نحاسيات الفنان الجزائري محمد بوكرش / الناقدة التشكيلية المغربية خيرة جليل
سينوغرافية جودة التشكيل النحتي بنحاسيات الفنان الجزائري العالمي محمد بوكرش للرفع من الذوق الفني لدى المبدع والمتلقي على حد سواء
منذ ثلاث سنوات تعرفت على أعمال الفنان العالمي محمد بوكرش صدفة ، منذ ثلاث سنوات وهي تشدني إليها بقوة مما يجعلني اطرح نفس السؤال ، هل هذه الأعمال يجب أن نحسم فيها على أنها منحوتات نحاسية فقط ؟ أم أنها من خلال طبيعة وشكل تقديمها هي لوحات تشكيلية بأسلوب نحتي ؟ دائما أقول ما هي الخلفية الفكرية والفلسفية التي حركت الفنان لتبدع لنا تحفا فنية تتوفر فيها جميع المعايير الجمالية والفنية للعمل الفني ؟ إلى أي حد استطاع الفنان ترجمة أفكاره الفنية وفلسفته النضالية للترجمة قيم إنسانية وفلسفية في أعماله الفنية لنقش اسمه كمبدع حتى لا يطاله النسيان ؟
إن ;كان "هيجل" يؤكد على أن الشكل يقوم بتنظيم عناصر اللوحة، ويجعلها في وحدة كلية يشيع بينها الانسجام والتوافق، فيمكن إدراك هذه العناصر - ككل - جماليا. كما يؤكد على أن هذه الوحدة ليست غائية مجردة، أو في خدمة غاية محددة.وإذا كان الشكل هو أكثر العناصر التي يقوم عليها العمل الفني صعوبة إذْ يتضمن مشاكل ذات طبيعة ميتافيزيقية. فليس من المستغرب أيضـا أن يكون الشكل أكثر الكلمات غموضا في لغة الفن. فقدرة الشكل على القيام بوظائف متعددة في الفن، وكونه مصدراً لقيم متباينة، هو نفسه الذي يجعل هذا اللفظ مستعصيا على التعريف،ولعل هذا الغموض يأتي من اتساع مجال الشكل، وتنوع الاتجاهات والآراء حـوله، فنجد هناك من يضعه في الصدارة من المفكرين، في حين نجد آخرين يلحقونه بالمحتوى أو التعبير ، ونحن بصدد دراسة الأعمال الفنية إن صح القول النحتية التشكيلية النحاسية للفنان الجزائري محمد بوكرش نجد أنفسنا أمام منشأ فني قائم بذاته جمع فيه بين النحت بمهارة عالية على النحاس ومارس فيه التشكيل بدقة متناهية مما جعلها تكميلة لمسار تشكيلي حافل بالعطاء مما جعلنا أما فنان جمع بين مجالين فنيين متكاملين مما عكس لنا زوبعة في عمق الذات البشرية المبدعة . فكلما تأملنا بواسع النظر للوحة/السند بمرجعية الجشطالت gestalt القائلة حسب روادها من علماء النفس الألمان بأننا ندرك الكل بعد ذلك نهتم بأجزائه.
هكذا هي هندسة هذه اللوحات النحتية التشكيلية النحاسية لدى بوكرش، فلا سبيل لإدراك موضوعها غير الكل المعمم الذي يؤسس لبقية الأجزاء المتجانسة.إننا في دراسة أعماله وتداخلها ما بين النحت وتطويع المادة النحاسية لإرادته القوية والمستميتة وبين التشكيل برمزيته العميقة من رموز ونقوش وصور تستمد مرجعيتها من ثقافته الثاوية في أعماق تقاليد بلده والتي لا تخرج عن نطاق العادات المغاربية والعربية والإسلامية الإفريقية يجعلنا نؤكد على أولية الصورة، ووضع تنظيم المادة وتـرتيبها هو الدور الجوهري في الفن، وبذلك يعلي من قيمة الصورة الجمالية ويجعل ما عداها مجرد ظل لها أو نتيجة .
والصورة الفنية في أعمال بوكرش هي ظاهرة الشكل المعقدة، ويجرى إنشاؤها قبل كل شيء من التفصيلات التجسيدية آو الحرفية الدقيقة . فتصبح كل لوحة تجزيئية جزء من اللوحة الأم وهي سلسلة نحاسياته ؛ وبذلك فهو تصور بصري نحتي تجريدي آو تجسيدي أو كليغرافي لبوكرش أراد به التعبير عن روح المعنى ودلالة عملية تجانس اللون النحاسي مع غائية الفن وموضوعه وبعده الفلسفي من خلال تموجات وتفاعلات سهلة ممتنعة بين النقوش المختلفة والخلفية الفكرية التي تحركه ، لكي تتجمع وتفترق داخل فضاء نحتي تشكيلي، وكأنها مجموعات رياضية تمت صياغتها في قالب هندسي. إنه قالب شبيه بنظرية المجموعات التي تحدث عنها الرياضي جورج كانتور بالنظر إلى إيحاءات المعاني التجريدية التي يصعب القبض عليها داخل النسق الجمالي و النحتي التشكيلي الذي وظفه هذا الفنان في اطار الفن الراهن وفلسفة التأويل التي يفتح أبوابها على مصارعها تاركا حرية التفكير والتفسير و التأويل للمتلقي والذي يسافر في كينونتها بدون عوائق إيديولوجية أو فكرية .....
إن هذه اللوحات النحاسية والتي هي في حد ذاتها إنشاءات ونقوش قبل كل شيء من التفصيلات التجسيدية في الفنون التصويرية جزئيات حياة الفـرد الذي يجري تصويره ، جزئيات مظهره الخارجي (البورتريه) لوجه الفنان في حد ذاته والوسط المحيط به وأفعاله ومعايشته وأقواله، وعلاقاته بالأفراد الآخرين، وكل جزئيات الحياة هذه تغدو تفصيلات للصورة النحتية التي انزلها على قطعته النحاسية بعد تطويعها لإرادته الفعلية والفكرية تتثبت الجزئيات التي اختارها الفنان من بين كثرة من الجزئيات الأخرى الممكنة في حياة الفرد المصور كشخص رمزية للمجتمع ككل. ويتحقق هذا الترتيب بواسطة الوسائل المادية التي يحوزها النوع الفني المعني لإعادة خلق الحياة بواسطة الكلمات والإيماءات، وتعابير الوجه والخطوط والكتل التشكيلية.و خلال هذه الصور قام الفنان باستخدام كل الإمكانات المتاحة والمفيدة لكي يجعل العمل الفني يأخذ قوامه وبناءه الجلي، مجسداً في ما يعتمل في داخله من مشاعر وأفكار وفلسفة جمالية .
فقيمة الشكل الفني لدى بوكرش تتلخص قبل كل شيء في أنه يعطى المادة الحياة التي استوعبها فنيا وفكريا بصيغتها النهائية الكاملة.والشكل الفني ليس مجرد هذا وحسب - أي إعطاء المادة صيغتها الفنية ليست مجرد أشكال نابعة من الوعي الفردي للفنان - يحددها السمع والبصر - وإنما هي أيضا تعبّر عن نظرته إلى العالم التي يحددها المجتمع.فالشكل في جوهره تعبير عن نظرة إلى العالم والجدير بالذكر هنا أن أشكال الخبرة الفردية للفنان التي يحدّدها السمع والبصر لا تجتمع بصورة مستقلة عن التطورات الاجتماعية لبلده .
و إذا رجعنا إلى البعد الفلسفي لدى بوكرش فإننا نجد له خلفية عميقة إذ أن العقل في العالم العربي ما زالت لديه ضبابية كبرى في التفريق ما بين الحقيقة والاعتقاد.. وبهذا نجده يرمز في لوحاته إلى الاعتقاد بأنه مجرد نحت على النحاس مستدرجا المتلقي البسيط إلى الاعتقاد بأنه نحت بسيط يدخل في اطار النقوش والمسكوكات النقدية أو النقوش التمائمية المستوحاة من الثقافة الشعبية البسيطة للمجتمع .... في حين أن الحقيقة أنه عمل فني نحتي تشكيلي يستمد مشروعيته من الفلسفة الجمالية ويطرح إشكالية ما هي الحدود الفاصلة بين النحت والتشكيل ؟ فيبرهن على أن التشكيل هو امتداد للنحت وان النحت هو وليد للفكر التشكيلي بأبعاده وخلفياته ومكوناته المتعددة ، وبذلك فهو يعكس فكرة أن الذات المبدعة لا حدود لها في التماهي مع الواقع المعاش أوفي ترجمة أفكارها الإبداعية لتصبح حقيقة ملموسة تستقطب اهتمام المتلقي البسيط والمتلقي المتخصص بخلفية ثقافية أو فكرية فلسفية على حد سواء . فهو بعمله هذا يناضل ليصبح البناء المعرفي حقيقة وواقع وممارسة من خلال البناء التشكيلي النحتي لترجمة مفاهيم كالمساواة، الحرية/ احترام القانون/ الحق في العيش الكريم للجميع/ حق الشغل للجميع/ التعويض عن البطالة/ الكل سواء أمام القانون/ العدالة للجميع......الخ. من خلال التمكن والتحكم في المادة النحاسية وتطويعها بأعمال نحتية وتشكيلية تترجم الإرادة العامة للمجتمع ككل .
وبذلك نقول إن الفنان يريد أن يكون إبستيميا، عن دراية حقيقية علمية وواقعية أيضا لا ديماغوجيا ولا إيديولوجيا نفعيا إقصائيا ولا براغماتيا ذاتيا منغلقا حصريا محافظا بل هو، مواطن اليوم، وهو إنسان عَالَم معرفي علمي فكري واع بالحق في المساواة بنفس درجة مساواته بين فن التشكيل وفن التحت من حيث القيمة الفنية المضافة من خلال أعماله الفنية ، مؤمن بحقوقه منفتح على مُختلفيه قابل لاختلافاته بحيث جعل سنده الفني مادة نحاسية تتطلب الصقل لتلميعها مثل العقل البشري الذي يجب دعوته للاجتهاد والمثابرة و منشآته الفنية خاضعة لنقوشه كالعقل في التعلم وطلب المعرفة وما ينقش على ظاهره من معارف مختلفة ، كما انه لا يقبل بالمُتاجرة في فنه بما يفرق بينه وبين آخرين حتى وإن كان لا يتوافقون معه النظرة نفسها للحياة، بل يُؤمن بحريته ويدافع عن حريتهم، فهو يُؤمن بحقوقهم قدر إيمانه بحقوقه، وبقدر ما يدافع هو عن حقوقه، سيدافع بما هو لهم أيضا، ولم يعد يقبل أن يُسلب منه شيئا، بدعوى حمايته ممن يُخالفونه، أو عن طريق استغبائه العقلي إذ هو بمنجزه الفني يعلن على انه مختلف مع الآخرين في التعبير عن فنه ولكن يتحد معهم في الفن والفلسفة الجمالية التي يمتح منها في إبداعاته . يدمج التشكيل في النحت والنحت في التشكيل للتعبير عن أفكار وقيم جمالية راقية موضحا ان لا حدود فاصلة ي بين فروع الإبداع إن كان هدفها خلق المتعة الفنية والبصرية حتى وان اختلفت المرجعية الفلسفية التي غايتها واحدة وهي خلق المتعة البصرية والرفع من الذوق الفني للمتلقي ليصبح مندمجا مع الحركة الفنية العربية ولما لا العالمية .....
خيرة جليل
الهوامش.
*7 "جيروم ستولنيتز ": النقد الفني
*8 "هربرت ريد": معنى الفن.
*9 Croce, Bendetto: The Essence of Aesthetic - Translated by Douglas Ainslie - The Arden Liberary, 1978.
*10 "ارنست فيشر": ضرورة الفن - ترجمة أسعد حليم - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1971 .
*11 "عبد الرحمن بدوي": فلسفة الجمال والفن عند هيجل - دار الشروق - الطبعة الأولى - القاهرة - 1996 .
سعيد العفاسي، فنان تشكيلي وناقد التفكير بالشكل في العمل الفني المصدر : آربريس. الأربعاء 7 ديسمبر 2016
.
تعليقات
إرسال تعليق