ليلة الكلريات / علي النجار مالمو
ليلة الكلريات / علي النجار
في صيف عام(1999) وصلت السويد بعد حصولي على اللجوء, كأي عراقي ضاقت به السبل. لم تكن قدماي قد خطت على أرض هذا البلد الشمالي قبل هذ التاريخ. لم أملك من متاع الله أي شيء, غير محاولاتي في الرسم, وبعض محاولات في التدوين. ولم أعرف بأن هاتين البضاعتين غير رائجتين عموما في هذا البلد. إلا لقلة هم بالأساس من ابنائه. لكني قدمت نفسي كفنان. وكان لابد من ذلك لمواصلة مشواري. لم تكن المدينة التي وجدت نفسي وعائلتي مضطرين ان نعيش فيها كبيرة, ولو نسبيا. (أنا الذي تركت بغداد ورائي على سعتها منذ أكثر من عامين). ولم تكن في هذه المدينة قاعات عرض. ما عدى واحدة لا يتعدى شكلها الخارجي شكل أي دكان بسيط. بعد الحاحي للمساهمة بأية فعالية فنية. ولو لإظهار صدق ادعاءاتي الفنية.تم تبليغي للاشتراك في عرض(ليلة الكلريات) يوم السادس والعشرين من سبتمبر. اذا, انا على موعد مع اول مساهمة فنية لي في هذه البلد. ولم اكن أفقه ما المقصود من عرض(ليلة الكلريات).
في الساعة السادسة مساء من يوم العرض ثمة شموع منيرة عند أكثر من باب . لقد تحولت بعض الامكنة القليلة, التي لم تكن قاعات عرض أصلا, إلى قاعات عرض فنية صغيرة. وثم مكان اوسع هو ملك للبلدبة ضم العديد من الرسوم وبضمنها رسومي الزيتية وعمل كرافيكي. وكانت بهجة رواد هذه العروض تعوض جهدنا. وانتهت الليلة بسلام, لنستلم اعمالنا في اليوم الثاني. وليرجع كل شيء الى مكانه. كانت العروض رسوما وتماثيل معظمها لهواة, وقلة لفناني المدينة المتمرسين. ثم استوعبت الدرس لاحقا. بان بلد كالسويد بنظام حكم اشتراكي اجتماعي. لا توجد فيه فروقات كبيرة, في اعراف الناس, فيما بين الفنان الهاوي والمحترف. بالتاكيد هذا الامر يختلف عند ادارات المؤسسات الفنية المهمة.
لم استوعب الأهمية الاحتفالية لهذه المناسبة الثقافية الفنية, إلا بعد أن انتقلت مبكرا الى مدينة(مالمو ) السويدية الجنوبية. يقطن هذه المدينة حوالي اربعمائة الف انسان. وهي ثالث مدينة في السويد بالنسبة لعدد سكانها, بعد العاصمة ستوكهولم, ومدينة يوتوبوري(التي تلفظ ببقية اللغات(كونتبرك). لكنها, مالمو, وكأي مدينة أوربية مستها الحداثة, تبدو اكبر من حجمها. هو مجرد انطباع لاحد قاطنيها, ومن خلال مشاهدته لنموها المستمر, ومنذ عشر سنوات. المهم. ان ليلة الكلريات في هذه المدينة تختلف عن سابقاتها بما لا يقاس. فللمدينة متاحفها الفنية, الأثرية منها والحديثة. وقاعة عروضها المهمة الرئيسية. والعديد من كلريات العرض الخاصة, وجمعيات وورش الفن, وحتى ورش وقاعات التصمصم المختلفة. كل هذه الامكنة تضيء شموعها وتفتح ابوابها للرواد المحتفين منذ المساء حتى ساعة معلومة من ليلة السادس والعشرين من سبتمبر, من كل عام, ممرات مضيئة بعوالم واجواء الفن والتشكيل, مهرجان للنور والصورة وبهجة العوالم الإدراكية الجمالية, ومكتشفات الخبرات الرقمية والتصميمية.
إذا لنبدأ جولتنا من متحف الفن الحديث. لقد اعيد تأهيل بناية قديمة للكهرباء تعود لعام(1901) لتناسب المتحف. وتحولت هذه البناية بطرازها الاسكندنافي التقليدي الى بناية يشف مظهرها الخارجي عن تأثيرات السطح المعماري المابعد حداثي بغلافها المعدني الاحمر الشمالي المخرم. وبالرغم من ان المتحف تأسس حديثا وفتح ابوابه للزوارقبل ثلاثة اعوام. الا انه استطاع ان يحتوي على مجموعة لا بأس بها من اعمال الحداثة(بيكاسو, ماتيس, التعبيرين الالمان, مونخ, وبعض من اعمال الانطباعيين, والبوب ارت الأمريكي وأعمال أخرى), وان ينظم معارض لفنانين حداثيين وما بعدهم, بشكل دوري). وبهذه المناسبة فتح ورشه الخلفية أيضا للزوار. وما خرجنا به( انا ومن رافقني). بان السلطة الثقافية لمدينة مالمو بذلت كثيرا من اجل انشاء هذا المتحف وبوقت قياسي. ولم تنسى ان تقدم إدارة المتحف عرضا خاصا وكما هي العادة في استضافة مشاريع أو عروض فنية فردية. والمعرض الخاص الحالي هو للأعمال المفاهيمية الفوتوغرافية للفنان الايسلندي المابعد حداثي(سيكوردر جودمونسون) المعنونة(حالات). وصوره المعروضة تبرز الأثر الواضح لتأثيرات أعمال ألـ(فلوكسوس) البصرية, حيث التوازن في التركيب, وغرابة وشاعرية البحث. واختلاط المواد المصورة والاداء الشخصي. والتي غالبا ما لا تخلوا من الطرافة, والتلاعب بالدلالات. مع ذلك فاننا نستشف من خلالها حالات انسانية في طريقها للتشكل بمفاهيم او صيغ جديدة تتوفر على الغرابة مثلما المألوف. هذه الاعمال هي حصيلة جهدهذا الفنان لما بين عام 1970 وحتى 1980.
حينما خرجنا, وبعد هذه الوجبة الفنية الدسمة. لمحنا ضوء شاشة عرض ليس ببعيد عن باب المتحف. هي في وسط الطرف الجنوبي من الساحة الامامية للمتحف. وبما انارة الساحة خافتة بعض الشيء, كونها تقع في حي سكني(1). فاننا ونحن نتقدم لمشاهدة عرض الشاشة فاجأتنا كومة ملابس منضدة وبالوان زاهية. ثم انتبهنا الا انها نفسها ترتديها عدة نساء في عرض ادائي ايقاعي دائري.
لقد شكلت الفنانة(اسا ماريا بنغستون(2) مشروعها المختلط الوسائط( والفيديو والتجميع) تعبيرا عن فلسفتها للاندماج.
بنغستون تستعرض فلسفتها الاندماجية بما يلي:
("نحن نميل إلى النظر إلى المهاجرين باعتبارهم كتلة واحدة متجانسة في حين أنهم ايضا أفراد، ولهم مصالح مختلفة وشخصياتهم مثلنا تماما. ومن المفارقات، نحن أيضا سوف نذهب بكل سرور إلى دول أجنبية لتجربة ما نحن عليه فعلا ")
إذا أناسها كتلة واحدة متحركة. لكن أرديتها(مصائرها) مختلفة.
كان عرضها مخاتلا, أو مفاجئنا لنا. وأنا أتكلم من منظور عادات عروضنا الفنية الداخلية. لكن وعلى ما يبدو, ورغم ان هذا العرض الفضائي(المكاني) ليس الأول.إلا أن وقعه وتوقيته ومكانه, كان فعلا ساحرا.
محطتنا الثانية كانت في متحف فن المدينة. المتحف(القلعة) هذا تحيطه قناة مائية بجهاته الأربع والشموع تقودنا إلى بابه الذي وصلناه عن طريق جسر خشبي. الطابق الثاني منه مخصص للفن الأثري( رسوم وبعض المنحوتات الغوطية والروكوكو, وخاصة لدول الشمال. كذلك الأثاث). اما الطابق الثالث فهو غايتنا, حيث مشاريع العروض الفنية الجديدة. وكان أهمها للفنلندي( فيلا كرانو) بالفاء الأعجمية والواو الاسكندينافية المخففة. وان كانت معظم معروضات هذا المتحف استعراضا للفن الاسكندنافي. فان اعمال فيلا هي الاخرى كذلك. لقد اجاد بتقنياته المختلطة(التصوير والتركيب والفيلم) وانتج صورا ضوئية حاورت الذات والبيئة بفنتازيا ادراكية عالية. ولم يكتفي بعرض صوره وافلامه. بل استحضر ورشته نموذجا, بالاتها الطباعية وموادها التتقنية وبعض من نماذج مراحل انتاجه, كوخا شماليا زاخرا بوهج اضاءاته الابداعية. لقد اخترق الضوء وبعثر اشعاعاته اطراف الجسد ومفاصل البيئة الشمالية, دفأ سوف نفقده عن قريب بحلول برد وثلج الشتاء الذي بدأ يطرق الابواب.
بالتأكيد سوف تكون ثالث زيارة لنا الى قاعة فن المدينة(3).القاعة الاكثر شعبية, والاعرق من متحف الفن الحديث. هذه القاعة افتتحت في عام(1975) وتعتبر واحدة من كبيرات قاعة الفن الاوربية. استقبلت عروضا لخيرة الفنانين الاوربيين المشهورين, وكذلك السويدين الحداثيين. وتوجهت منذ سنوات قريبة لتبني العروض العالمية الجديدة المختلفة الوسائل والوسائط. القاعة الان تستضيف مشروع عرض الفنان الامريكي(كريس جوهانسون) المعنون حسنا حسنا, ومشروع عرض الفنانة اليابانية(مسياكاي كاواي) (الفقاعة الكبيرة). الأمريكي جوهانسون نصب اعماله سلسلة متعامدة من رسوم الاكلرك على الخشب المضغوط, تخترقها فراغات دائرية او مربعة مشوشة و تحيطها او تخترقها مساطر خشبية ملونة , سواء تجريدات مساحية تسطيرية. او بايحاءات تجريدية جسدية, وبتاثيرات من فن البوب, يجاورها ويوازيها هرم من مساطب خشبية(المنصات التي توضع تحت صناديق حمولة البضائع) وفوق القمة منها اطاار خشبي يشبه الباب, يحتوي على اسطوانة خشبية مضغوطة برنقالية اللون(كما المراة اليديوية الدائرية) وبالامكان تحريكها بمحور عمودي والمرور منها للجانب الاخر.واذا تفحصنا الاعمال كلها بنظرة شاملة, فاننا نجد ان الفنان لعب على اختراق مشهدية كتلة العمل المرتبة وحداتها بنسق متتابع ومتفرق يحيث يخترقها البصر افقيا عبر ممرات ثقوبها او فتحاتها(منافذها)ا.اضافة الى ان ثمة تفاصيل نصية مدونة مصاحبة لرسوم شخصية مبسطة تتخفى ضمن بعض احياز مخاتلة من الشبكة التشكيلية اللونية الزاهية وتشكل نقيضا لهيمنة مساحتها. هذا اولا. وثانيا خلق من مدرجه الذي تضاهي مساحته نسبة كبيرة من الفضاء الذي احتلته اعماله الاخرى(رسوماته المنصوبة), ملعبا للفرجة الافتراضية. ومعادلا لوهم اختراق الفضاء والمرور عبر اتجاهاته. سواء كاداء جسدي من المتلقي, كما الحال في هرمه المدرج. او وهم فضائية اعماله الاخرى. وفي كلى الحالتين, يضعنا الفنان وسط متاهاته المصنوعة بادوات بسيطة, ان لم تكن بدائية. لكنه حولها الى مشهدية صورية تستمد سحرها من الصورة اعلانا وخرافة وذات تفكك صورها. مرة عبثا, واخرى بقصد لا تخفى مضامينه. ووضعنا أمام وهم اقترحته بعض متاهات مابعد الحداثة اللجوجة في صورها.
الجزء الثاني من العرض للفنانة اليابانية(ميساكي كاواي). كاواي نفسها زينت منحدر لتزلج الشباب في احد شوارع المدينة القديمة من مالمو بمناسبة مهرجان المدبنة السنوي قبل شهرين. لكني حينما شاهدت رسومها تلك ولأول مرة, اعتقدتها من تنفيذ رسوم الشوارع(الكرافيت) وليس لفنانة معروفة, او معرفة. كما هو حال عرضها في هذه القاعة المهمة. ولكي اتوصل لمغزى ما, فاني احلتها الى الصورة اللا مستقرة والمهزوزة لفنون ما بعد الحداثة. اذ علينا ان نستبدل مرجعيتنا الفنية وفلسفتها الجمالية الحداثية. بل حتى نبذها. امام مفاجاة اعمال كهذه. فالفنانة كاوي تتسوق مواد وتفاصيل اعمالها, كما تتسوق لمنزلها. انها تخلق عالما معادلا للدمى البلاستيكية الرخيصة والامشاط ومواد الزينة النسوية(ليست كما هي). بل بما يعادلها من الوان بهيجة وصارخة وشهوانية. من اقمشة وخيوط مظفورة. من رسوم كما رسوم الاطفال او الكارتون. لقد بنت منصتها, لا كما الامريكي جوهانسون, بل لتكون كتلة شعر جاهزة للتمشيط بأمشاط كبيرة تستقر أسفلها. أخيرا لقد جمعت في عرضها هذا وبتقنيتها المصنفة(سيئة, مع نتيجة جيدة) روح الدعابة والجدية واحلام الطفولة وولع الكبار التسويقي ضمن حاضن السوق الكبير, ولتلغي الحواجز مابين فضاءات العرض, الجادة والهازلة, الداخلية والخارجية. بجرأة الجيل الفني الجديد. ولم نفقد البهجة ونحن نتجول بممرات تكيوناتها ورسوماتها واشيائها المصنعة الاخرى.
جولتنا الاخيرة كانت في ازقة المدينة القديمة حيث معظم القاعات الفنية الخاصة لها حيز ما في أركانها مع العديد من عرض نتاجات الاجيال الفنية الجديدة. ما عدى من تخصص بعرض نتاج الاسماء الفنية المشهورة. لكننا استمتعنا أكثر بعروض الشباب. كونها تطرح رؤيا طازجة, مثلما هي تقنياتهم, وموادها التنفيذية المتنوعة.
اخيرا لقد حقق الفنان العراقي الشاب(محمد سامي) حضوره في عروض هذه الليلة في مدينة نورشوبن التي تقع في(جنوب ستوكهولم) حيث تبنت قاعة فن المينة احد رسومه بوسترا لعرض هذه ليلة. كما عرضت العمل الأصلي أيضا ضمن عرضها الخاص بالمناسبة. إضافة لعرضها ضوئيا على الواجهة الخارجية عند افتتاح العرض مع اسمه الموازي لحجم مساحة العمل.
ويبقى السؤال يؤرقنا: متى نستعيد تقاليد عروضنا الفنية, ومتى يستطيع الفنان العراقي تجاوز عقبات الإعاقة المادية والمعنوية والتفرغ لحل اشكاليات خبراته المعرفية الفنية وطرق اداء تصوراته وبتماس مع ما يحدث على الصعيد العالمي الذي بات فضائه مباحا للجميع. واين لنا المؤسسات الراعية. فالفن وهو جزء من الثقافة الاتسانية العامة بحاجة للعناية والرعاية التي هي غالبا اكبر من امكانيات الفنان او المثقف عموما.
................................
1ـ ذكرني هذا الأمر بما فعله مخططي مدينة برشلونة, حينما وضعوا متحفهم للفن الحديث(بمنشأته المابعد حداثية) وسط حي شعبي. بكونهم يخططون لدمج كل فئات السكان, وليس عزل بعظهم عن بعض. من اجل عدم خلق جزر متطورة منشاتها وأخرى متدنية. وكذلك عمومية الثقافة.
2ـ ماريا حصلت على دعم مالي من الدولة, ولعشر سنوات, من اجل تنفيذ مشروعاتها الفنية. وهذا مثل واحد عن امثلة دعم مشاريع الفنانين من قبل الدولة السويدية. فهل تقتدي دولنا العربية, والعراق منها. بهذا الفعل الداعم لمواصلة البحث الفني والثقافي, والعلمي عموما. من اجل التواصل ومنجزات العالم المتشعبة.
3- Könsthall Malmö
..................................................
علي النجار
مالمو 20011ـ10ـ08
تعليقات
إرسال تعليق