واقع الفنون في الجزائر بين حركية المهرجانات وتراجع الابداع / أ.د.جمال مفرج


واقع الفنون في الجزائر بين حركية المهرجانات وتراجع الابداع
أ.د.جمال مفرج


سننطلق في بحثنا هذا حول "واقع الفنون في الجزائر"، لا باعتبارنا مؤرخين ولكن باعتبارنا مشخصين ، لأن الفن الجزائري المعاصر يحتاج إلى التشخيص والفحص الدقيق أكثر من حاجته إلى شيء آخر.
منذ وقت غير بعيد وفننا الجزائري يتحرك نحو كارثة، ورغم الإنذارات الكثيرة التي انبعثت من هنا وهناك، ورغم الاعتقاد الكامل بأن الفن يزداد تقهقرًا يومًا بعد يوم، ورغم أن كل شيء في الفن، عندنا، يشير إلى أننا نسير نحو الانحطاط والرداءة، إلا أن كل ذلك لم يقابل، إلى حد الآن، إلا باللامبالاة، والتجنب قدر الاستطاعة.
علينا إذا القيام بنوع من التشخيص، أو التشريح العميق، وعدم الاكتفاء بجعل الشبهات تحوم حول الفن. ولذلك فإننا سوف لن نتحدث خلال المرحلة الأولى من بحثنا، بل سنترك الفنانين يتحدثون بأنفسهم عن واقع الفن كما يعيشونه. بعبارات أخرى، تتطلب مقتضيات البحث، في البداية، عدم إصدار أحكام مسبقة من جانبنا، وتلزمنا بالبقاء خارجًا متحررين من شعورنا الخاص، والاكتفاء بمجرد الاستماع إلى شهادات الفنانين أنفسهم، ثم استنتاج الأحكام والنتائج المناسبة من تلك الشهادات، وسوف لن نعود إلى كل مراحل الفن الجزائري الطويلة، بل سنكتفي بالسنوات الأخيرة فقط. فلنستمع إلى الفنانين:
لنبدأ بالاستماع إلى الفنان العالمي محمد بوكرش، صاحب "التماثيل الصامدة" في شوارع العاصمة، يتحدث عن مسيرته التي قضى فيها نصف قرن، وعن رؤيته لواقع الفن التشكيلي في الجزائر. يقول محمد بوكرش بأسى: "إن واقع الفن التشكيلي في الجزائر مزر بأتم معنى الكلمة سواء على المستوى المحلي أو الدولي. كما نسجل الغياب الملحوظ للجزائري دوليًا سواء كان ذلك في عالم الفن التشكيلي أو غيره من الفنون الأخرى" .
هذا في مجال الفنون التشكيلية، أما في مجال السينما والتلفزيون فيقول جمال بوناب إن الفن الجزائري متدنٍ. وهو يرجع هذه الوضعية إلى تداخل عوامل عديدة . وعلى الرغم من تفاؤله بمستقبل القطاع الفني والثقافي في بلادنا يرى زميله الفنان نور الدين شلوش أنه رغم التطور الذي أحرزه القطاع إلا أن ذلك لا ينفي وجود مشاكل ما يزال يتخبط فيها الفن في الجزائر . من جهته يرى المخرج عمار العسكري أن الجزائر تعاني بشكل رهيب من ضعف سيرورة الاتصال . أما زميله المخرج أحمد راشدي فيرى أن السينما ما تزال تعيش انعكاسات العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر إلى اللحظة . ونلاحظ أن مؤنس خمار يشاطره الرأي قائلاً إن الجزائر عرفت فراغا سينمائيا خلال عشرية التسعينيات، عشرية كاملة شهدت تراجع الإنتاج والتعتيم على الكثير من الممثلين والمخرجين . وترى إيمان بخوش في بحثها عن واقع الدراما الجزائرية أن "وضعية الإنتاج الدرامي تعتبر وضعية كاسدة من الناحية الميدانية، فصدور أي فيلم جزائري جديد لم يعد يحدث ضجة إعلامية أو فكرية، بل لم يعد يلفت الانتباه" . والسبب يكمن في نظر المخرج يحي مزاحم في أن الصناعة الدرامية بالجزائر اليوم لا تعدو أن تكون مجرد دراما مناسباتية تجعلنا لا ننتج مسلسلات إلا في شهر رمضان ثم نعود إلى ركودنا عند انقضائه .
هذا وإذا انتقلنا إلى مجال الموسيقى وجدنا الوضع نفسه، ففي حوار مع جريدة "الخبر" يتحدث الفنان مصطفى زميرلي عن واقع الفن الجزائري قائلا والمرارة تعتريه لما آل إليه هذا الواقع: "إن أغلب فنانينا رحلوا في ظروف مأساوية، بلغت العجز عن العلاج، ومنهم من لا يزال يصارع قسوة الفقر دون التفاتة، بل إن بعضهم يزاحم المعوزين للحصول على الشبكة الاجتماعية" . ويضيف فيقول إن الانتهازيين شوهوا الفن الجزائري لما قبضوا زمام الثقافة الجزائرية ، وهو يقصد بذلك أن الفن الجزائري طغى عليه الجانب التجاري. وكان من نتيجة ذلك أن أفسد المنتجون والفنانون ذوق الجمهور، فقد فرض، في نظره، الراي بكلماته البذيئة على الجمهور وانتهك حرمات البيوت بفضل الإذاعة والتلفزيون . وبالفعل، فإنه في استطلاع لجريدة الخبر يعترف المنتجون وبائعوا الأشرطة أن أغاني الراي التي تتضمن كلمات هابطة تشهد إقبالا كبيرا من الجمهور، في الوقت الذي تعاني أنواع أخرى من الكساد. ويؤكد صاحب أحد محلات بيع الأشرطة الغنائية، في الاستطلاع المذكور، أن أغاني "الكباريهات" هي الأكثر رواجا، وأن هذه النوعية يتم تسجيلها مباشرة في الملاهي الليلية، وتنتج بشكل رسمي، ويضيف أن الزبائن الذين يطلبونها ينتمون إلى مختلف الشرائح والأعمار، حيث يتهافت عليها الشباب وكبار السن، والذكور والإناث .
وعلى منوال الفنان مصطفى زميرلي، قال رضا سيكا إن ميدان الفن في الجزائر مخترق من جماعات وأفراد ليست لهم علاقة بالفن، وهو ما حوّله إلى فضاء مفتوح على كل من هب ودب . وقالت الفنانة آمال ايبدوزن إنها بحثت طويلا كي تفجر طاقاتها الغنائية إلا أنها لم تجد الفرصة أمامها بسبب غياب الكُتَّاب والملحنين، وعدم الاهتمام بالوجوه الجديدة . أما الفنان حكيم صالحي، ورغم النجاح النسبي الذي حققه، فإنه هو الآخر غير راض عن واقع الفن في الجزائر، وقال إننا نحتاج لكثير من الوقت والجهد وتغيير في ذهنيات التسيير حتى نخرج من وضعنا، والمسؤولية تقع، في رأيه، على الجميع .
هذا هو إذا، وباختصار، تشخيص الفنانين الجزائريين لواقع الفن الجزائري، ورأيهم فيه. والنتيجة التي توصل إليها هذا التشخيص تلخصها عبارة الفنان محمد بوكرش السابقة: "إن واقع الفن في الجزائر مزر بأتم معنى الكلمة".
هذا، وكما يفعل الطبيب، أي بعد أن يشخص المرض، يسعى بعد ذلك إلى تحديد السبب أو العلة. والذي يجعل الفن الجزائري مريضا ومزريا أسباب عدة وكثيرة:
لعل السبب الأول، في نظر الكثير من الفنانين، يعود إلى غياب قانون للفنان. ففي غياب هذا القانون يحرم الفنان، في نظر مصطفى زميرلي، من أدنى حقوقه، مما يفرض عليه البحث عن لقمة العيش في مجالات أخرى، مجالات كثيرا ما تقتل الابداع وترهق الفنان، وبالفعل، فقد اضطر مصطفى زميرلي، بعد أن استحوذت الأغنية التجارية على ساحة الفن، إلى العمل في استصلاح الأرض ليتمكن من توفير متطلبات الحياة لعائلته .
وفي الاتجاه نفسه يرى الفنان فوزي صايشي أن الوضعية التي يعيشها الفنان تعود إلى حرمانه من كل الحقوق، وعلى رأسها حقه في قانون يحميه ويدافع عنه. وهو قانون طالما طالب به الفنانون ولم يلق، كما يقول، آذانا صاغية لحد الآن . وبسبب عدم الوفاء بالوعود من قبل المسؤولين دعت الفنانة صونيا الفنانين الجزائريين إلى مواصلة نضالهم من أجل تحقيق مشروعهم الحلم، أي قانون الفنان، على اعتبار أن هذا الأخير وسيلتهم الوحيدة لإثبات وجودهم والحصول على حقوقهم .
لكن هذا المطلب هو، في نظر البعض، مطلب لصنف معين من الفنانين فقط، أي أولئك المحسوبين على نقابة الفنانين، ولذلك على الفنانين ، في نظر البعض ، تجاوز هذا المطلب فهو مجرد كماليات وقبل أن يؤطروا أنفسهم في أطر نقابية عليهم أولا أن يجدوا لهم موقعا وسط المجتمع. وهكذا، وحسب جمال بوناب فإن الفنان بحاجة إلى أن يُقَنِّن نفسه قبل أن يُقَنَّن في إطار نقابي .
أما السبب الثاني فهو افتقار المدن الجزائرية لقاعات العروض المسرحية واللوحات الفنية، ودور السينما، أي الفضاءات الخاصة بالعروض الفنية. وعلى سبيل المثال لا يوجد على مستوى العاصمة سوى مسرح واحد هو المسرح الوطني محي الدين بشطارزي الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى فترة الوجود الاستعماري. وفي بعض المدن تحولت المسارح ودور السينما إلى خراب، وخير مثال على ذلك هو المسرح الجهوي مصطفى كاتب بسوق اهراس، فبعل الإهمال الذي طاله منذ قرابة الخمسة عشرة سنة أصبح مأوى للجرذان التي أتت على الأرائك، وطمست معالم لوحاته الفنية المزينة لقاعة العرض، إلى جانب اهتراء الجدران والسقف وتجهيزات الركح وغيرها. وهو الآن معرض للإنهيار رغم الترميمات التي خضع لها، لأن هذه الأخيرة كانت عشوائية، ما دفع، في الأخير، بالمسؤولين في قطاع الثقافة إلى التخلي عنه وغلقه نهائيا في وجه الجمعيات الفنية التي لم تجد بديلا لتفجير طاقاتها والمواهب التي تزخر بها .
وكانت النتيجة أن نقص قاعات العرض عرقل مسار المسرح والسينما، بل عرقل كل الفنون. يرى الفنان نور الدين شلوش في هذا المجال أن المشاكل التي لا يزال يتخبط فيها الفن الجزائري تتعلق بقلة الفضاءات الفنية، فالعاصمة، في رأيه، بحاجة إلى أكثر من فضاء مسرحي، ورغم ذلك لا تبذل السلطات المعنية، في رأيه، أي جهد في إنشاء مثل هذه الفضاءات .
وأما السبب الثالث فيكمن في عدم تخصيص أموال أو ميزانيات كتلك التي تخصص للتظاهرات الكبرى لقطاع التكوين في المهن التي تمس بعض الفنون كالسينما مثلا. فهذا القطاع يحتاج إلى مهنيين في أخذ الصور، والتركيب، وكتاب السيناريو، وغيرهم. غير أن غياب هؤلاء أثر بشكل سلبي على الفن السابع الجزائري، بل أحدث قطيعة على مستوى التقنيات، فبينما تُستعمل، اليوم، في السينما تقنيات متقدمة، لا تزال، عندنا، تُستعمل التقنيات التي استعملت قبل عشرين أو ثلاثين سنة مضت . وبالمثل، وفي غياب كُتَّاب وملحنين، لم يجد المغنون والمطربون من خيار أمامهم سوى خوض غمار الكتابة والتلحين بأنفسهم .
هذا، ويرجع السبب الرابع إلى الأحداث السياسية التي عاشتها الجزائر في العشرية السوداء، فقد أثرت تلك الأحداث سلبا على جميع الفنون. وبالفعل، فقد قتل سنة 1993 الكاتب والشاعر الطاهر جعوط، وهو الذي رافق بكتاباته ومقالاته مسار العديد من الفنانين كباية، وخدّة، ومسلي، ومارتيناز، وتيبوشي، وجعفر، ومهند، وكيمون. كما تعرض للقتل خلال تلك الفترة الشاعران فليسي وسبتي، والكاتب الدرامي عبد القادر علولة، ومدير مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر أحمد عسلة. وتلقى الكثير من الفنانين تهديدات بالقتل والتصفية، ما أدى بالعديد منهم إلى أن هاجروا، وخلفوا وراءهم فراغًا رهيبًا .
ولا شك أن هجرة هؤلاء الفنانين كانت لها آثار سلبية، فأغلب الأفلام المنتجة في العشرية الأخيرة من صناعة مخرجين جزائريين يعيشون في الخارج اضطروا للجوء إلى الإنتاج المشترك، وبالتالي الخضوع لبعض شروط الشريك الأجنبي . هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه، وبفعل إنتاج الأفلام الجزائرية بالخارج وعرضها هناك، لا يتعرف الجمهور الجزائري على هذه الأفلام إلا بعد مرور فترة غير قصيرة . وينطبق الشيء نفسه على الفنانين التشكيليين وغيرهم، فالفنان محمد بوكرش، مثلا، يعترف بأنه دخل العالمية من مهرجان تونس الدولي الذي تردد عليه كثيرا .
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى تراجع الفن في الجزائر، لكننا، وفي مقابل هذا التراجع الرهيب في الإبداع ، نلاحظ ديناميكية في المهرجانات، فالمهرجانات تعرف حركية على مدار السنة، في المسرح والفنون التشكيلية والأدب. وأغلب المهرجانات التي تنظم في الجزائر تتم تحت وصاية وزارة الثقافة وينفذ معظمهما الديوان الوطني للثقافة والإعلام. ويبلغ عدد المهرجانات المنظمة على الساحة الوطنية حوالي مائة وثمانون 180 مهرجانا، وهي تزيد مع الوقت، وتصرف عليها ميزانية ضخمة، ورغم ذلك، وحسب مدير الديوان السيد لخضر بن تركي، فإننا إذا قارنا أنفسنا في هذا المجال بجيراننا من الدول العربية فإننا لا نزال بعيدين جدا عن النسبة المطلوبة حيث لا تمثل نشاطاتنا نسبة 10% من أنشطتهم الثقافية .
هناك إذا تراجع في الإبداع من جهة، وحركية في المهرجانات من جهة أخرى، فإلى ماذا ترجع هذه المفارقة الغريبة !؟
الحقيقة أن إقامة المهرجانات ليست دائما حراكا ثقافيا، لأنها لا تحقق مكاسب في أغلب الأحيان، بل هي للإستهلاك فقط: استهلاك ثقافة الآخرين، واستهلاك التهريج، والأعمال المرتجلة والهزيلة. وهكذا، وبدلا من أن تكون المهرجانات مناخا مناسبا لإطلاق الفنانين لطاقاتهم الإبداعية، وبدلا من صرف ميزانياتها الضخمة في التكوين فإنها غالبا ما تكون سببا في عرقلة الثقافة، بل وموت الفن. وبالفعل فإنه إذا كان الفنانون الأجانب يُجلبون بالملايير، ويُحرم فنانونا من أبسط حقوقهم فإنه على الفنان في بلادنا، كما يقول محمد بوكرش، انتطار الرحيل في ستر .
إن محمد بوكرش هو أحد أكبر الفنانين التشكيليين في الجزائر، وهو عندما يقول هذا الكلام بأسى شديد فإن معنى ذلك أن الفنون التشكيلية في الجزائر تعيش فعلاً واقعًا مزريًا. وقبل الخوض في هذا الواقع المزري يجب أن نشير إلى أن واقع الفنون التشكيلية في الجزائر سبق وأن كان موضوعا لبعض الندوات التي لم تصل إلى مستوى هذا الملتقى من حيث الشمولية في تناول المواضيع وعدد المتدخلين. فقد كان، على سبيل المثال، موضوعا للمائدة المستديرة التي نظمت بتلمسان على هامش الصالون الجهوي الأول للفنون التشكيلية الذي عقد من 04 إلى 10 جوان 2008، وهي ندوة مكنت المتدخلين فيها من عرض تطور الفنون التشكيلية في الجزائر من خلال التيارات الفنية المختلفة، كما مكنت الفنانين من عرض تجاربهم الشخصية، وأثار، خلالها، المتدخلون والفنانون المشاكل التي تواجه الفنان التشكيلي، وعلى وجه الخصوص مشكلة عرض أعماله .
وقبل ذلك عقدت ندوة أخرى حول الفنون التشكيلية في الجزائر بمكتبة الحامة في نوفمبر 2002 نشطها الفنانون التشكيليون عبد الرحمن عيدود، ومحمد بوكرش، وعبد الحميد لعروسي الذين تحدثوا عن مساراتهم الفنية، بالإضافة إلى تطوير الفنون التشكيلية في الجزائر .
بالنسبة لموضوع الفنون التشكيلية وواقعها في الجزائر سنبدأ أولاً، وكما فعلنا مع بقية الفنون الأخرى، بالاستماع إلى أقوال الفنانين أنفسهم. ونبدأ بالفنان التشكيلي نور الدين شقران الذي صرح لجريدة "الفجر" أنه على الرغم من كثرة الفنانين إلا أن العديد من دور الثقافة فارغة، وصالونات العرض قليلة جدا، كما أننا لا نملك سوقا للفن في الجزائر. وكل ذلك يدفع، في رأيه، بالفنانين إلى المطالبة بقانون للفنان يضمن لهم معاشهم . وبدوره يرى الفنان التشكيلي يحياوي العيد، في حوار مع جريدة "الأمة"، وهو رئيس جمعية الفنانين التشكيليين الأحرار التي تأسست سنة 2004 بوهران، أن الفن التشكيلي تقهقر، بل هو، على حد قوله، يحتضر على يد القائمين على هذا القطاع، أو الأوصياء عليه الذين يقتلون روح الإبداع عند الشباب، فهم الذين يعوقون تطور الفن التشكيلي بعدم سعيهم إلى تنظيم المعارض أو تقديم الدعم المادي للفنانين والجمعيات الفنية . وبالنسبة لراعية المعارض الفنية نذيرة العقون فإن درب الفن التشكيلي في الجزائر درب صعب، والمشكلة الحقيقية التي تتحكم في الوضع الراهن هي في نظرها غياب المساحات المخصصة للعرض وانعدام المتاحف المتخصصة والدوريات الفنية وكلها هيكليات كلاسيكية .
هذه بعض الآراء حول الوضع الراهن للفنون التشكيلية في الجزائر. وكما فعلنا، في السابق، سنسعى الآن إلى بيان الأسباب التي أدت إلى توقف نمو قطاع الفنون التشكيلية عندنا، وعدم منحه المكانة التي يستحقها.
الحقيقة أن الأسباب عديدة ومتشابكة. وتبعًا لنذيرة عقون فإن أحد أهم الأسباب هو أن الأساليب المتبعة لنشر الفن مثل المعارض، ومساحات العرض نادرة جداً ، بينما نجد، حسب نور الدين شقران، مدينة واحدة في المغرب بها أكثر من 35 صالون عرض .
هذا، وأما السبب الثاني فيعود إلى أن كسب الاعتراف ليس متوفرا في الجزائر على حد تعبير نذيرة عقون . وهو سبب يطرح مشكلة فعلية، لأنه يدفع بالعديد من الفنانين إلى الهجرة وطلب الاعتراف بهم خارج الوطن. وبالفعل، ففي ظل انعدام النقد الفني الذي يُعرّف بالفنانين، ويقيّم أعمالهم، وفي غياب المعارض المتخصصة، وانصراف المتاحف عن شراء أعمال الفنانين وعرضها ليتعرف الجمهور على أصحابها، قرر عدد كبير من الفنانين مغادرة البلاد لكسب الاعتراف بهم. وفي هذا المجال يعترف الفنان محمد بوكرش أنه دخل العالمية من مهرجان تونس الدولي ، وأن الأجانب هم الذين اكتشفوا منجزاته. وهو يذكر أن الأوصياء على الثقافة الجزائرية ما كان أن يضعوه في الاهتمام ويضموه إلى الذاكرة الشعبية التشكيلية لولا نزول السيدة بيراز دوكويلار وزوجها ضيوفا على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد واكتشافهما بانبهار لمنجزاته على مادة الخشب .
السبب الثالث يرجع إلى غياب الثقافة المتحفية وهجران المتاحف، وهذا الأمر له علاقة بمشكلة الاعتراف. فالمتاحف التي تحفظ التحف والأعمال الفنية من الضياع والاندثار مهجورة في الجزائر، وهذا الأمر لا يقتصر على عامة الشعب بل يشمل حتى النخب المثقفة. وهكذا، وبينما تستقطب متاحف بعض الدول المجاورة رقما يتجاوز المليون زائر سنويا، تشير بعض الإحصائيات إلى أن عدد زوار المتاحف عندنا متذبذب ويختلف من سنة إلى أخرى، وأنه يقارب 90 ألف زائر فقط في السنة .
إضافة إلى الأسباب السابقة، هناك سبب آخر يتمثل في نقص أو انعدام هياكل الاستقبال والإيواء، ما يؤدي إلى العزوف عن تنظيم التظاهرات الفنية، وخاصة الكبرى منها. وبالفعل، وكمثال على ذلك، فإن المهرجان الوطني للفنون التشكيلية الذي كانت تنظمه مدينة سوق اهراس في الثمانينات من القرن الماضي، وهي آنذاك مجرد دائرة ملحقة بولاية قالمة، استطاع مع الوقت أن يكسب سمعة دولية، وأن يجمع خلال الطبعة الثالثة سنة 1982 فنانين من 25 دولة، لكنه انتهى، في النهاية، بالتوقف. ورغم أن المشرفين على قطاع الثقافة بمدينة سوق اهراس لا يعارضون فكرة إعادة بعثه، إلا أنهم حسب السيد عامر مانع مدير الثقافة بالولاية، يرون أن غياب الهياكل الفندقية يمثل، حاليا، عائقا لا يسمح لهذه المدينة باستقبال الضيوف في أحسن الظروف .
هذه إذًا بعض الأسباب التي أدت إلى تراجع الفنون التشكيلية في الجزائر، والذي يتبين لنا، في الأخير، أن التناقضات والإشكاليات والأمراض التي يعيشها الفن في الجزائر حاليا من المستحيل معالجتها بدون مخططات حقيقية ومشاريع واضحة تركز على التكوين والرفع من مستوى الفنانين وتأهيل التقنيين، وتغيير التسيير، والدعم المادي، واستحداث جوائز. أما إذا استمر الوضع على حاله، فإنه سيتعذر على الفن الجزائري الخروج من أزمته: فإما انطلاقة جديدة وتجديد شامل، أو انهيار للفن وانحرافه، وإما أن نصنع "أجنحة لأفكارنا" أو نلزم الصمت !.

المراجع:
حوار مع جريدة البلاد (23 جانفي 2010)
http://www.bordj.net/spip.php(08/11/2011)
قانون الفنان... الفنان الجزائري بين التقوقع وأمل تحقيق المشروع الحلم، جريدة الحوار (عدد14/06/2008).
http://www.djazairess.com/elhiwar/162(30/10/2011)
المرجع السابق.
جريدة المساء (عدد22/05/2011).
http://www.djazairess.com/elmassa/47437(30/10/2011
ندوة الخبر حول واقع الفن في الجزائر، جريدة الخبر (عدد 02/10/2010).
http://www.elkhabar.com/ar/autres/feni/230854.html(30/10/2011)
إيمان بخوش، واقع الدراما الجزائرية، ضفاف الإبداع (عدد 28/02/2011)
http://www.difaf.net/main/?p=5905(30/10/2011)
المرجع السابق.
حوار مع جريدة الخبر (عدد 30/07/2011)
http://www. elkhabar.com/ar/culture/260549.html.(30/10/2011).
المرجع السابق
المرجع السابق
الأغاني الهابطة تجتاح بيوت الجزائريين وسياراتهم، جريدة الخبر (عدد 12/11/2011)
جمعتهم تيمقاد وفرقتهم هموم الساحة الفنية، جريدة وقت الجزائر (عدد 30/10/2011)
http://www.wakteldjazair.com/indes.php?id_rubrique=296&id_article=22736(30/10/2011)
المرجع السابق
المرجع السابق
http://www. elkhabar.com/ar/culture/260549.html(30/10/2011)
http://www.djazairess.com/elhiwar/162
المرجع السابق
المرجع السابق
مسرح مصطفى كاتب يتحول إلى مأوى للجرذان، جريدة الخبر (عدد 13/11/2011)
http://www.elkhabar.com/ar/culture/270819.html(13/11/2011) .
http://www.djazairess.com/elhiwar/162.
http://www.elkhabar.com/ar/autres/feni/230854.html
http://www.wakteldjazair.com/indes.php?id_rubrique=296&id_article=22736
http://fr.wikipedia.org/wiki/peinture_alg÷algerinne_contemporaine (08/11/2011).
العسكري وراشدي وأمين قيس يتحدثون عن واقع السينما الجزائرية، جريدة المساء (عدد22/05/2011)
http://www.djazairess.com/elmassa/47437(30/10/2011).
http://difaf.net.main/?p=5905.
http://bordj.net/spip.php.
واقع المهرجانات الغنائية بميزانياتها الضخمة يفرض نفسه في الجزائر، الديار اللندنية (عدد01/08/2011)
http://www.aldiarlondon.com/culture/1-articles/1289-2011-08-01-11-47-31(30/10/2011).
http://bordj.net/spip.php.
La réalité des arts plastiques en Algérie…
www.founounes.com/online/index.php?mact=news...o...(21/11/2011).
Arts plastiques en Algérie, Info soir (11/11/2003à
حوار مع جريدة الفجر (عدد 10/04/2011)
www.al-fadjr.com/ar/culture/179545.html?print(24/11/2011).
حوار مع جريدة الأمة العربية (10/05/2010)
www.eloumma.com/ar/content/view/11361/(24/11/2011).
الفن ورعاية المعارض الفنية في الجزائر، مقابلة مع نذيرة العقون، مجلة الفن (أكتوبر2009)
http://universes-in-universe.org/ara/content/view/print/20123(03/11/2011).
المرجع السابق .
الفنان التشكيلي نور الدين شقران في حوار مع جريدة الفجر .
www.al-fadjr.com/ar/culture
http://universes-in-universe.org/ara/content/view/print/20123
http://bordj.net/spip.php.?article384
السعيد تريعة، المتاحف الخاصة والقانون الجزائري
http://www.adabfan.com/criticism/5557.html
Souk-Ahras: relance du festival international des arts plastiques
www.algerie-news.com/search/beaux-arts/(21/11/2011)

تعليقات

  1. اصبح كل واحد ينتج عمل او يشارك فيه يسمي نفسه فنان 😁😁😂😁😂

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح