لغة التوليف البصري في (ما يشبه الأثر) / كاظم حسوني
لغة التوليف البصري في (ما يشبه الأثر)
كاظم حسوني
09/07/2012
حين تقرأ لمحمد خضير سلطان عليك ان تهيأ اسماعك ، لألتقاط الأصوات الخفيضة ، وبصرك وحواسك ، لتحيط بما حولك ، ثمة اشياء شفافة ، وهمهمات ، اشياء معلقة في الهواء ، او مغمورة في الماء ، صور واخيلة ، ولوحات من مشاهد الحياة اليومية ، واشياء اخرى منسوجة ببراعة في مجموعته القصصية (ما يشبه الأثر) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 1998 ، التي احتوت على (17) قصة ، بواقع (42) صفحة بالقطع المتوسط ، وكل قصصه قصيرة جداً ، الا اربعة منها ، وبالرغم من صغر حجمها ، وهي المجموعة الوحيدة كما اظن للقاص ، لكن العبرة ليس بوفرة النتاج ، انما بقيمته ، واعتقد ان القاص بحرصه الفائق على تطوير فنه ، وتأنيه ، وعدم تعجله في النشر ، لصقل تجربته ، وعلى قلة نتاجه ، برهن على درجة النضج الابداعي في قصصه ، اذ اتسمت مجموعته القصصية (ما يشبه الأثر) بقيمة جمالية عالية ، ، فلغة السرد لدى محمد لغة بصرية متحركة ، لغة التوقع والاحتمال ، المشبعة بالايحاءات ، لغة تخفي مستويات عدة ، بدلالاتها الكامنة ، ، سرد تشكيلي يجسد الصور والافكار ، في بنى متحولة ، بأدوات الفوتوغراف والكولاج ، للخروج من اهاب الواقع الذي استمد منه نسغه الفني ، بأعتباره اي الواقع منسوخاً ، ليطل على قارئه بصور جديدة من مادة الواقع ذاته ، فالقاص متكئاً في مشغله على تقنيات الكتابة الجديدة ، القائمة على تمازج التجريد النظري ، والاشتغال الفعلي في ورشة السرد ، حيث يتداخل في اسلوبه الواقع المرئي واللامرئي ، وعوالم ما بين اليقظة والحلم ، في بوتقة النص ، ، وابرز ما يلفت في نصوصه البناء السردي المحكم ، الذي اتقنه بميزان دقيق ، الى جانب نزعته التجديدية في القص ، والخوض بالتجريب بأدوات قاص خبر صنعته ، واختبر نصه ، مشيدا ابنيته القصصية بأناه وروية . . والقراءة المتأنية لنصوصه تجعلنا نشعر ان ثمة روحاً خفية تقف خلف كتاباته ، تكمن وراء الكلمات والسطور ، روح تنبض بقوة في خلايا النص ، تمنحه حركة وتدفقاً ، تثير شغف القارئ بلذة المقروء ، ،
فهذا النسيج اللغوي المحبوك بمهارة ، لحائك متمرس ، يمزج حزم الخيوط الملونة ، ليشكل نسيج الكلمات ، ملمحاً بالفكرة ، في لعبة غامضة تنتظم فيها شبكة الحكاية ، وما تختزن من مسارات والغاز ، ، فمدونات محمد خضير السردية ترتحل بالواقع الحكائي المألوف الى واقع البوح التخيلي ، لأزمنة وأمكنة واحداث ، (استعاض به القاص عن لغة الوصف الشيئي بلغة التوليف البصري (المونتاج) ، لاعادة انتاج حياة تخيلية ، تصورية ، تتمحور فيها الاشياء في لحظة القص ، لبناء ذاكرة النص المضيئة ، بتجليات الابداع ، وقوة الخلق . . احسب ان مجموعة (ما يشبه الاثر) ورغم مرور اكثر من عقد على اصدارها ، الا انها في تصوري اثرا فنياً لافتاً للانتباه ، بما زخرت به من فنيات ورؤى اسلوبية ، وابنية متطورة ، وما تجسده من سمات الفن التجريبي للقصة العراقية ، واعني هنا مفهومي التجديد والحداثة السردية ، وتشكل هذه المجموعة مثالاً حياً ، لذلك ، وابرزها رائعته القصصية (مرويات خيط المرعز) ، لندرك مدى غنى فضاء القص ، وسحر الحكي ، وما تفيض به هذه القصة من متعة بغموضها الفني الجميل ، اذ تشدنا لقراءتها بأنغمار كلي ، حيث الخيال الخلاق ، ، ثمة صور غرائبية ، وفنتازيا ، افكار اطلقها الخيال ، بجموح الحياة ذاتها ، احتشدت في صور مزحومة بالاثارة والدهشة . . القاص في هذه القصة وسواها ابتكر عالما اخاذا ، يجتذبنا فيه اسلوبه ، ولغة الوصف المكانية ، المحفوفة بهالة من الدقة التصويرية (اول الليل قدحان ، وطيور النورس تلاشت في الآفاق او وراء الماء ، تأرجحت موجة من العصافير بآخر الصداح والحفيف ، عرجت الى الوديان ، وغابت وراء القمم ، اعقبتها طيور القطا العالية ، تنبض بخط مستقيم ، وتختفي في الأفق ، تختلط يقظة الأشياء بامتداد الذاكرة) ، امكنة محمد خضير سلطان مشحونة بالأشياء الدالة ، والفضاءات المفتوحة التي يختارها ميدانا لمروياته ، نجد ان ابرز سماتها ، الاقتصاد بالكلمات ، جمل مكتنزة بالمعنى ، مشذبة ، تشي عن حساسية مرهفة ، ودقة في مبنى الحكايات ، فثمة اختزال ، ولا توجد استطرادات او زيادات في السرد ، وذات الحذر في اختيار الشخصيات الواعية المحملة بالأرث المحلي والصدق الانساني ، شخصيات مشبعة بتهاويل الواقع وحركته . . ففي قصة (فضاءات) التي تفرعت منها ثلاث نصوص قصيرة .
نصوص المرايا \ نصوص التنور \ نصوص البئر \ هذه النصوص تومئ برأيي على نحو ما الى مزايا تجربة القاص حسب قراءتي لما احتوت من التماعات واضاءات ورؤى ، او ما يشبه الأثر ، وتقصي هذا الأثر في مسروداته ، ، في نصوص المرايا نقرأ (تقصي الأثر على سطوح المرايا ، اللاقطة الكاشفة المشعة الني يطفح وينعكس على سطحها العميق الصقيل ادق الأشياء ، حتى حبات التراب ، واثار الخطى ، والق الاجساد (هاكم اعجنوا مراياكم بأيديكم ، اعجنوها وتفرسوا في التفاصيل المنعكسة) وفي نصوص التنور (هذه الطريق الطويلة الممتدة من الفوهة حتى القعر الرمادية القديمة منذ آلاف السنين تكمن القصص وتنضج فيها ، ، ان العالم يتأكل في قعر الرماد والقصة الحافية تبحث عن مجازها في فضاء التنور) . وفي نصوص البئر : يحكي لنا القاص عن مشغله السردي ورؤيته ، حين تمثل له البئر ذاكرة ، وخزيناً عميقاً ، والبئر رمز لمسارب الزمن ، والافكار والرؤى ، حيث تنضج القصص من مياه بئر عميقة ، كلما ترتوي منها ، تشعر بالظمأ اليها ، وكلما تنفذ الرؤيا يعشب الوهم ، وفي البئر نشوة البحث والتقصي ، ففي اغواره المظلمة مخزون متراكم ، قصص تحت الانقاض ، وقصص العابرين ، وحكايات التائهين والمطاردين . .
في نصوص (ما يشبه الأثر) نرى في الغالب ، السارد الراوي ، او البطل الذي يماثل الراوي ، ، نكتشف الفهم العميق للبيئة ، والبقعة المكانية الخاصة الحاضنة ، لفضاء النص ، كذلك نرى ان ميدان قصصه لم يقتصر على اشياء الارض ، انما تتحدث بعض من قصصه عن اشياء السماء (لم يكن بوسع احد من الناس ان يلم بتضاريس النجم المغمور بالتوهج الفضي الشاحب في سماء المدينة) ، اقول ان محمد خضير سلطان من الذين يصنعون القصص بمهارة ، كل شيء عنده مؤسس على وعي ، على خبرة وموهبة ، لا يروي بسردية مألوفة ، تلتقى في نصه الفنون بفضاء السرد ، لتخلق بساط الحكاية الجديدة ، البساط الطائر في سماء الحكي الجميل . .
(ما يشبه الأثر) للقاص المبدع محمد خضير سلطان امتلكت بأمتياز تأثيرها الخاص ، وعطرها الخاص . . واضافت للقصة العراقية اثر الابداع .
كاظم حسوني
ــــــــــــــــــ
http://www.alnoor.se/article.asp?id=160223
تعليقات
إرسال تعليق