهمية بالنسبة إلى الآخرين ، لكنه المعني بذلك مباشرة. هو وحده الذي يولد ، هو وحده الذي يموت. وبين كل كائن وكائن آخر، توجد هوة ، يوجد انفصال ... لكننا نملك ذلك الحنين إلى الاتصال المفقود...اتصال البشرية الابدي وتوحيدها في كلمة انسان ، هذه الكلمة التي تشتتت حروفها وضاعت في طي النسيان. كيف لكل ما ابتدعه الانسان في مشواره الازلي الطويل من علوم وأديان وفلسفات وأفكار هادئة ومضطربة ان تجمعها وتوحد شملها. بين عربي وأجنبي وأعجمي وبين مسلم ومسيحي وبوذي ويهودي وغيرها من التقسيمات ومن كثرة استعمال واو العطف في خطاباتنا ، وكأننا صرنا نستنجد بها طلبا للرحمة والعطف ...
كانت تلك أشد اسئلتي احراجا ، وانا اقف تحت سقف الكاتدرائية اتأمل صورة المسيح ، وأنا لست بمسيحي ، ما ذنب هؤلاء المشتتين بين العقائد والأديان والمذاهب والرب واحد تسع رحمته كل الطوائف والعباد ، تساءلت وتساءلت لكنني أدركت اني ادور في حلقة مفرغة من المعنى ، والإجابة صريحة و واضحة محملة كالعادة بالإثارة ما دام الموضوع المطروح موضوع دين.
وحينما ولجت قدمي ممر الكاتدرائية الخلفي ، تأملت المشهد ثانية ، وتأكدت من حقيقة مفادها ان الفن قادر على تغيير ما في النفوس الى الأفضل وقادر على جمع شتات كلمة انسان ، مادام احساسنا ينبض بالجمال وشغفنا يحيا بالخيال...
أليس الفن بصفته محاكاة و صناعة أوهام ، يزاولها دجالون ويصدقها سذج وجهلة؟

بقلم مراد الزارعي باحث وناقد فني من تونس



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح