حول الهوية: أقنوم أزلي أم سمفونية لا تكتمل؟ / أحمد دلباني
حول الهوية: أقنوم أزلي أم سمفونية لا تكتمل؟ / أحمد دلباني
الأستاذ: أحمد دلباني
ترتبط الهوية بالذات. فهل الذات أقنوم أزلي لا يتغير ولا يتحول ولا يغتني؟ هل الذات الجماعية تقبع خارج التاريخ كمومياء تحتضن المطلق أم هي نتاج تاريخي؟ تأمل في مفهوم الذات من زاوية نقدية/ تفكيكية ومايرتبط بذلك من رهانات قد تضيء اللحظة العولمية الراهنة...
1
ليست الهوية معطى يعلو على التاريخ ولا أقنوما أزليا يصمد أمام لعبة الصيرورة والتغير التي تشكل قانون الوجود. إنها نتاج تاريخي يتجذر في الواقع ويتأسس على الجدل المتواصل مع الطبيعة والتاريخ والآخر. هذا ما يكشف عنه الفكر النقدي / التفكيكي الذي قطع – منذ عهود – مع الإبستيمولوجيا الجوهرانية القائمة على الاعتقاد بوجود الماهيات الثابتة والجواهر المفارقة المتعالية عن الزمنية والتغير. من هنا نفهم كيف أن كل نقاش حول الهوية يضمر، حتما، خوفا عليها ورغبة في التحصن ضد هجمة التاريخ؛ ما يكشف عن موقف محافظ تتبناه، عادة، الفئات السوسيو- سياسية التي ترى في التغير والتحول تهديدا لكيانها ونسفا لشرعية سلطتها الرمزية القائمة على احتكار معنى الكينونة التاريخية في لحظة محددة.
انطلاقا من ذلك نرى أن التأكيد على الهوية لا يتم إلا في سياق الأزمة: أزمة التوجه وأزمة المعنى وأزمة الانخراط الواثق في كوميديا العالم ورهاناته وتحولاته. هذا، ربما، ما نعيشه اليوم - بوصفنا عربا ومسلمين - في خطاباتنا المتكاثرة حول الهوية، لأننا فقدنا بوصلة الاتجاه في عالم يعيش فوضاه الكونية وتنهار فيه اليوتوبيات التي كانت تؤسس لشرعية معاني الخلاص الكبيرة. من هنا تبدو الهوية طوق النجاة في محيط العماء التاريخي وتفصح عن نفسها بوصفها رغبة انكماش أمام تنين التاريخ. وقد تتحول أيضا، بفعل ضغط العولمة، إلى هوية قاتلة – كما يحب أن يعبر أمين معلوف - توجه حرابها إلى وجه اللحظة التي أيقظتها من خدرها. يتضح جليا بالتالي - وانطلاقا مما أتينا على ذكره - أن انفجار مسألة الهوية يشكل بعدا من أبعاد أزمة الحداثة الكونية التي فشلت في إنتاج نهاية سعيدة للتاريخ وبقيت ذات طابع غربي / مركزي ارتبط بممارسات الغرب التاريخية في الهيمنة والإخضاع. إن الحديث عن الهوية، بالتالي، يقف على خلفية الشك في قدرة الذات إزاء الحاضر والمصير، ويعلن الانسحاب من أتون التاريخ الحي وصفة ً جاهزة للخلاص من لحظة الفوضى السيميائية الشاملة.
2
إن الهوية تشكيل تاريخي بالطبع ولا أحد يمكنه أن يعترض على القول إن كل الثقافات تعرف تحولا واغتناء لا ينقطعان تاريخيا. الحضارة العربية – الإسلامية هوية مركبة وهي نتاج تاريخي للتلاقح الحضاري البديع والعالي الذي كان المسلمون في عهود ازدهارهم من رواده. الغرب أيضا ليس هوية ثابتة تقبع خارج التاريخ كمومياء، وإنما هو تحول عظيم ومسار جد معقد. وقد سمعت، يوما، الفيلسوف الفرنسي المعاصر ريجيس دوبريه يتحدث عن هوية الغرب - بعد نقاش محتدم حول الدستور الأوروبي ومشكلة حضور الألوهة والبعد المسيحي فيه - بالقول إن الغرب ليس القديس أوغسطين فحسب وإنما هو فولتير أيضا. هذا ما يتيح لي أن أقول هنا إن الثقافة العربية - الإسلامية ليست ابن تيمية والشافعي فحسب وإنما هي المعري وابن رشد أيضا. يمكننا، بالطبع، أن نلاحظ أن هناك سمات عامة في كل ثقافة تجعلنا نعتقد بوجود خصوصية ثابتة فيها نسميها عادة الهوية، ولكنني أقول أيضا إن هذه السمات ثابتة نسبيا وهي شيء عرضي وتاريخي وليست أقنوما أزليا. ولكن ما يحدث تاريخيا، على هذا المستوى، هو اغتصاب الفئات الأكثر سيطرة أحقية الحديث باسم الهوية من أجل تبرير الهيمنة على الفضاء السوسيو- سياسي.
ما أردت أن أقول من خلال ما سبق هو أن الهوية هي دائما سمفونية لا تكتمل: عنيت بذلك أنها مشروع مفتوح أبدا وليست شيئا ناجزا. ولكن ما يجعل منها – في لحظات تاريخية معينة – انكماشا وخنقا للذات ونوستالجيا للأصل الأول هو تلك الرغبة في التماهي مع ضوء ينقذها وينتشلها من هاوية التاريخ المتعثر الذي فقد المعنى وتحطمت فيه بوصلة الاتجاه. عندها تتحول الهوية من كونها انقذافا في الآتي واحتضانا للتاريخ إلى حنين دائم إلى الأب المؤسس وإلى الأزمنة التدشينية الكبرى المرتبطة بملاحم البدايات والولادات المقدسة وهذا في لحظة الاغتراب عن الحاضر. أعتقد أن هذا هو ما عاشته معظم الهويات الضيقة التي انفجرت بعد انهيار الأنظمة الشمولية وتراجع اليوتوبيا الثورية التي كانت الحضن والينبوع الإيديولوجي الذي لا يكف عن الحديث الهادر عن مستقبل الإنسان. وهو، أيضا، ما نعيشه نحن اليوم في طبعة جديدة ُخلعت عليها الجبة الدينية بعد فشلنا التاريخي في دخول العصر فاعلين لا منفعلين. لا يقف الحديث عن الهوية، بالتالي، إلا على قاعدة الرغبة في توكيد الذات والتعويض عن الفشل في امتلاك زمام مبادرة العمل التاريخي الواثق.
3
أعتقد، أخيرا، أن ما يقوم عليه الجدل المتواصل حول الهوية يكشف عن أزمة حضارية عميقة في عصر يدعي العولمة الشاملة وزوال الحدود وانبلاج فجر القرية الكونية. لقد تعثر حلم العقل التواصلي وخفتت حمية الانخراط في الكوني ليحل محلها هاجس الخصوصية والدفاع عن الذات المسحوقة في وجه هجمة الحداثة التي لم تخرج، بعد، من محدداتها الكلاسيكية الأمبريالية ورغبتها في الهيمنة. إن في الأمر مؤشرا بالغ الدلالة على أن الحداثة المعاصرة لم تنجح، إلى اليوم، في عولمة الهوية وبقيت مركزا مهيمنا يفرض قيمه - لا بقوة المعنى – وإنما بخلع المعنى الذي يبرر قوته على الكينونة التاريخية للبشر. ولكننا يجب أن نشير، بالمقابل، إلى أننا لا نتبنى كليا مفاهيم النسبية الثقافية رغم مقاومتنا للهيمنة الثقافية الأحادية؛ كما لا نتبنى صيغ الدعوات الحالية إلى الحوار التي تريد الإبقاء على الهويات والخصوصيات الثقافية والسوسيو- تاريخية جزرا متنابذة تربط بينها رغبة الكيانات السياسية في الحفاظ على المصالح الظرفية الضيقة، وهذا على حساب التطلع إلى تدشين نزعة إنسانية جديدة تتجاوز كل أشكال الهويات التاريخية المتمركزة عرقيا حول ذاتها أوتلك التي لا تضمن للإنسان كرامته وحريته. لا نتبنى خدمة الإنسان للتاريخ المعاد إنتاجه بوصفه مؤسسة قمعية وقوة هيمنة رمزية / إيديولوجية، وإنما نتطلع إلى ثقافة تبحث دوما عن وجه الإنسان المنفلت كمذنب حر وبهي خارج رماد الأشكال الثقافية في ليل الأزمنة.
مدونة جيدة جدا
ردحذفسرني تواجدي هنا
ويشرفني أن أرى قلمك في : ثقافة على الرابط التالي :
ثقافة
أجمل تحياتي :)