النقد الجامعي.. احراج السؤال وواقع الحال.. / حبيب مونسي
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
- النقد الجامعي.. احراج السؤال وواقع الحال..
حبيب مونسي
من المسلم به بتداء أن الجامعة الجزائرية تنتج في كل سنة العشرات من الدراسات المتعلقة بالأدب الجزائري: شعرا، ونثرا، ومسرحا. وأن الكثير من هذه الدراسات التي ينجزها خيرة أبناء الأقسام الأدب، والفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، التي تتخذ من الأدب الجزائري موضوعا لها.. والتي تكللها لجان المناقشات بتوصية للطبع، ينتهي بها المطاف إلى رفوف مغبرة من المكتبات،.ولا يكاد يلتفت إليها أحد من الناس.. ربما تقلبها بعض الأيدي طلبا لفكرة أو رأي، ولكن سريعا ما تزور عنها إلى غيرها من الدراسات المطبوعة، التي عرف أصحابها كيف يوصلونها إلى القارئ والباحث..
وثمة مشكلة كبرى ربما توجه فيها أصابع الاتهام إلى الجامعات التي لم تعرف كيف تثمن أبحاث طلابها، وكيف تخلق جوا من المنافسة الشريفة، من خلال طبع بعض الأعمال على نفقتها، تحمل شارتها العلمية، وتعرف بنشاطها العلمي على مستوى التراب الوطني، أولا وربما العربي ثانيا والعالمي ثالثا.. إنها الحلقة المفقودة في سلسلة التواصل المعرفي بين الدارس والمبدع.. بين ما تفرزه الأقلام وما تتابعه عين الدراسة والفحص. وربما كان قيام "ديوان المطبوعات الجامعية وتأسيسه" في يوم من الأيام ليخدم هذه الفكرة، ويتيح للدارس مجالا للنشر والتواصل مع غيره في الجامعات الأخرى.. قد يحتج الجامعي بهذه الحجج وغيرها، ويعدد الرسائل التي أشرف عليها والتي تناولت الأدب الجزائري: رواية، وشعرا، ومسرحا.. ويذكر زميلا له في جامعة أخرى تخرج على يديه عديد من الدارسين في ذات الحقل. بيد أننا نجد في المقابل أن عددا من هذه الدراسات قد نشر منذ أمد بعيد، وأن عددا آخر عرف طريقه للنشر في مطابع عربية وأجنبية.. وأن دورا للنشر قد ساهمت هي الأخرى في استدراك ما فات، وأنها دخلت الساحة الفكرية من باب الاستثمار المالي، فطبعت بالمقابل أعمالا لم تنظر فيها نظرة المختص، وإنما كان تحصيل الربح همها الأول والأخير..
كل ذلك كان موجودا من ذي قبل.. غير أن الفاعلية والتأثير الذي يرصده الدارس من خارج الدائرة التي وصفنا لايجد شيئا يذكر. فلا الدرس النقدي أثر في الرواية وصنع فيها توجهات وتيارات، ولا هو غيَر من أفق المبدعين من خلال التقييم والتقويم.. لأن الملاحظ اليوم هو استمرار المبدع في مضماره يسير أماما لا يلوي على شيء، وقد سد أذنيه أمام الأصوات الباهتة التي تأتيه من اجتماعات المقاهي والجلسات الخاصة. كما أن الدارس استمر -هو الآخر- خاضعا لصنمية منهج لا يعرف عنه إلا بعض تجلياته الأدبية، يجريه هنا وهناك بنفس الطريقة، فيكرر نفسه في كل محاولة.. حتى غدت كثير من الدراسات تتشابه في عناصرها ولغتها وخططها.. حتى ليكفي فيها أن تغير كلمة في العنوان لتغدو صالحة لبحث آخر.. كأن تكتب "قراءة في رواية فلان" عنوانا فرعيا لتحديد التمايز بين هذه الدراسة وتلك. إنه النقد البارد الفاتر.. النقد الذي لا يقتل ولا يحيي.. النقد الواصف الذي يتدجج بمناهج واصفة أفرزتها الحداثة الغربية حينما تخلصت من السلط القهرية التي كانت ترزح تحتها منذ عصور الظلام.. وأسلمت قيادها لذات متحررة لا تأبه لمعيار أو قيمة، ولا تقيم وزنا لحكم أو حد.. ومن ثم أنتجت مناهج ينتهي همها إلى الوصف المحايد الذي يعجز عن التفرقة بين نصين من حيث القيمة الجمالية والفكرية. وغدت كل النصوص صالحة لأن تكون موضوعا للدراسة، لأنها لغة أو إشارة.. فلا مجال أبدا في حديثها تفضيل هذا الأديب على ذاك، أو تفضيل هذا النص في كتابات هذا الأديب على نصوصه الأخرى. وأصبح العد والإحصاء ديدن كل دارس يربد أن يعطي لدراسته مسحة علمية يتباهى بها المنهج العلمي زعما.
إنك لتمر بعشرات الفقرات من الدراسة ولا تجد فيها شيئا سوى الجداول والأرقام التي يعجز صاحبها عن تفسيرها واستثمارها في دراسته.. وترتفع إليك لغة واهية لا تكاد تفصح عن شيء ذي بال.. لأن المناهج الواصفة لا تفسح أمام أصحابها فرص التدبر الفكري في المسائل المطروحة.. لا يهمها ما يقوله النص.. ولماذا يقوله؟. وإنما المهم عندها هو الكيفيات التي يقول بها النص أشياءه .. ومن ثم فليس المهم جديد الفكرة، أو فرادتها، أو تميزها، وإنما المهم أن تكون قولا قيل بكيفية معينة. لأن الدارس لن يجرأ على أن يصدر في شأنها حكما، أو أن يبدي فيها رأيا.
صارت البحوث التي تكتب للحصول على الدرجات العلمية نتهج نهجا واحدا، هو الإكثار من الأقاويل وعدم الرد عليها أو مناقشتها، وإنما الزج بها الواحدة تلو الأخرى في عرض الصفحة لتؤثثها بالمراجع المطلوبة. فيتجاور القول ونقيضه، والرأي ما يستدبره، والفكرة وما يهدمها من أساسها. فقط لأن الذين يزج بهم في الصفحات المتتالية تكلموا في القضية ذاتها، وأدلوا فيها برأي. غير أن الدارس لا يعنيه أن يرد أو أن يفند، وإنما همه أن يجمع ويؤلف بين الأمشاج والأخلاط، وأن يدفع كل ذلك إلى صدر البحث. لقد نشأ عن هذه الوضعية نشأ شاذ.. إنه البحث ذاته.. فصول نظرية يلخص فيها الباحث مقولات منهجه، وطرائق بحثه، ثم تأتي فصول هزيلة للتطبيق، يغيب عنها عمق النظريات، وتخذلها المصطلحات، وتنتهي بها الصياغة إلى كثير من الانطباع الذي كان قد تنكر له الباحث نفسه في مقدمة بحثه،إحقاقا للعلمية التي يرومها من خلال منهجه المختار. نعم إنها صورة المخلوقات المشوهة التي تتضخم فيها أعضاء على حساب أخرى.
وفي المقابل نشأ نشأ آخر... إنه حديث المقاهي.. نقد النميمة والغبية.. ذلك النقد الذي لا يتورع من اصدار الأحكام القاسية على المبدعين: يسفه أحلامهم، ويستهجن صنيعهم، ويناقش أفكارهم، ويردها إلى مرجعياتها المختلفة من ولاء أو براء،أ و ابتغاء لجائزة،أ و تصيد لفصيل لنيل حظوة. يحدث ذلك في جلسات يعمها الحماس، ويتحزب لها طرف على طرف. وحينما تستمع إلى مثل تلك المناقشات، ينتابك شعور بالضيق لأنك تأسف حتما على أن لا يكون مثل هذا النقاش في ساحة الجامعة، وفي مدرجاتها، وبين باحثيها.. ولماذا لا تنزل تلك الآراء الجريئة إلى الجرائد والمجلات.في شكل مقالات وبحوث.؟؟؟ تتساءل لماذا لا يريد أصحابها الظهور ورفع الأصوات، ويفضلون الهمس بها في جلسات ينتهي أثرها حالما تحتسى فناجين القهوة.
نعم إن المثف الجزائري يحمل هم الأدب الجزائري إلا أنه يخاف أن تلصق به تهم القذف والإساءة إلى الغير.. هذا هو الواقع المر، فلا أحد مستعد لأن يمسك بالقلم ليكتب عن فلان أو فلانة، ليقول له وللقارئ حقيقة ما يقرأ، وطبيعة ما انتهى إليه بحثه في هذه المسألة أو تلك.. بل يفضل أن يحتفظ برأيه لنفسه.
ثم تعقد الؤتمرات التي تصرف من أجلها أموال معتبرة. غير أنها تمضي على نحو شبيه باستعراض المعارف النظرية التي تسمن ولا تغني من جوع.. فهذا مؤتمر في السيميائيات، وآخر في تحليل الخطاب، ثالث في االبنيوية... نمجد فيها الآخر.. نقدم عمله، ونشرح فكرته، ونحله فينا محل المعلم الذي لا يجوز لنا أن نرد قولته. ولن تجد من المحيط إلى الخليج من يرفع الصوت ليقول لنا أن فلانا أخطأ في تعريف، أو جانبه الصواب في تمثيل، أو أن ما ذهب إليه لا يخدم الحقيقة الأدبية.. لا شيء من هذا أبدا.. إن ساحة الملتقيات ساحة للآخر يحط فيها برحاله، ويضرب فيها بجرانه، ويُكال له من مدح المادحين، وقرض المقرضين، ما يجعله في بابه الفتحَ كله، والعلمَ كله.
نعم.. تقدم البحوث التطبيقية التي تتناول أعمال فلان وفلان..نعم.. يطبق البعض على شعر زيد وعمرو.. غير أن التطبيق لا يعدو أن يكون إجراء لخطوات منهجية اهترأت من كثرة الاستعمال، واكتسبت في جريها وراء الوصف عبارات نمطية تتكرر عند سائر الدارسين، لا يقع في سمعك منها حرف حتى تتيقن من أنك قد سمعت مثله في جلسة أخرى من ملتقى آخر عقد السنة الفائتة.
قد كنا نعتقد أن مثل هذه الملتقيات يأتيها الدارسون من أجل المغامرة برأي، والمجازفة بفكرة، والخوض في تجربة فريدة... يأتيها الباحث ليسمع رأي غيره. ويستفيد من تحكيمه ويتأكد من متانة عرضه.. يأتيها ليعرض فيها عصارة بحث أجراه في تخصصه جديدا غير مكرور. يدفع به الرأي النقدي إلى تخوم أخرى لم يبلغها بعد. وكنا نعتقد أن فضاءها مجال يلتقي فيه خيرة أبناء الجامعة ليلا ونهارا ليتعارفوا.. ليتدارسوا.. لينفع بعضهم بعضا برأي أو توجيه.. ليُثَمن العمل الجيد.. لنعرف أننا ننتج رأيا على الأقل.
وليس العيب أولا وأخيرا في الجامعة.. أبدا.. ولا يتحجج أحدنا بها أبدا.. ففضاؤها مفتوح.. وإمكانتها متوفرة.. بل قد يفيض فوق الحاجة في كثير من الأحيان.. إنما العيب فينا نحن الذين تحولنا إلى مجرد علب للبريد الفكري.. نقدم مجانا خدماتنا لتبليغ فكر الآخر وإنجازاته لجيل سينكرنا ويستنكر صنيعنا في نهاية المطاف، لأننا أسلمناه للآخر فريسة مكبلة، مسلوبة الفكر والإرادة.
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق