محاضرة بوكرش محمد بجامعة بوزريعة 2 واقع الفنون الجميلة بالجزائر

ميدالية تكريم الفنان محمد بوكرش بجامعة بوزريعة 2
الفن التشكيلي بين مطرقة المبدع وسندان المتلقي
مخبر جامعة بوزريعة 2 من واقع الفنون الجميلة بالجزائر


قبل كل شيء أود أن أشكر اللجان المنظم لمخابر تنمية البحث العلمي التي أرى أنها بهذا الملتقى النوعي الفريد والأول في جامعاتنا وبالتحديد ما قام به مخبر الدراسات الفلسفية الأكسيولوجية بجامعة بوزريعة 2 ، لأننا إذا قلنا الجامعة قلنا قطبا يجمع أجمل ما عندنا في الوطن، أين نجد خيرة أبناء وطننا ، زبدة ما عندنا..وأتباعهم من طلبة التحصيل..
وبالتالي أقول: بهذا اللقاء عشت يومي متعة بما تم بالمقاربات النقدية الجمالية منقطعة النظير ، طربت بهذه الصحوة التي بادر بها وتفرد طاقم مخبر جامعة بوزريعة 2 ، وعليه أشكر كل من ساهم من قريب ومن بعيد لإنجاح مثل هذه التظاهرة النقدية، الفكرية، الفلسفية والجمالية التي حرست على جمع كل ما يكمل بعضه البعض من فنون جميلة ودراسة نقائص ما جعلها ويجعلها اليوم بالذات متدهورة الحال ومتخلفة جدا.

تزامن هذا اللقاء والإصلاحات، حديث الساعة، حديث العام والخاص ، لكل واحد منهم أجندة وأمنيات خاصة به، بينما الجامعة التقليدية.. بين الكل..، إن لم تبادر وتأخذ لنفسها المكان الريادي الذي تسترجع به هيبتها ومكانتها كحق، تكون بذلك قد حكمت على نفسها بالإعدام..الكل يعرف أن الإصلاحات في غياب صحوة جامعية ومخابر متمكنة بمختصين على جميع الأصعدة، كان ذلك في الفنون الجميلة أو غيرها، تكون بذلك هي الأخرى عبارة عن مؤسسة ترقيع واجتهادات غير مؤسسة.. بينما الواقع والمنافسة تقتضي وتفرض عليها بالأمس قبل اليوم تضافر الجهود للقضاء على كل ما يفصل ويشتت هذه القدرات المكملة لبعضها البعض بهدف الاستثمار في الإنسان كثروة باقية يعول عليها انطلاقا من احتياجاته الظرفية ، متوسطة وبعيدة المدى...بدلا من الاتكال على الجاهز وما يأتي من وراء البحار بريع المحروقات والثروات المنجمية محدودة العمر..
مخبر جامعة الفلسفة الأكسيولوجية بوزريعة 2، بهذا الحضور واليقظة وهذا الموضوع ( واقع الفنون الجميلة بالجزائر)، أعاد الأمل والاعتبار للثروة الباقية، للفكر والفلسفة الأكسيولوجية للإنسان وتدبر أموره...
1 - انطلاقا من رد فعل أفلاطون الصورة النموذجية لمعظم الفلاسفة وكبار المفكرين أمام مرآة أنفسهم عارضين العيوب وكيفيات التخلص منها، بفكرة الانتقال من نقطة بدائية بتحول إلى نقطة نوعية ثانية..أي من السيئ إلى الأحسن، من الحيوانية إلى الإنسان المتفوق..
وضع أفلاطون باستفزاز على المحك أمام الملأ ونفسه وبعض من كبار الفكر والفلسفة الذين أرادوا الإطاحة به والتقليل من شأنه ليتصادم معهم ويثبتون بذلك للغير ضعفه، كان ذلك بسؤال إحراج، تقزيم وتطاول، قائلين له: من أنت يا أفلاطون..؟ ماذا تمثل..؟...
نظر لهم بعيون براقة ووجه مبتسم وأجاب بالمعنى المفحم : ( ما أنا سوى، هبة من النحن لي أنا..). بهذا الجواب وهذه البساطة والتواضع، زاد في قيمة ومستوى الحضور ورفع من شأنهم بدل الوقوع بين مطرقة الواقع وسندان الحضور ويخسر بذلك نفسه قبل أن يخسر الجماعة... كان بهذا المتزن ،المصلح والحكيم، كان أفلاطونيا وكانت للفلسفة ولفلسفته الموقع الذي أثمر لاحقا بحب باقي الفلاسفة له وتعاقب الكل على إرساء التنظير والحكم المعمول بها جماليا إلى اليوم..

2- استثمر فينا بعده الفيلسوف نيتش لاحقا بلغة البيان والتبيين وبذكاء نادر ليجعل كل واحد منا في موقعه بدرجات متفاوتة بتفاوت القدرات والمهارات لاعبا دوره على أحسن وجه...
بقوله: إن لم تكن من المارين المتفوقين فاجعل من نفسك جسرا ومثلا أعلى للمتخلفين (من كتاب هكذا قال زردشت ترجمة فليكس فارس).
بين ذا وذاك بالمد والجزر بين مطرقة وسندان، بين نسب عدم الفهم وكثرة التأويل والأنا والأنانية السلبية وتفرع الرغبات وحب الذات...وقعنا في أخطاء لا قبل لنا بها...منها ما تسبب في تضخم المعاناة والأتعاب وأمراض لا حصر لها، نتيجة ما تطور وطغى ووضع الإنسان في فك حيوانية شرسة وآلة مدمرة لا ترحم..
انقلبت الآية وأصبح المتفوق بعد مدة حيوانا صاحب عضلات وأنياب نهش ، ثم جعل المنافقون له من أنفسهم جسورا وانبطح له أشباه العقلاء، ليتخلف بذلك قمعا وإذلالا أهل الفكر والتنوير عن الركب...

3- من بين المتخلفين صاح الفيلسوف فليب نيمو قائلا: أنا ممن يعلنون وفاة الفلسفة التي عجزت على أن تأتي ببديل، أن تأتي بما ينقذ البشرية من بعض نفسها، من تزايد المعاناة والأتعاب المتراكمة، قبل أن ترجم وأرجم معها بالحجارة...

إذن واقع الفنون الجميلة وأشياء أخرى كانت أو لم تكن بين مطرقة المبدع وسندان المتلقي، هي على هامش جموح رغبات من رشح ونصب نفسه على رقاب الكل بالحديد والنار..بالعهر والعار، بدلا من تنصيب من يرجع له الفضل سابقا في التدبير، في التفكير والتنوير وحسن التسيير.

من العجائب والغرائب أن الطلبة أضواء المستقبل باتوا الضحية أمام أعيننا.. مصرين على قلب الصورة على شاكلة ما حدث ويحدث وما زال هذا في تطوره السلبي المذهل والسريع ويتعلق باختزال الزمن بأقل المعارف، كأن يعتلي الشاب.. ركح أغنية الراي أو يحترف الكرة، ليس حبا فيهما.. فقط ليتقاضى أضعاف ما يحلم به كبير المخترعين والمبدعين...واللهث وراء المتاهات (حك تربح).

وبالتالي المشكل الفني المشار اليه بصفة عامة، عندما نقول عامة لا نقصد الفنون في حد ذاتها بقدر ما نقصد من ذلك تجويد المهارات في كل الميادين حسب مقتضيات العصر واحتياجاته على اختلاف الاختصاصات التي تكمل بعضها البعض بحسن الممارسة، حسن الاتصال والتواصل..

يقول الشاعر الكبير شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء بالسجل الذهبي للفنان التونسي علي عيسى سنة 1965 بمنستير تونس :
الرسم كالشعر الهام وإبداع *** والشعر كالرسم إشراق وإشعاع
بين البارح واليوم، بين ما كان يؤمن به مفدي زكرياء وما نحن عليه اليوم من تدني، قطيعة ورداءة، يتركنا نتساءل، والدليل على ذلك هذا اللقاء والموضوع الذي جمعنا لنتدارس واقعنا واقع الفنون الجميلة بين واقع وواقع آخر.
أين أنا كأستاذ يتكلم على المشاكل،على السلبيات، سعيا للوصول إلى ايجابيات، والسؤال: ماذا قدمت أنا المتكلم، أو ماذا قدم معي فلان أو علان ؟
والكل يعلم أني المبدع من جهة والمتلقي من جهة أخرى ومن معي في الميدان أيضا. بكل أمانة ، إن كنت أنا الأنا المرغوب فيه الذي لا يمكن الاستغناء عنه، بمن أو على أياد من يا ترى يتحقق ذلك ويروج له ؟، إن لم يكن على يد المختصين ، الحلق المفقود الذي يربط بين الفنان التشكيلي والفنون الأخرى بين الحاكم والمحكوم، بين هذا وذاك بالتحليل والتبسيط لباقي المتلقين وأهمهم الطلبة من الجامعة إلى التدريس بالمدارس التربوية انطلاقا من الطفل.
هل عجزت جامعاتنا على تكوين نقاد..؟
أين قاعات المعارض المختصة؟
أين المجلات والصحف المختصة؟
أين دور المتاحف واقتناء الأعمال الفنية؟
وبالتالي هل لنا حقيبة ثقافية ، هل لنا تكوين وممارسة ثقافية واستمرار ذاكرة تجمع شتات الكل وتحفظ ماء الوجه حتى لا نقول المنافسة ؟.

المشكل هنا، هو مشكل جماعي وليس مشكلا شخصيا أو مشكل اختصاص معين. أقول : إذا فيه بالفعل حركة تنوير ونتائج ملموسة وحسن نية.. بالتأكيد تترك الطالب والمتلقي يثق في التوجه والنتائج بفضل القاطرة التي يرى معنا بأنها تضمن له الوصول إلى الهدف وتحقيق رغباته التي من أجلها كان حرصه على متابعة تحصيل العلم والمعرفة.
هل بالفعل القاطرة على السكة والمسار الصحيح لنضمن لكل واحد امكانية وضع نفسه على محك الحياة ليحقق بتفاوت درجات نسبة مما يتمنى الوصول لتحقيقه؟.

بدأت المدرسة الأساسية على سبيل المثال في الطور المتوسط تتلمس ميول التلاميذ بغرض توجيههم إلى ثانويات مختصة ، الثانوي التقني، الثانوي الرياضي، والثانوي الفني والاحتفاظ بالبعض بالثانوي التقليدي..لكن مع الأسف الشديد لن يتحقق من هذا إلا الثانوي التقني ، الرياضي و العادي وأهمل القطاع الفني، هذا الأخير الذي تكلفت به وزارة الثقافة باحتشام شديد لتجسد ملحقات للمدرسة العليا للفنون الجميلة في بعض ولايات تعد على رؤوس الأصابع، مدة التكوين بها 4 سنوات، لكن من المؤسف جدا أن الوزارة الوصية أهملت هذا القطاع وهذه الشريحة والشهادة التي تعادل الباكالوريا زائد سنة وتقرر تعويضه بالباكالوريا العادية، الشيء الذي تسبب في غلق أبواب المدرسة العليا للفنون الجميلة..والكل يعلم أن صاحب الباكالوريا العادية بمعدل ضعيف وقلة التأهيل والتكوين الفني لا يمكنه بأية حال من أن يكون شيئا يذكر بعد 5 سنوات بهذه المدرسة في حالة ما اذا قبل بالأمر الواقع ولن يغادرها باكرا.

في النهاية وليست النهاية الميدان والمستوى وما فيه و ما هو عليه اليوم من رداءة وتدني على جميع المستويات يكفينا شر التعليق و أخلص بالقول: أن توزيع الحقائب الوزارية والمسؤوليات على مستوى الأنظمة والحكومات الوصية السابقة والمتلاحقة ،لا تمت بصلة لاحتياجات الواقع الحاضر، ولا المستقبل ولا لبعضها البعض، حقائب مستقلة تماما وكأنها هدايا يتصرف فيها كل بهواه.. إن لم تكن بالفعل كذلك.
لكن هذا لا يمنع من أن مبادرة جامعة بوزريعة 2 ومخبرها وهذا الملتقى واقع الفنون الجميلة بالجزائر تستحق الثناء والتثمين وتعتبر انتصارا..نتمنى فقط تعميمه على باقي مخابر جامعاتنا عبر التراب الوطني.
بوكرش محمد الجزائر

تعليقات

  1. لو كانت الأمور تسير بشكل طبيعي في هذا البلد لاستغل رجل مثلك حد التخاع من قبل الجامعات والمعاهد الجزائرية لكنهم يتعاملون مع الدهماء ويهمشون أمثالك يا محمد ويتركونك تحترق بما تحمل من مهارة وتجربة ومعارف فكرية وجمالية في فضاءك..

    ردحذف
  2. لا عليك صديقي المبدع عيسى شريط كلنا في نفس الطبق والفضاء.. ودوام الحال من المحال وأنت أدرى بذلك والعيب فينا وليس في غيرنا، يوم يكون الفنان نفسه لا غير يتحقق كل جميل...شكرا على مرورك الذي أثلج صدري
    أخوك بوكرش محمد

    ردحذف
  3. mabrouk 3likoum la3kouba li takrimat el 3alamia

    ردحذف
  4. mabrouk 3likoum la3kouba li takrimat el 3alamia

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح