"وفي عينيك الحزينتين يبدأ وطن الحلم" (لمحة عن تجربة النحاتة الليبية "مريم هنيدي)


مراد الزارعي

يقول "بابلو نيرودا" (وفي عينيك الحزينتين يبدأ وطن الحلم)، بما هو وطن الحلم الابدي ووطن الذكرى ووطن الشوق ووطن الابداع الذي بات يسكن ارواحنا وعقولنا وأناملنا التي ابت إلا ان تجرب سحر المادة وطواعيتها لتدرك حسها ووقعها الاثيري في النفس والزمن لتفقه بعضا من ابجديات لغتها الخرساء التي سرعان ما تتحول ما ان تتشكل وتتجسد فتكسر حاجز اللغة وحاجز الصمت الرهيب وهاجس الخوف الذي ما فتئ يتملك ذواتنا وأجسادنا الفنية المنصهرة حسيا وروحيا مثل مادتنا وألواننا التي نمضي اغلب اوقاتنا نتلمسها ونداعبها بإحساسنا المألوف وبطريقتنا الغير مألوفة و برؤيتنا المختلفة عن رؤى الاخرين وتطلعاتهم العادية التي ترغمهم لكشف الحقيقة وجعلهم يبرزون ذلك الجزء المنزوي عن الاعين بطريقة ملفتة وساحرة ، هنا تقبع الحقيقة هنا يسكن الفن وهنا موطن الجمال الاصلي فانظروا اليه...
انظروا اليه في تلك الاعمال التي تبدعها انامل الفنانة والنحاتة الليبية "مريم هنيدي" و هي تمر بأقسى واشد لحظاتها ألما ومعاناة علها تمسح قليلا عن الروح غبار الحقيقة (على حد تعبير "بابلو بيكاسو") وتؤكد على ان الفن فطرة لا ثقافة ، فطرة تخلق مع الانسان وترافقه في مشوار حياته الطويل ، لا تحتكم لصوت عقل مهما علا ، ولا لإرادة حرة مهما اندفعت ، ولا لأي عرف ولا لظرف محيط ، ولا لدين مهما علت منابره ، ولا حتى لحرب مهما اشتدت قوة غطرستها... فقط احتكم يا فن لصوت ذاتك الصادقة التي تنبع من اعماق وجدانك ... لكي تخترق اعماق وجدانهم وتعلق في ذاكرتهم للأبد، وتنحت في نفوسهم املهم وفي قلوبهم التي تحجرت كما المادة التي تشرع الفنانة في نحتها. وبالرغم من قسوتها تمضي مريم فيها سعيدة باجتراح كيانها الصلب المغتصب بمشارط الحياة وأزاميل الامل التي تدقها بلا هوادة ولا تأني يخفف عنها قليلا من المشقة والتعب الذي يكسبها سعادة ومتعة لا تنتهي وشغف لا ينضب للفن (بحمولاته من الجماليات المترعة بالإثارة الحسية والدلالات الرمزية المتعلقة بالإنسان وعملية استمراره في الحياة) ، دلالات يتواشج فيها الحسي بالفكري والقدسي بالمادي والواقعي بشاعرية الانثى وجمال الحياة في مخيلتها.




في ركنها المنزوي عن الاعين تقبع الفنانة "مريم هنيدي" كعادتها تحاكي مادتها الطينية وتروي لها قصصا من اساطير الخلق والإبداع والاستماتة في تحقيق ما ترغب وما تريد ان تكون. فللإنسان تاريخه الطويل مع ما يريد ومع الطين تتجسد اكبر حقائقه وحكاياته المثيرة ، حكاية خلق وإعجاز تعجز عن استيعابها افكارنا الشاردة والمنبوذة ، فقد صنع الانسان من الطين لكي يحمل العناء عن الالهة حسب احد الاساطير السومرية ، إلا ان هذا العناء ابى إلا ان رافقه في مجمل تفاصيل حياته اليومية ، في صراعه مع البقاء في دفاعه المشروط عن معتقده وعن افكاره ورغباته وحتى في ممارسته ما يهوى من فنون وصنائع. وهو نفس الشعور بالعناء الذي لا زالت تناجيه هذه الفنانة لمادتها جراء ما تعيشه ايضا من ضغوطات نفسية عميقة في مجتمعها المحافظ ، في بلدها العربي الاسلامي ، الذي مازال يضع القيود في منكبي المرأة ويقيدها خصوصا وان تفردت وأبدعت ، او قررت ان ترسم لنفسها نهجا مغايرا ودربا مختلفا يميزها عن باقي القطيع ، قطيع الافكار المتوارثة وقطيع المعتقدات الصارمة و المتصادمة ظاهرها مع باطنها.  وكيف لها ان تقطع اوصال كل هذه العلاقات المتنافرة المتواصلة بعضها ببعض ، والاهم كيف لها ان تواصل حكاية خلقها المثيرة والمستحيلة في زمن غلبت عليه كل اشكال التعصب والتطرف ؟
هي ... بمجرد شعورها بأنها فنانة ترتكب ذنب وان لم ترتكبه عن قصد ، وفي اعترافها بفنها ايضا خطيئة ، وان كانت هذه الخطيئة مغلفة من الخارج ببعض التفهم والتصالح مع الذات والأخر . إلا انها من الداخل تحمل الكثير من القطيعة والتعصب والرفض القاطع الذي يجد في البيئة المحيطة الكثير من مبرراته وأشكاله التي تتغذى على الايديولوجيات الخاطئة والأحكام المسبقة والصراعات والانشقاقات السياسية والاجتماعية.
تعصب، اصبح يتنامى في مجتمعاتنا العربية بشكل مفزع ومرعب يلزمنا ان نصمت جميعا وان تتجرد هي من روح الفن الذي يتهددها وهي تقف في منتصف الطريق ضائعة بين صوت يردعها بقوة ويجبرها على الخضوع والتراجع وصوت يصرخ في اعماقها ويدعوها لكي تقاوم بالفن وبالطين. ففي الطين تكمن حقيقة الانسان وقوته الازلية التي قهرت كل الاكراهات والماسي والصعوبات التي تعرض اليها منذ فجر التاريخ ولا زال الى الان  ، ومثلما كان يخط البدائي مآسيه ومسراته وأحلامه ورغباته تقوم "مريم هنيدي" بنحت تصوراتها وأفكارها ومواقفها التي عجزت عن التصريح بها علنا على مادتها وتوثيقها في اعمالها ذات النفس الاكاديمي الذي برعت فيه وأبهرت في طريقة مزجها بين الاسلوب الكلاسيكي والصورة الحديثة والتصور المعاصر لشكل المنحوت القائم في مجمله على تأثيث الفضاء العام من خلال التفاعل الجمالي للعلاقات التشكيلية بين اختلاف الملمس والتحاور بين الخط والكتلة والفراغ والذي نلحظه خاصة في منحوتتها القناع.




القناع اكثر ما يشدني شخصيا في اعمالها النحتية، فبالإضافة عن ثرائه البصري على المستوى الشكلي والتركيبي ،إلا انه يعكس نصا ايحائيا ذو طبيعة انثوية صرفة قادرة على توليد المعاني والإيحاءات والدلالات التضمينية التي تتعدد قراءاتها وتأويلاتها بين فنية وجمالية ونفسية.
قناع تختفي ورائه كل الحقيقة البشعة ، وتتوارى خلفه الفنانة مثقلة بهمومها ورغباتها وأحلامها المؤجلة وطموحاتها التي تحارب العالم من اجلها من اجل ان لا تضيع مثلما ضاعت اشياء كثيرة كانت تشكل لحظات فارقة في حياتها القديمة. التي ترتسم عليها مرايا عديدة و فصول مختلفة من العشق والشبق والوجد الذي يصل حد العبادة بين الفنانة ومادتها التي من نفس طينتها ، طينة انثوية ملهمة تعكس من خلالها صورة الذات المسكونة دوما بالشغف والخوف وعلاقتها الحميمية بالفن التي تتحدد عبرها صورة الفنانة والإنسانة "مريم هنيدي" ،و بين صورة الفنانة ومادتها امر يفصل العالم عن كل شيء ويصله بكل شيء.
في المادة تجسد مريم روحا هائمة وتبحث عن اثر ارتساماتها في الواقع فهي تراقب ذاتها من خلال مادتها فتعشق ذاتها من خلال ما تجسمه اناها ، فتحول محسوساتها وذاتها ونفسها الى مواضيع للبصر ومشاهد من عالمها المباشر وتعيد صياغتهما من خلال شخصها كنحاتة استطاعت ان تهزم كيانها المضطرب وماهيتها الانثوية التي يرفضها مجتمعها لحد بعيد ، تجاوزت الجنس والبيولوجيا وأدوارها الوظيفية ، التي حددتها لها الاعراف والتقاليد كامرأة وواصلت عشقها للفن و عشقها للمادة (الطين) وعشقا للأرض التي منه خلقت وعبره تواصل صيرورة الخلق !

بقلم مراد الزارعي باحث وناقد فني من تونس


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح