عوالم ياسين عطية البهيجة / الفنان التشكيلي والناقد علي النجار
الفنان التشكيلي والناقد علي النجار
عوالم ياسين عطية البهيجة
يبدو أن ثم وله بالإمساك بأجمل إشعاعات الطيف الملون سكن مخيلة الفنان ياسين عطية منذ أن تلمس خطواته الأكثر نضجا من مساره الفني. فرسوماته, وبحدود العقدين من السنين, لم تفقد بريق موشور ملونتها المنتقاة انبساطا من رحم بيئة مثالية لا تزال مزهرة على حافة المدارات الملتهبة. لقد انشأ عمارته اللونية المنتقاة بعناية لا تخلو من ولع تصميمي, ليس كما المعماري. بل بما يسمح لشروط اللعب من اخذ مداها, انسجاما, اختلاطا, بعثرة. وليفسح بعد ذلك للخبرة البصرية بأن تلملم عناصرها الإدراكية البيئية وتهيئها لتدخلاتها الدراماتيكية. فالحركة, وهي الشطر الحيوي من انثيالات الموشور اللوني تتوازى مسارات ممراتها وحركة مشخصاته(معظم تشخيصاته التقاطات حركية), مع الحفاظ على مساحات فضائية
مفتوحة على سعة مشهديتها. لقد أدرك ياسين قوانين لعبته الضمنية(الحركة والسكون) وأنتج لنا رسومات جميلة.
بما ان قرائننا لأي عمل فني, تفرض علينا(اظافة للذائقة) التقصي عن شروط الانجاز الزمنية, والمحركات الإبداعية بمصادرها الذاتية والمحيطية. وهذا ما نحاوله في معاينتنا لرسوم هذا الفنان العراقي المغترب. فرسومه وبشكل عام لا توارب بالإفصاح عن
مرجعياتها الاثرية(بمعنى: أن يتحول العمل الفني أثرا, بعد انجازه مباشرة, وبصفته المتحفية الزمنية). هذه الرسوم, وكما أراها, تنتمي لعصر ألصورة (أللوحة) العراقية الذهبية. وعلى ما يبدو فان رسوماته انتقت(ربما بدون وعي او قصد) من أعمال الفنانين العراقيين الأقدم(فائق حسن, محمد علي شاكر, وحتى بعض من رسوم كاظم حيدر) الكثير من ملونة رسومهم او اطرافها. مثلما هي بعض من تداعيات تلك الشواخص الفنية المتجددة زمنيا.
. لكنها, ومثلما هي جزء لا ينفصل من مشهدية الصورة (اللوحة) الأوربية في عصر إنتاج هؤلاء الفنانين المتقارب. هي أيضا تعالج الأثر البيئي بأدوات تتراوح ما بين انطباعية محدثة, وتعبيرية مخففة. مع كون اللون في هذه الرسوم, قبل إن يكون تجريديا( ظاهريا), هو أيضا, يتعدى هذه الصيغة لصالح ادراكاته التعبيرية البيئية.
في عام(1991), تعرفت ولأول مرة على أعمال ياسين عطية في عرض بمركز الفنون ضم رسومه و رسوم واعمال كل من الفنانين: غسان غائب, والفنان السيراميكي وليد القيسي. كان العرض من ضمن عروض لمشاريع الفنانين الشباب التي تبنتها مديرية الفنون في وزارة الثقافة وقفها. ثم بعد ذلك, واصل كل منهم مشواره الفني وبمجهود يشار إليه. رسوم ياسين المتأخرة لم تضيع أثرها التسعيني ذك بشكل مطلق, لكنها أغنت تفاصيلها بابتكارات تشخيصية إنسية وحيوانية وببعض من مفردات أخرى. مثلما وسعت من إمكانيتها التقنية. لكن, ثم تفصيل حركي لا تخطأه العين بقي متعلقا بذاكرته البصرية الانجازية, فلا تزال أجساده المرسومة تعوم ضمن فضائات حدودها المفتوحة المنفلتة والمتحركة تقريبا.
غالبا ما تقبع السيرة الشخصية للمبدع خلف تفاصيل انجازاته, وخاصة بالنسبة للفنانين التشكيليين العراقيين(رغم ما يشاع في المعالجات النقدية, بشكل عام, عن إقصائها). الفن, وكما هو معروف كنشاط انساني جواني. ان لم يكن في كل تفاصيله الانجازية. فلابد ان يكون في بعض منها, ولو بنسب تحددها جينات ونشأة وبيئة الفنان. لم تكن كل سيرة ياسين عطية زمنا انبساطيا يوازي انبساط مظهرية رسوماته, مما يشكل لنا لغزا, ربما لا يحيرنا كثيرا. فهذا الفنان العراقي عانى في زمن نشأته الشبابية من محنة الاعتقال(لقد تكرر الحديث غنها غالبا في ما دون عن سيرة أعماله(*). لكن, وخلال متابعتي لاعماله التي انجزها في العقدين السابقين. سواء في العراق او خارجه, فانني لم اعثر على اثر تعبيري واضح لهذه المحنة, وكما في العديد من نتاجات التشكيليين العراقيين الذين تعرضوا لنفس حالات الانتهاك. لكن, ربما لو تقصينا اثر ذلك, ليس كما تقودنا تصوراتنا الخاصة, او التي اكتسبناها من اعمال الاخرين, وبتأثيرهم. فربما نكتشف ما يراوغ مساحة إبصارنا, وينفلت عن ادراكنا. مع ذلك, فانا اعتقد بان ياسين قرر الانعتاق من ربقة ذلك الزمن واقصاء منغصات تذكاراته, لصالح الانفتاح على افق ارحب واسلم واكثر اطمانانا ودعة. واعتقد بانه استفاد من تلك التجربة احتفاءا بذات جديدة تود ان تخترق الضياء, بعد ان خبرت عتمة ايامها المندرسة تلك.
في غالبية رسوم او ملونات ياسين ثمة شخوص ينحدرون من الزاوية اليمنى ويعومون تتبعهم بعض احياز بيئية. وغالبا ما يكون الجسد الانثوي حقلا لممارسة العابه الخطية او اللونية او كلاهما. و بحذر او بعناية تتلمس طريقها الفرشاة عبر مسالك لا تشكل احيازا مكانية غالبا. هو استفاد في تقنيته هذه من التسطير اللوني التجريدي وفوضى حراك الاشكال التعبيري, كما اسلافه. مثلما استفاد من الدرس الاكاديمي لانشاء الاجساد, لا بصيغتها المتقنة القصوى. بل بالاكتفاء بالعلامات الخطية التي توحي بها وبما يضفي على هذه الاجساد من صيغ الحركية. وان كانت رسومه التسعينية الاولى(في عرضه الذي نوهت عنه) تحتكم الى قلقها الوجودي(حالة عدم الاستقرار في جلوسها على كراسي هزازة). فان رسومه المتاخرة هي الاخرى انحدرت من منطقة الاهنزازات نفسها, لكنها تشضت ضمن احياز مساحات لونية عبر مساحة القماشة المسطحة. وان كانت رسوم الكراسي, وكما اعتقد, تعبر عن انفلاته الذاتي الزمني اللاواعي من اثر زمن الاعتقال الذي لا يزال عالقا في مسامات جسده. فان اعماله الاخرى, ومنذ مغادرته العراق في اواسط التسعينات انفتحت على فضاء اكثر نقاء, لكن, ومع ذلك, رغم نأي ذلك الزمن المعتم. فان ثمة قلق حركي يغمر اجساده المرسومة كاهتزازات تلك الرسوم الاولى. رغم ما تضفيه عليها ملونتها من بهجة افتقدتها تلك.
تناول بعض الدارسين لرسوم ياسين كونها متأثرة برسوم جماعة(الكوبرا) الشمالية. انا لا اعتقدها كذلك, رغم عدم نفي لبعض ملامحها. لكن, ان بنى فنانوا الكوبرا منجزهم الفني من منطلقات فلسفية اعتراضية بخلفية بيئية وباستحضار للحس الطفولي, نقاء مضاد لتلوثات الحروب والذائقة الاستهلاكية. مما ترك بصمة واضحة على كل ما خلفوه لنا من اعمال, لا تخفي دئبهم المحموم للاستحواذا على المقدرة التعبيرية الطفولية الخام, بكل صلابة اشكالها الانسية والحيوانية وبدائية الوانها وصراحتها المناقضة لكل حذلقة الخبرات الفنية والعابها التقنية, اعتراضا على كل مساويء ذلك الزمن. منذ الربع الثاني من القرن العشرين فما بعده. ولم يخلو نتاج بعض فنانينا الرواد من تأثيراتهم, وبالذات بعض اعمال تجريبية للمرحوم فائق حسن في الستينات من القرن المنصرم.
لكن يبقى منجز ياسين الفني, وكما اعتقد على مبعدة من كل ذلك. كونه لم يبتني أساسا على نفس الاسس الفلسفية, ولا المصدرية الادراكية. مع ذلك فانا على ثقة بان المتلقي الاوربي, وخاصة الشمالي(وهو يقيم في الدانمرك, احد مراكز تأسيس جماعة الكوبرا) سوف يحيل ولو بنسبة ما رسوم ياسين الى تأثبرات الكوبرا. فهي وكما يبدو تستعرض بعض من ايحاءاتها الشبحية. ويكفي المتلقي الاوربي الايحاء لوحده.
تنحدر المفردات التشخيصية في رسوم ياسين غالبا من الجهة اليمنى من مساحة لوحته. هي تبين كذلك, رغم كل تمويهات تداعيات كتلها أو حدودها الخطية. وحتى فوضاها أحيانا. علما بأن الغالب من مشهدية الأعمال الرومانتيكية (الأثرية) الأوربية وحتى التعبيرية( التي هي بعض من مصادر رسومه) مشخصاتها(الأجساد واتجاهات حركاتها), غالبا ما تنحدر من الجانب الأيسر إلى الأيمن. واعتقد أن لهذا الإجراء, أو السلوك التقني الإيحائي الفني علاقة ما بسلوكية الجهات(يمين ـ يسار), سواء بإيعاز خفي من اتجاهات تدوين الحروف اللغوية, أو , ربما (تجاوزا بعض الشيء) كنتيجة لفعل ثقافي( يسار ـ يمين) بالمصطلح السياسي او الاجتماعي السلوكي, أو بإيحاء من عصب العين المرتبط بالذهن ومخيلته. لكن إن تعمقنا أكثر في دراسة هذه الظاهرة. فسوف نكتشف من الأسباب ما يعضدها. فالرومانتيكية هي بالأساس حركة ثقافية انقلابية(بمفهوم عصرها). مثلما التعبيرية. مع ذلك فاعتقد بان الأمر أعمق من ذلك. ربما هو راجع. لحراك نبضات القلب في مسارات اتجاهاتها الصاعدة او المنحدرة. هي أيضا طبيعة اتجاهات خطوات القدم. وعشق الرومانسية لذبالة إشعاعات الغروب. مع ذلك فان الأمر لا يقتصر على أداءات هذه
الاتجاهات (المدارس, الفترات) الفنية. وربما ابعد من ذلك, حيث عصر الكهوف, أو هو اتجاه انحدارنا الخرافي الأول. لكن تبقى رسوم ياسين تعاند كل ذلك, ولتنحدر شخوصها وحسب رغباته إلى الحواف التي يهواها والتي هي وليدة مخاض تجاوز عسر أيامه. فلندع سجيته تقود أصداء خطواته الملونة بعشق المشرق ووهج نهاراته المشمسة.
بالتأكيد ثمة فوضى تعم تشخيصية هذه الرسوم. لكنها أيضا, فوضى منظمة بعناصر جمالية. بريقها الذي لا يتجاوز السطح يجعلها مكرسة للفرجة الانبساطية غالبا. فالرسام قرر ومنذ بداية مشواره الفني, أن لا يحفر عميقا في تفاصيله الأدائية. هو أيضا لا ينوي أن يدع فوضاه التشكيلية التشخيصية تعم سطح مصوراته. لذلك اختار لها أرضيات(حواضن) أكثر بهجة, وأكثر استقرارا. تتوزعها وتتبادل مواقعها مساحات ملونة, عرف كيف يصطاد الفراغ منها لتكتمل لدية دينامكية تضادات(الحركة ـ السكون). مستفيدا من ارث الفن الأوربي, وبالذات من جماليات الحداثة. وحرارة ملونة المخطوطة الشرقية, وليخلق لنا قصصا تتمتع بخفاء حوادثها. لكنها بالتأكيد هي بعض من حكايا أيامنا التي افتضتها بيئاتنا المتبادلة المواقع. فهل استعاد ياسين حلم طفولته الأولى, من اجل امحاء كوارث أزمنة لاحقة. ربما تفصح أعماله عن كل ذلك. او هي فعلا لا تزال تمارس فعل الوفاء لنوايا انعتاقه. ما يهمنا من كل ذلك, هو, كم تمنحنا هذه الملونات من غبطة لا تحدها حدود.
.........................
(*)ـ اعتقل وهو يحاو الافلات من محاولة نجنيده عسكريا في زمن الحرب العراقية الايرانية.
علي النجار
مالمو ـ 2011ـ10ـ28
تعليقات
إرسال تعليق