الواقعية الاجتماعية الآسيوية بين الواقع والسخرية منه / مراسلة الفنان علي النجار
الواقعية الاجتماعية الآسيوية بين الواقع والسخرية منه
...........
اختصر هذه الموضوعة بمثلين من بلدين متجاورين مختلفين. هما الصين وإيران.مثلما هي حركة التاريخ تمر بدورات وانقطاعات. كذلك هو حال الفن الذي تتغير أنماطه الرئيسية, وأساليبه الأدائية , بمرور الزمن وتقلباته. فان كانت واقعية كورييه الأوربية (القرن التاسع عشر) ردة فعل على الرومانسية. وإعادة الاعتبار الى الإنسان ومحيطه وبدون مثاليات ولا مبالغات رومانتيكية. بل كما هو مظهره الخارجي في خلوته وكدحه. وبثقله المظهري الفيزيائي. وان نبذ صاحبها لموقفه من الملكية. فان ارثه لم يمحى, بل أصبح فيما بعد مع تأثيرات واقعية أوربية أخرى, لقد كان هذا الإرث من أهم مقومات فن الواقعية الاشتراكية تقنيا على امتداد حقبتها الاشتراكية الزمنية التي بدأت منذ بداية القرن العشرين وبعد ان(اقرها الحزب الشيوعي السوفيتي عام(1932) فنا رسميا, وحتى انتهاء الحقبة الاشتراكية في أوربا نهاية ثمانينات القرن العشرين ). في الصين بدأ التمرد على هذه الواقعية بشكل مختلف. لقد كان للتغبير الدراماتيكي لنهاية الحرب الباردة. بعد زوال المعسكر الاشتراكي. ودخول العالم حلقة العولمة الجديدة ألأثر الكبير في هذا التغيير. لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة. إذ لولا حادثة( مذبحة ميدان السلام السماوي(1989) في بكين) لا ندري كيف سيكون أمر هذا التغيير. فهذه الحادثة, أو الهزة, هي التي ساعدت على التسارع في خلق جيل فني معاصر جديد.
أهم علامات معاصرة الفن الصيني, وخاصة في مجال الرسم, تتمثل في نتاج عدد من الفنانين الجدد (الطليعيين) الذين كرس بعضهم( الواقعية الاجتماعية) مجالا واسعا لتناول العديد من القضايا الاجتماعية(التي كانت محظورة) مجالا لرسوماتهم. من أمثال( زهانك كزاوكانك, فانك ليون, يي منجون). لقد سعى هؤلاء الفنانين وغيرهم لتجاوز المحظور, وللحد الذي تناول بعضهم إيقونة(ماو تسي تونك) بشكل جديد لم تعهده الصين الشيوعية قبل ذلك. الرجل الذي اسس الاشتراكية الصينية, وحكم أطول فترة زمنية من تاريخ الصين الحديث, ومارس اجتهادات, كانت أسوئها الثورة الثقافية(1966ـ1976) والتي قضت على الكثير من المخلفات الأثرية الثقافية والدينية. تناولت سيرته الواقعية والجماهيرية المتخيلة كم كبير من الرسوم والرسوم الجدارية الواقعية الاشتراكية. لكن تحولت صورته الى حقل لتجارب هؤلاء الفنانين الجدد, معتمدين على كاريزما شخصيته العاطفية الجمعية, وللحد الذي أصبحت فيه ماركة تجارية. بالتأكيد هم في هذه الأعمال تجاوزوا محظورات السلطة الثقافة الصينية المحافظة. فهم, في هذه الرسوم يعيدون تفكيك( الشخصية ـ الحدث) كأيقونة شعبية, لكن, بعد أن يقصوها عن إطارها الايدولوجي. فهي كصورة قابلة لمعاينة ملامحها الظاهرية والباطنية وبتزويق جديد يحمل ملامح جديدة لعصر مختلف.
ضمنت عولمة السوق الفني لهؤلاء الفنانين قدرا من الحرية في تناول قضاياهم الاجتماعية وبشكل أكثر تحررا وانفتاحا, بعد انفتاح السوق الصيني أمام سوق التجارة الحرة. متجاوزين تابوات السياسية الحزبية التقليدية. بانفتاح أبواب السوق الفني الصيني الجديد على أوربا والعالم, لم يعد ممكننا السيطرة على طرق ومضامين رسوماتهم من قبل أجهزة الرقابة الحزبية الرسمية. لكن وعلى ما يبدو, فان أيسر الطرق لإيصال خطابهم الفني, هو من خلال تناولهم الوضع الاجتماعي بشكل ساخر. فالسخرية في الفن توفر مسالك مضمونة لتوصيل خطابها الاجتماعي النقدي.
التاريخ المعلن للواقعية الصينية الساخرة هو(1990). أشهر فنانيها هو(يو منجوين). بوادر(يو) الاعتراضية كانت منذ في عام(87) بعد مشاهدته لحادثة سياسية تعرضت لها نتاجات الفنانين الطليعيين. لكنها اعتراضية من نوع آخر. لقد سخر الضحكة الساخرة من كل شيء قناعا يخفي خلفه اعتراضه على هذا(الكل شيء) انه التراث الاجتماعي الصيني العرفي الذي يحضر على الشخص إظهار مشاعره. لكن شخوصه تضحك على نفسها وعلى الاخرين علانية. سواء كانت هذه الشخوص جنرالا أو عاملا أو فلاح. سواء في عملها أو لهوها. هي تسخر أيضا من الموجودات, الطير و الحجر و الشجرة, او الرمز. تتسلق تمثال الحرية الأمريكي(مثلا) بألعابها الاكروباتية وبسعة ضحكتها, أو لهوها ضحكا. انه العالم حينما يتحول الى ضحكة فقط. قناع يخفي علة ضحكته. أنها المزاج الشخصي, الذي هو على الضد من العقل الجمعي. وهنا يكمن سر الاعتراض, أو ما يفضحه.
في تاريخ الفن الصيني التقليدي وعلى امتداد أزمنة سلالاته المتعددة, كلما كان العمل متقشفا ومختزلا في تفاصيله الأقرب الى الدلالة على عمق جوهره. سواء في القصيدة الشعرية, أو في الرسم. كلما عبر عن وعي ثقافي أكثر نقاء. هذه الظاهرة موصولة باستقرار ورخاء الإمبراطورية. أما علامات الانحدار الحضاري, فتتمثل في كثرة وتشابك وحدة النغمات الموسيقية وارتفاع توناتها, كذلك الحال في الشعر والرسم. هذه التقليلة الثقافية المرهفة هي السمة المهمة للفن الصيني بشكل عام. و(يو) حصر تقليليته في ضحكة شخوصه الواسعة وتسطيح واختزال ملونته. انه الفم الذي لا تغلقه الحوادث والحالات. لكنه في نفس الوقت كل الحالات. هو(يو) المتخفي. وهو كل(يو) صيني آخر متخفي.
بالرغم من سطوة الموروث الفني الصيني. الذي لم تسلم منه حتى بعض تفاصيل العديد من رسوم الواقعية الاشتراكية. ولو في صيغتها الجدارية, أو التوريقية. مثلما هي تأثيراته المزدوجة على الأعمال الحديثة لبعض الفنانين الصينيين. لكن معظم رسوم (يو) تبدو خالية من كل تأثيرات هذا الموروث. كذلك ملونته التي هي اقرب لتقنيات رسوم المعاصرة الأوربية بصبغة الأكرلك. وكواقعية مفترضة, فإنها لا تمت بصلة للملونة الأوربية الأكاديمية. إنها مغمورة بالضوء, مضيئة بعالم يغمره ضوء صناعي. وهي رغم انتمائها لهذا العالم الصناعي. الا أنها تعلن رفضها له في نفس الوقت. هي نسيج صيني لوحده في جمعه للأضداد. لكن هذا العالم الرأسمالي يرحب بها, ويراهن على جدارتها كجسر عابر لقارتين. فهي في الأخير بعض من تأثير الموجة العولمية الجديدة. إنها الوجه الأخر للعالم الشرقي الذي يعلن عن كسر الحدود. هي السخرية العابرة التي لا تحدها حدود. الوجه وقناعه حينما يصعب الفصل بينهما.
يين يحاول التعبير في رسومه عن الشعور بالخسارة من اللا معنى (كما يعترف هو بذلك). عن الانحلال الروحي للأمة الصينية. التي تقبع بين فكي تناقضات الإرث والسياسة, والسوق الجديدة. رسومه تحاول سبر هذا الفضاء الجنوني الجماعي والانحلال الروحي, تصادمات واختراقات الحدود(شرق ـ غرب) في الزمن العولمي المسطح. هي التسطيح اللاعقلاني منظور إليه كمشاهد كوميدية بعلامة فارقة لا تلغي تنوع مشاهد حوادثه أو قصصه الاختلاقية الخلافية. هي خرافة الواقع, أو تخريف حوادثه. أخيرا هي نتاج للعصر العولمي الذي يحاول التجاوز على مفهوم الأمة أو القومية. إنها البضاعة الصينية الجديدة التي أخذت طريقها ضمن مجال منافسة السوق العالمي أو العولمي الجديد. بالرغم من أن الفنان صنعها بوازع ذاتي للتعبير عن واقع حال مجتمعه. ليس كما ظاهره. بل بما يترسب منه خلف سطح قشرته الخارجية.
...................
بالنسبة لنشأة الواقعية الفنية الجديدة في إيران. فالأمر مختلف عما هو في الصين. إذ أن لهيمنة الدين السياسي بشكل مطلق على مفاصل الدولة منذ استيلاء الثورة الإسلامية(1979) على الدولة, الدور المهم في ظهور العديد من الأسماء الفنية التي كرست الواقعية الاجتماعية في شقها الاعتراضي مدارا لعملها. وان اضطر عدد قليل من الفنانين الصينيين للهجرة. فان أعداد كبيرة من الفنانين الإيرانيين تعرضوا للحظر أو النفي والتشريد . أو هاجرو بعد ذلك طوعا وللحد الذي تأسس فني جيل مهاجر جديد في أوربا والولايات المتحدة. تناولت أعمال هؤلاء الفنانين مظاهر التناقضات الصارخة التي عمت الحياة الاجتماعية للشعب. كالفصل ما بين الرجل والمرأة, وتعميم الحجاب. وقضايا الجنس والمثلية والقمع السياسي باسم سلطة الدين والتجاوز على حقوق الإنسان بشكل عام.
شيرين نشأت المغتربة تناولت الفصل الجنسي في أعمالها الفوتوغرافية والفيديوية. منذ نهاية السبعينات وحتى سمح لها العمل لفترة زمنية قصيرة فترة متأخرة في إيران. كذلك أعمال شادرين الفوتوغرافية. وان تكن أعمال هاتين الفنانتين تتميز بذكاء كادرها الصوري وعمق فكرتها, وسهولة تلقيها. لكن ليس كل الفنانين اشتغلوا بنفس روحية أعمال نشأت.مثل(حيرا سوريح) الذي الصق صور الرموز الدينية كوجوه لصور(مثلية), أو بإقحام رموز الإرهاب الإسلامي, كطريق اقصر للشهرة الإعلامية. كما في رسوم (عمادي مكان) الذي اشتغل على نفس موضوعة الفصل الجنسي. لكنه نفذ رسوما فضائحية, رغم تقنيتها البدائية. الا أنها أخذت طريقها للشهرة الإعلامية كونها خلطت بين رموز الإرهاب بالحجاب والجنس في آن واحد. ولكونه مقيم في الولايات المتحدة. فان مجال الحرية مفتوح له ليعمل ما يشاء. وليكسب ما يشاء. فالحجاب مرتبط عنده بالدعارة والإرهاب. متجاوزا أصل طبيعته كإرث سلوكي شعبي محلي لعب الدين الشعبي دور كبير في الإبقاء على ممارسته, والتشهير بمخالفيه. فأصل مشكلة هذا الزي التقليدي, تكمن بمدى قناعة المرأة المسلمة به. اظافة للإرث الرجولي الديني الطاغي لدى هذه الشعوب وما يشكله من ضغط نفسي. واعتقد أن مشكلة العزل الجنسي ورموزه يجب آن يتناولها الفنان من خلال تفكيك مظهريتها الاقصائية النسوية. وكما فعلت في إعمالها نشأت, أو شادرين وغيرهن. وكما يتناول هذه القضية الفنان المقيم في طهران( احمد مرشدلو) .
احمد مرشدلو لم يغادر طهران و أنتج أعمالا واقعية اجتماعية معاصرة مهمة. حاورت رسوماته الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الإيراني المعاصر. لا تشهيرا. بل تثبيتا لقسمات أناسه من كلا الجنسين في خلطة تجميعية تجمع بين واقع الحال التقليدي و النوازع التحررية للمرأة المحيط. التي ترتدي الحجاب جنب المتحررة منه وجنب الرجل التقليدي بعريي جسده العلوي وكما مظهره في العاب الروزخانة الرياضية التقليدية. أو كما هو على شكل ترهله الذي يعبر عن معان شتى. مثل السطوة الفارغة, اللامبالاة, بؤس الحال والجسد. هو يجمع المتضادات وكما يقرئها كثقافة اجتماعية ترنوا الى تجاوز محظوراتها, ويقدمها خطابا جماليا ملتبسة مشهديته, لكنه يحمل رسالة تجاوزية واضحة نواياها.
تاريخ الفن الإيراني متشابهة مساراته بعض الشيء وتاريخ الفن الصيني المجاور. في اشتغالات ارثه الثقافي ـ الفني منذ عصورها الإمبراطورية و الإقطاعية, وحتى ثقافات دياناته, في تقاربها أو اختلافاتها. وخلف لنا أعمالا رفيعة المستوى. ترك هذا الإرث بصماته الواضحة على الفن الإسلامي و الحديث. وعلى كلا البلدين. لكن وبمثل ما اثر الزمن العولمي المعاصر على فناني الطليعة المعاصرة الصينيين. كذلك ترك بصماته على خيرة فناني إيران المعاصرين أيضا. مرشدلو هو الآخر استفاد من ذلك في اختياره لمنطقة أدائه وتقنياته التي جمعت بين الكولاج والتجميع ومسحة فوتو الملامح, لكن بمهارة تقنية الرسم الواقعي الذي تدرب عليها أكاديميا. لقد اختار وسيلة الرسم لينتج أعماله التي تحمل غرابة شفيفة, وليست صادمة, واستطاع التعبير عن نوازعه الثقافية متمردا على سلطة التابو الديني الرسمي ومحظوراته في نفس الوقت بحدود ما يستطيعه. ومؤسسا لخطاب إنساني يبحث عن جوهر الذات الإنسانية, متجاوزا قشرتها الخارجية. رسوماته لا تحمل سخرية صارخة , كما في أعمال الصيني يي. بل هي تسخر من القيود او الحدود المفروضة على الحرية الشخصية في بلده, لكن بدون تجريح للمشاعر الجماعية, كما عند بعض من أقرانه. فان كانت خارطة ملامح أناسه تكشف غالبا عن المسكوت عنه. فهو ثبتها كما هي بدون مداهنة أو تزويق. أعماله هي الأخرى أصبحت مطلوبة في السوق العولمي بعد أن تجاوزت محيطها المحلي. حالها حال أعمال الكثير من جيله الفني المعاصر. سواء بعض من بقي منهم مقيم في إيران. أو من هاجر. المهم في الأمر, ان غالبية أعمالهم. سواء كانت رسما أو نحتا أو منفذة أو فلما أو بوسائل مختلطة, فإنها تنتمي الى نمط الواقعية الاجتماعي. للواقع السياسي الذي صادره ملالي إيران بإيديولوجيتهم الدينية المتطرفة, أثر كبير في ظهور هذه
الموجة من الفنانين الذين سعوا للكشف عن سلوكيات المجتمع المتناقضة بأساليب واقعية تناولت قضايا اجتماعية مهمة, كالحرية الشخصية في الرأي والمظهر والسلوك. سواء بشكل صريح, أو ملغز كما في رسم مرشدلو الذي يظهر شخصين واقفين وظهرهم للمشاهد ينظرون ببلاهة الى لعبة بلاستيكية عارية ملقاة على الأرض. هذا الرسم يشير, ولا يفصح. لكننا لو تعمقنا في خفاء ما يشير إليه. لاكتشفنا جملة من القضايا السوسيولوجية والنفسية الغير سوية التي نخرت الجسد الاجتماعي . منها تابو الرغبة و الجسد, الجنسانية, والانكفاء على الذات. ولم يكن هذا العمل الا بعض من العاب منارات هذا الفهم لسبر طبيعة سلوكيات وأمنيات فئات شعبه المتعددة. لكنها, بعد كل ذلك, تبقى أعمالا معاصرة ومشغولة بتقنية عالية اهلتها فعلا لدخول سوق العمل الفني العولمي. ولكون هذا السوق في زمننا هذا يبحث عن الاختلاف ايضا.
..............................................................................
Ye Minjun Ahmad-Morshedloo Sooreh hera makan emadi
تعليقات
إرسال تعليق