الاكتفاء الذاتي ثقافياً / د. شاكر لعيبي
الاكتفاء الذاتي ثقافياً
شاكر لعيبي
العدد 51 - أيلول 2012
يبدو أن اكتفاءً ذاتياً على المستوى الاقتصادي
هو أمر مطلوب، حتى في زمن العولمة، لكن الاكتفاء الذاتي على المستوى الثقافي لا يبدو
إلا سمة تسِمُ الأنظمة الشمولية في المقام الأول. إنه رديف للانغلاق على الذات، وانطواء
على حصص محدّدة سلفاً من الوعي، وشعور بالكفاية التي تقتطع شريحة منتخبة من المنتوج
اللامتناهي، بالغ التنوّع والتعقيد والتناقض المسمَّى ثقافة، وتعتبرها الثقافة كلها.
جميع البلدان الشيوعية كانت تُعْلن هذا الاكتفاء إلى درجة أنها ظلَّت تُنتج حتى المفاهيم
الثقافية الخاصة باكتفائها الذاتي، مثل مفهوم «الواقعية الاشتراكية».
وإذا ما استبعدنا بعض الأسواق العربية الكبرى،
المكتفية ذاتياً لأسباب موضوعية، في توزيع واستهلاك منتوجاتها الثقافية مثل مصر، فإن
التجربة في العالم العربي تدل على أن الأنظمة الديكتاتورية القمعية فيه، تُوطِّن مفهوم
الاكتفاء الذاتي الثقافي تحت ذرائع شتى، وتسعى إلى إقناع اللاعبين الثقافيين بأن مثل
هذا الاكتفاء يصبّ لصالح الجماعة الوطنية، بل هو رديف لمنافعهم الشخصية نشراً وترويجاً
ومكافأةً ماليةً من دون منافسين مزعجين قادمين من آفاق بعيدة أخرى.
كان الاتحاد السوفياتي طيلة ثمانين عاماً
نموذجاً للاكتفاء الذاتي الثقافي المتوهَّم، المتوصّل إلى إعادة قول المفاهيم الفكرية
الأيديولوجية نفسها دون ملل، ونفي كبار المثقفين إلى سيبيريا أو سجنهم أو مدعاة هروبهم.
لقد استعادت بلدان العالم العربي الخارجة للتو من حالة الاستعمار إلى حالة الاستقلال
هذا النموذج مكيّفة إياه طبقاً لشروط أكثر تخلّفاً. وإذا ما أنتج اكتفاءُ الاتحاد السوفياتي
مفاهيمَ نظريةً تقرأ «الواقعية» بطريقة تعزّز اكتفائه، فقد خلقت بلداننا فكراً انتقائياً
باسم خصوصياتها المحلية المتضخمة التي تصالح تعسُّفياً بين شروطها الدينية والأخلاقية
وأعلى مفاهيم الحداثة، وبين وعي القبيلة السلالي ووعي الثورة المتفارِق جوهرياً عنه.
من أول تمظهرات هذا الاكتفاء الثقافي ممارسة
الرقابة على الصحافة والتنظيم الحديدي لسوق الكتاب، إلى درجة أننا شهدنا في بلدان مثل
العراق وسوريا وتونس اختفاء أيّ صحافة غير صحافة الحزب الحاكم. وإذا ظهرت صحافة أخرى
فأنها مراقَبة إلى حدّ صارمٍ لا يمكن أن يجعل منها سوى نسخة محسّنة مزوَّقة من الصحافة
الرسمية. أما سوق الكِتاب فإنها تخضع لعيون رقابية لا ترحم، فلا تسمح إلا بالكتب التي
تطابق مشروعها. إن قوائم المنع الطويلة للكتب في العراق، المتزامنة مع كثافة كبيرة
في طباعة الكتب المحلية التي تروّج لأيديولوجيا واحدة سواءً في الفكر أو الأدب أو التأريخ،
ثم صعوبة استيراد الكتب في تونس أو الحصول عليها من المكتبات، وهو ما يعرفه طلبة الدراسات
العليا بالممارسة العملية... تبدو من المحاولات الدؤوبة اليائسة لتوطين هذا الاكتفاء
الثقافي.
في مثل هذه العملية تُمارَس عملية «تجهيل»
واسعة النطاق للجمهور العريض من أجل بقاء المفاهيم التي تتبنّاها السلطة. وبدلاً من
الثقافة المنفتحة الحرة، تشيع ثقافة مراقَبة، مغربَلة، منتخَبة وفق منظور خاص، ثقافة
مقتنعة بنفسها، تودّ إقناع جمهورها أنها تمثّل خير ما في ثقافات العالم، لذا فهي تستبعد
الفاسد الرديء، المسيء إلى أمتها وحضارتها، وأنها تغلق المنافذ على المتسللين لإفساد
العقول. وقد أوصل هذا الاكتفاء الذاتي إلى مشروع «ثقافة بديلة» تقوم بعملية تلفيق انتقائي
من ثقافات العالم، أو تروّج على أوسع نطاق لممارسات ثقافية غير تلك المقروءة والمكتوبة،
مثل ثقافة كرة القدم في تونس، وأكل القات في اليمن، وما إلى ذلك. أو أنها، مرة أخرى،
تصير طليعية على مستوى الفنون التشكيلية والجماليات التي لا تتعلق بمدلولات اللغة المنطوقة
المكتوبة، الفاضحة للوعي، بينما هي غير طليعية البتة إذا ما تعلق الأمر بالفكر الاجتماعي
والسياسي من دون فكرها، وهو تلفيق حاذق آخر دون شك.
إن ثلاثين عاماً من هذا الاكتفاء الذاتي
الثقافي والاستبعاد والرقابة، اللصيقة كلها بقمع الأنظمة الشمولية وأنظمة الحزب الواحد،
كانت كفيلةً بخلق جيل أو اثنين من «المثقفين» المحليين من طراز خاص ذي بعد واحد ولغة
منمَّطة موحَّدة طالما شهدناها في التظاهرات الثقافية الرسمية للدولة العربية، وما
أكثرها وأسمجها. فالمثقف ذو البعد الواحد يعني بداهةً أنه يفتقد الأبعاد الأخرى التي
لا يستقيم الوعي بها. ولكي لا نقع في أحابيل السياسة، سنتكلم عَرَضاً على لغة الشعر
المعقّدة بصفتها، في العالم العربي اليوم، تنميطاً ولغة موحَّدة قادمة من انغلاق متذبذب
وأفكار جاهزة رائجة عن الشعر. فالشعر عادة، مثله مثل الفكر، متنوّع وينهل من جميع المصادر
البصرية والتراثية والأسطورية والمعرفية. الشاعر ذو البعد الواحد (والمفكّر العربي
ذو البعد الواحد استطراداً) صناعة عربية معاصرة، لأنه قناع للاكتفاء بزادٍ ذاتي منطوٍ
على نفسه، حتى على صعيد الأدوات الأولية اللازمة للشاعر والمفكر. إن الأسلوب الشعري
الموحَّد الحالي، والقاموس اللغوي الضيّق الذي يغيب عنه العالم النباتي والحيواني الأدنى،
وإن الرعب الساكوباثي من فكرة «البلاغة» القصوى، وإن الاكتفاء بالهايكو الشكلاني الأدنى
من دون فلسفة «الزن» الصوفية القصوى التي ينطلق منها الهايكو الآسيوي، وإن الإفراط
بكتابة متشابهة على طول العالم الناطق بالعربية وعرضه، هي بعض الأدلة فقط على بُعْدٍ
واحد لا أدنى ولا أقصى فيه في نهاية المطاف، لكنها قبل ذلك دليل على اكتفاء ذاتي على
المستوى الشخصي يوازي، بشكل ملتبس، الاكتفاء الثقافي العام السائد في الأنظمة الشمولية.
من أوضح الأمثلة على اكتفاء ذاتي خلقه نظام
شمولي، ما يمكن أن يشهده المرء في البلاد التونسية مرة أخرى. سآخذ السياحة بوصفها دليلاً
موضوعياً على الانفتاح الواسع للبلد على العالم، المبتور بتراً متعمّداً عبر سياسة
الاكتفاء الثقافي السائدة منذ الاستقلال. يُفترض أن بلداً سياحياً عن جدارة مثل تونس
مُشرع على ثقافات العالم، بفعل حركة تنقل المسافرين المزوّدين بثقافات ولغات متنوّعة،
يدفع غالبية المثقفين إلى امتلاك الفضول المعرفي العميق، وليس الهمّ الاقتصادي الضيّق
فحسب. عملياً يقع خلاف ذلك قليلاً: ثمة سياحة اقتصادية لا تلائمها سياحة معرفية أسّست
لها ووطّدتها السياسة الثقافية الرسمية، إذ لا يهتم العديد من مثقفي البلد بالآخر الثقافي،
العربي أقلها، بما يلائم هذا الانفتاح الإنساني الكبير بالمستوى المرجو.
من باب الطرفة قلتُ مرة، تعبيراً عن هذا
المأزق، لصديق إن الجغرافيا التي يتحرك فيها الكثير من مثقفي العاصمة تمتد طولاً من
نصب الساعة (المنكاله) في أقصى شارع الحبيب بورقيبة إلى بورت دوفرانس المؤدي، في نهاية
الشارع، إلى سوق القصبة القديم. على مسافة كيلو متر واحد تقريباً، يعيش أولئك المثقفون
برخاء واكتفاء ذاتي صافٍ بعيداً عن صخب الثقافة في العالم، وعن أمثولات كبار أساتذتهم
التوانسة (نتذكر هشام جعيط مثالاً) وبعض مجايليهم الذين خرجوا بجسارة وحرية إلى الفضاء
الرحب بثمن انشقاقهم عن اكتفاء الثقافة الرسمية الذاتي. الصديق نفسه يكتشف الآن مندهشاً
أن بعض المثقفين والمحرّرين الثقافيين لا يعرفون مثقفاً مهماً مثل سليم بركات. هذه
واحدة من نتائج الاكتفاء الذاتي الثقافي الذي وطّده النظام بدرجات متفاوتة في هذا الوسط
أو ذاك. إذا لم يقع مثل هذا الأمر فلسوف تقع معرفة نجوم الثقافة العربية، وحدهم، ممن
اشتهروا بسبب بقائهم في كبار المنابر الإعلامية فترة «رئاسية» طويلة، وذلك بغض النظر
عن قيمتهم الجمالية الفعلية أحياناً: هنا يستند الاكتفاء الذاتي، مرات كثيرة، على الإشاعة
الثقافية وليس على الفحص اللائق بالثقافة.
في العراق أيضاً وصل الاكتفاء الذاتي لثقافة
النظام السابق إلى درجة أن جيلاً كاملاً من مثقفي البلد لا يعرف جيلاً كاملاً خارجه.
ما زال البعض حتى اللحظة في إطار وعي الاكتفاء الذاتي السابق عينه دون أن يدري. لم
يقع الأمر دون سياسة اكتفاء، سأقول: انغلاق ثقافي متعمَّد، على ثقافات العالم، غير
القومانية خاصة مما لا يحبّذه النظام العراقي السابق.
في بلد غير سياحي مثل العراق، عُرف عن المثقف
العراقي تنقّله الدائب في المعرفة، كأنه يقوم بردِّ فعلٍ على الجغرافيا، وتحايله على
الاكتفاء الذاتي الرسمي. رغم ذلك قاد هذا الاكتفاء القسري، في العشر سنوات الأخيرة
من عمر النظام، إلى إفقار الثقافة إلى حدّ مرعب. وبدلاً من المسرح الجاد الذي عُرف
البلد به أنشأ مسرحاً كوميدياً هابطاً، وللاستعاضة عن المثقفين المهاجرين بحثاً عن
الحرية والمعرفة والكرامة اختلق جوقات من المداحين الأمّيين الذين قد يكون وزير الثقافة
السابق لطيف نصيف جاسم خير استعارة لهم. في أجواء ملتبسة من الحرّية اليوم يصير شارع
المتنبّي المخصّص لبيع مختلف صنوف الكتب، في قلب العاصمة بغداد، أعظم مجاز على رفض
سياسة الاكتفاء الذاتي الثقافي من طرف مثقفي البلد. في هذه اللحظة عينها يسعى النظام
الثيوقراطي الحالي إلى تأسيس اكتفاء ذاتي جديد، دينيّ هذه المرة، معلناً شهر أبريل
2012 على لسان وزيره الأول أنه قد هزم الثقافات العلمانية والماركسية والليبرالية،
وأظن أنه واهمٌ أشدَّ الوهم، وأن سياسته ستبوء بالفشل بعد كل ما مرَّت به المنطقة من
تجارب اكتفاء ذاتي ثقافي مريرة.
«الغاوون»، العدد 51، 1 أيلول 2012
تعليقات
إرسال تعليق