انتقال السلطة للسياسة / أمال نصر
انتقال السلطة للسياسة
أمال نصر
Amal Nasr
واجه الفن بعد عصر النهضة سلطة جديدة هى سلطة السياسة وإذا كان مفهوم السلطة عبر العصور قد حمل بالكثير من الدلالات فقد بقي التصوّر السائد المسيطر هو أن السلطة هى السلطة السياسية ،إذ كان غالبًا ما تُعَرَّف السُلطة، بأنَّها سلطة الدّولة ، أو السلطة السياسية ، وأنَّها عبارة عن مؤسساتٍ وأنظمةٍ وأجهزةٍ، تُخضِع المواطنين أو الرعايا لقوانينها داخل حدود دولة ما . لذلك فإن مفهوم
السلطة السياسية يُشَكِّلُ نظامًا من السيطرة، والهيمنة، التي تمارسه فئة ما على فئة أخرى ، مُتَّخِذَةً صُورًا عدّة منها صورة التسلط على الفن وإحتواء سلطته لصالحها .
من هنا اقترنت الصورة الأولى للحرية فى التاريخ بالمفهوم السياسى حين استشعر الإنسان بأن النظم السياسية تحد من أفعاله , وتحقق هذا بوضوح فى المطالبة بالتحرر من سلطة الدولة والكنيسة نظراً لامتداد نفوذهما إلى الفن والعلم وكافة مناحى الحياة وبدأت تثار علاقة السلطة بالحرية ، فالسلطة تعمل على ثبات النظم بينما حرية الفرد تعمل على تغييرها من هنا حدث التضارب الدائم بينهما .
وأتوقف هنا عند عدة محطات فى تاريخ علاقة السلطة السياسية بالفن سنناقش أهمها وأكثرها تاثيراً :
1- تطور علاقة الفن بالسلطة فى عهد الثورة الفرنسية
مثلت الثورة الفرنسية نموذجاً للربط الوثيق بين الفن والسلطة السياسية , فبقيام الثورة واستيلائها على السلطة عام 1789 كان سعيها الأول هو تكريس المبادىء الكلاسيكية الجمالية فى الفن ، وقد ربط أعلام التنوير بين مساهماتهم الجمالية التى عكست فكرهم التنويرى الشمولى وبين النظرية الجمالية الفلسفية التى قامت فى العصر اليونانى القديم حيث كان الفن وثيق الصلة بالشعب والحياة الاجتماعية والسياسة ، وأيضاً إستجابة لموجة الولع بالقديم وما تبعها من اهتمام بفنون الحضارات القديمة . من هنا بدأت الرعاية الرسمية للفن للعمل على إزدهاره لأن الفن يمثل من جهة الدلالة على العصر والمستوى الذهنى والأخلاقى للشعب ومن جهة أخرى لأثره السياسى والاجتماعى فى بناء الدولة ، مما يحتم على الدولة رعايته عملاً بمبدأ أن " الغنى الفنى يجب أن يصبح زينة ودين الشعوب الحرة "
من هنا تم الاعتراف بالمذهب الكلاسيكى مذهباً رسمياً لفن الدولة ، إلا إن هذا الفن على الرغم من الحيثيات الأولى التى تبنته الثورة من أجلها ، أصبح غير مناسب لجمهور الشعب والطبقة البرجوازية والأثرياء الجدد ؛ حيث كان يحتاج تذوقه إلى ثقافة لاتينية واسعة فى الأساطير والأدب والفلسفة والتارخ التى تربى عليها سابقاً أبناء الطبقة الأرستقراطية . ونتيجة لذلك ظهر التيار المعادى له والداعى إلى إبداع قوالب فنية جديدة تعكس هموم المرحلة والجمهور الجديد ، ورفع شعار أن يصبح الفن فرنسياً وطنياً وأن يكون مؤرخاً لمجد فرنسا وعزتها ، لامؤرخاً لمجد اليونان والرومان . من هنا تراجعت منظومة الصور الفنية الدينية والمثيولوجية لتحل محلها منظومة الصور الفنية المعاصرة الدالة على الواقع السياسى والاجتماعى الجديد كصور المعارك والانتفاضات والحروب وموت البطل وظهرت الملامح الأولى للرومانسية فى فن التصوير .
إلا أن ما تمخضت عنه الثورة من أحداث مثل الصراعات الداخلية بين تيارات قادتها ، والحصار الأوروبى وحملات بونابرت على الشرق وأوروبا ، ونهوض الطبقة البرجوازية الجديدة التى تتشكل فى معظمها من الجنرالات وقادة الجيش والتجار والثرياء الجدد ، ليشكل سلطة جديدة فرضت شروطها على الثقافة والفن ، فأخضعت الفنان لعملية العرض والطلب بعد أن أصبح حراً من جمهوره القديم الكنيسة والبلاط ، وأخضعت الفن لذوق الطبقة الجديدة وتطلعاتها وطموحها ولسياسة جديدة قائمة على توظيف الفن لخدمتها تحول معها الفنان إلى عامل مأجور . نتج عن ذلك حدوث تراجع لفنى النحت والعمارة كفنون ضخمة ومكلفة واحتفالية المنحى ، وإزدهار فن التصوير خاصة اللوحات التاريخية والبورتريه لقدرتهما كأجناس فنية على تسجيل مآثر "الفردية" و"الجماعية" وحب الظهور والاستعراض والتفخيم . فالذى كان يصنع تاريخ فرنسا فى أوائل القرن التاسع عشر هو البرجوازية المتحكمة بزمام السلطة السياسية والاقتصادية وأيضاً الفنية ( 7 ).
وعكس صالون باريس بداية من عام 1799 هذا التحول ففاض باللوحات المكرسة لتمجيد بونابرت وحروبه وعائلته وجنوده وقادة جيوشه ونجوم الطبقة البرجوازية الجديدة ، وكان لبونابرت تدخل مباشر بوصفه حاكماً لمصالح الطبقة البرجوازية الحاكمة فى تأكيد هذا المسار الفنى ، إذ كان يشرف مباشرة ـ فى تدخل سلطوى سافر ـ على اختيار الموضوعات وتنفيذ الفكرة ، واختيار الفنانين ، وتوزيع الجوائز ، وافتتاح الصالونات .
وإذا كان علماء التنوير قد طرحوا ما أسموه بأزمة الروح التى أرجعوها لسيادة مبدأ الفن للمتعة والفن كأداة تزيينية والفن المسلى اللذيذ فى عصر الروكوكو متمثلاً بمنظومة الصور الفنية التى قدمها فن التصوير عن مشاهد الحياة وبيئة النخبة الأرستقراطية القائمة على الحواسية والمتعة والترف والاستعرضية والميل للخفة والترف ، فإن الفن انتقل بعد الثورة الفرنسية من سلطة الطبقة الأرستقراطية التى تسخره للتعبير عن مظاهر حياتها الزائفة إلى سلطة قادة الثورة لخدمة مفاهيمهم وتكريس دوره لخدمة السياسة ، ثم سلطة طبقة البرجوازيين الجدد الذين استخدموه لتسجيل مآثرهم الشخصية ، مما أدى للرد الفعل القوى الذى قدمته الرومانسية وناهضت به السلطة والنظام البرجوازى السائد فى فرنسا بسبب رفضها للواقع والتاريخ ومحاولة خلقها لواقع مغاير .شكل (1) ، شكل (2) .
2- القهر السلطوى السياسي للفن : تجربة الفن الروسى
بحلول ثورة 1917 **** شهدت روسيا نظاماً سياسياً جديدا أعطى نموذجاً غير مسبوق فى القهر السلطوى السياسي للفن ،فالبرجوع إلى أوائل سَنَوات الاتحاد السوفيتى ،نجد حضوراً واضحاً لفنون رواد الطليعة ، إلا أن البلاشفة قد استطاعوا تغيير القِيَمَ الفنيةَ التى كانت سائدةَ فى روسيا. فقد تم رَفضَ الأساليب الحديثة ، بسبب كونها حركاتِ وُجدتْ قبل الثورة ولِذلك ارتبطتْ بالبرجوازية (الطبقة الوسطى). فأصبحت الواقعية الاشتراكية ردّ فعل ضدّ تبنى هذه الأساليب الفنية السابقة. و فى منتصف العشرينيات ، بدأ التحرّك نحو الواقعيةِ بعيداً عن اتجاهات الطليعة الروسية ، عندما أصبح واضحاً بأنَّ العُمّالِ والفلاحين وَجدوا مثل هذا الفَنِّ غامضِاً وغير مفهوم . ولم تستطع الطبقة الجديدة التى استلمت السلطة السوفيتية والمكونة من العمال والفلاحين أن تستوعب وتتقبل الفن التجريدى القائم على مبدأ الذهنية والتحليلية والذى تتطلب ثقافة الصورة المجردة ، ومثلت تيارات الحداثة قوالب جمالية غير مفهومة بالنسبة لها خاصة وإن فنانى الطليعة قد عاشوا فى ظل ثقافة الغرب وما أنتجه من تيارات الحداثة .
وقد قوّضَت الثورة المِلكية الخاصّة بما فى ذلك المعارضِ التجاريةِ التى كانت مخرجاً لمبيعاتِ الفنانين والمزايدات عليها ، وبالتبعية أصبح جامع اللوحات الغنى غير قادرعلى العمل كراع ٍ للفنون . كما أمّمَت الدولة المقتنيات الفنية الخاصة بالطبقة الأرستوقراطية . واختفت التركيبة القديمة للرعاه الأرستوقراطيين والتجـارِ الأغنياء ؛ التى طالما وفرت الرعاية للفنانين ، وكان لها أثر كبيرعلى تطور الفـن الروسى . كما تغيرت أيضاً بالكامل كل أيدلوجية الفن وعقيدته . وأصبح الفَنِّ تحت الحكم الاشتراكى عمومى الإنتاج ، جمهورياً فى التعبيرِ وفى المحتوى السياسى . وساهم العديد ِمنْ الفنانين المستقبليين و التعكيبيين بالإضافة إلى الفنانين التقليديين فى هذا الفَنّ السياسى . كما بدأت مدارس الفنـــــون برامـــــج مجّــانيةِ الفنــون . وفرض (لينين) برنـامج فنى يسمى الدعاية التذكاريِة لإحياء أبطالِ الثورة .
ومن المؤكد أن السبب وراء دخول الفن فى القضايا الأيديولوجية والسياسية كان هو إيمان الساسة بمدى تاثيره وسرعة وصوله إلى الشعب وكذلك سرعة رد الفعل تجاهه . أصبح الفَنّ اقرب أن يكون إنعكاساً للعالمِ الجديد . وقوى بناؤه ضمن المنظومةِ الاجتمــاعية . وتبعاً لذلك كثيراً ما هوجمَ المفهوم الجمالى للفَنِّ . كما اتهم الفنان بانغماسه فى متعته الشخصية وأن دوره غير ضـرورى ضمن وجهة النظر المادية العمالية .
وعندما ظهرت محاولاتِ غير الثوريين والمتدخلين الأجانب لإعادة الحكم القيصرى لروسيا ، كان لابد للثورة من البَدْء فى توحيد المثقّفين حول فكر وعمل مواليين للحزب والدولة . فاغُلِقتْ كُلّ منظمات الفَنِّ المستقلةِ ليبدأ التَرويج إلى طريقةِ فنيةِ سوفيتية رسميةِ . وبالفعل انتهى التنوع فى الفن عام 1932 ، عندما تولى (ستالين) الحكم . و دعم قوّته بشعار ( كلّ شخص يشارك فى بناء الاشتراكية فى بلاد موحدة ) فذوّب كلّ التجمّعات الفنية ، وفرض اتحادات موحدة فى عموم البلاد لها الولاية على كل من الكتّــاب ، و الفنانين . وألغيتْ كُلّ المجموعات الفنية بمرسومِ حكومى . وسيطرت الدولة بشكل كامل على الفن والفنانين . من خلال تأســــــيس ( اتحاد الفنانين ) لفرض رقابة أيديولوجيَة على الشكلِ والطريقةِ والمحتوى . هذا الاتحاد كان يمنح ويمنع المهام للفنانين ، والمكانة ، والإجازة للاعمال الفنية . كـــما نظّم كامل الحياةِ الفنيةِ فى الاتحاد السوفيتى . ونتيجة ذلك سادَ الفَنَّ الأكاديمى المُسَيَّسَ المعروف بالواقعيةِ الاشتراكية من الثلاثينيات إلى الخمسينيات. شكل (3) .
و فى عــام 1934، أعلنت الواقعية الاشتراكية أسلوباً رسمياً. حيث إنتهى الاجتماع الأول للكُتّابِ السوفيتِ إلى تأسيس مذهبِ الواقعيةِ الاشتــــــــــــراكية (وكان قابل للتطبيق فى كُلّ الفنون) . وأصبح تقدّيم صورَة للولايةِ السوفيتية الجديدةِ شيئاً مُقَدَّساً فى المذهبِ الرسمى للواقعيةِ الاشتراكية الذى أخضعَ الفن لطلباتِ الحزبِ والحتمية الاقتصادية للخططِ الخماسية .
وأزيلت فنون الطليعة الروسية ، والفنون الغربية من محتويات المتاحف للمساعدة على فرض عزلة ثقافية وفق التسييس الضيّق للفنّ . وبحلول عام 1937 إختفتْ عملياً أعمال الطليعةِ عنْ البصرِ، و مِنْ كامل التواريخِ السوفيتية لتلك الفترة. فالواقعيةِ الاشتراكية فَنَّ مشروط بالسياسةِ ، و الذوقِ العام الشائع المحافظ ، و ما يَتذُوقُه القادة والحكام ، و المكتب السياسى . وبالرغم من أنها حركة مثالية فى أفكــارها ، إلا أنها عارضتْ كُلّ المثاليات الأخرى ، و أرادَت تجميد النبوئيِة المستقبلية فى الفن مع تقديم عالمَ مثالى خيالى كحقيقة ثابتة للحاضر (8) .
3- النازية : سلطة موازية
على صعيد موازٍ حدث هذا تماماً فى ألمانيا تحت لواء النازية فى نفس العام عام 1937 حيث ذكر هتلر : " إن التكعيبىة والتعبيرية والتاثيرية كل هذه الفنون ليست لها علاقة ما بشعبنا الألمانى ... إن كل هذه التخيلات ليست قديمة ولا حديثة ولكنها ببساطة اللجلجة المفتعلة لإناس أنكر عليهم الرب بشاشة العبقرية الموهوبة فعوضها لهم بهدية من الانحراف والخداع " ، ثم أطلق هتلر على هذا الفن إسم " الفن المنحط " بعد أن أحرق فى فيينا صور كوكوشكا وجورج جروز ومؤلفات فرويد . ( 9) *****
فقد عمد النازيون ـ وقد كانوا من ألد أعداء التيار الحديث فى الفن ـ إلى تشويه دعوته بإجراء المقارنات الضافية بين الوجوه والأجساد فى لوحات المعاصرين وعلى الأخص فى لوحات التعبيريين الذين لقوا من النازية صنوف العذاب والتحقير ، وبين الصور المستخرجة من سجلات المرضى والمصحات المختلفة . وبذلك قدم النازيون بدورهم صورة من أشد صور ممارسة السلطة القسرية ضد الفن التى تكشف فى نفس الوقت عن مدى خشية السياسة من سلطة الفن فى حالة عدم إنضواء تلك السلطة تحت لواء إملاءات القوى السياسية .
وما يثير الحيرة ويؤكد أن القضية ليست فى الاتجاه الفنى ولكن فى مدى استجابته للانضواء تحت سلطة السياسة أنه "عندما احتل النازيون النرويج حاول رجال هتلر دعوة إدوارد مونش للتكريم وعرضوا عليه أن يصبح واجهة ثقافية لبلاده تحت علم النازى وعندما لم يتجاوب معهم صادروا بعدها بثلاث سنوات فى ألمانيا 82 عملاً من أعماله الفنية بالمتاحف ، والمجموعات القومية باعتبارها فناً منحطاً يروج للفساد" (10) .
وعلى صعيد أخر مواز زمنياً تواجدت السيريالية التى كانت من أشد الاتجاهات الفنية إزعاجاً للسلطة السياسية حيث كانت تتحد مع كل مبدأ ثورى فقد أصدر السيرياليون الفرنسيون بياناً مشتركاً مع جماعة كلارتى الشيوعية ضد الاستعمار الفرنسى للمغرب ، وأقاموا عام 1931معرضاً لشعوب المستعمرات الفرنسية بعنوان " الحقيقة حول المستعمرات " رداً على معرض سابق أقيم فى نفس العام عرض المواد المنهوبة من الشعوب المستعمرة بغرض تمجيد سلطة الإستعمار . وتحالف أندريه بريتون منظر السيريالية مع ليون تروتسكى أحد زعماء الثورة الشيوعية فى روسيا وألتقيا فكرياً فى مبدأ الحفاظ على حرية الإبداع بعيداً عن سلطة الدعاية السياسية ، وجمعا أفكارهما المشتركة فى بيان " نحو فن ثورى" ويقول أحد مقاطعه التى صاغها تروتسكى " إن الفاشية الهتلرية ، بعد أن صفت فى ألمانيا كل الفنانين الذين عبروا عن حب الحرية ، ألزمت أولئك الذين كانوا بوسعهم أن يوافقوا على الإمساك بقلم أو ريشة بأن يجعلوا أنفسهم خدم النظام ويحتفلوا به حسب الأوامر " يهم على وجه الخصوص فيما يتعلق بالإبداع الفنى ، أن يتحرر الخيال من كل إكراه، ألا يخضع مطلقاً وبأى ذريعة من الذرائع لقيد يكبل به ... إذا كان على الثورة أن ترسى ، من أجل تنمية قوى الإنتاج المادية ، نظاماً اشتراكياً قائماً على التخطيط المركزى فإن عليها فيما يتعلق بالخلق الفنى أن ترسى منذ البدء وتضمن نظاماً فوضوياً من الحرية الفردية . لاأدنى إكراه . لاأدنى أثر للقيادة " (11) ـ وبالطبع فقد تم نفى تروتسكى و أفكاره المثالية فيما يتعلق بالحرية الفنية أجهضت ولم تدخل حيز التنفيذ فى بلاده نظراً لما آلت إليه أحوال النظام الروسى .
هزيمة السلطة السياسية لفن الطليعة
بالعودة مرة أخرى لتجربة الفن الروسى نجد أنه نتيجة لهذا الاندفاع نحو الواقعيةِ والرغبة فى التوصل إلى هدّفَ محدد للفَنّ ، بَدأَ فَنُّ الطليعةِ بالاختفاء . كما تَركَ فنانوا الطليعةَ فن التصوير بشكل تدريجى ، لشَعورهم أنه أصبح أكثر عمومية .
مثال على هذا: (ماليفتش) - النصيرَ البارزَ للفَنِّ التجريدى فى وقت الثورةِ ، وبعد أعمال التفوقية ( السوبارماتيزم) ( المربع الأسود - أبيض على الأبيض ، شكل 4) بعشَر سنوات، عادَ إلى أسلوب أكثر واقعية ويتسق مع مبادىء الثورة شكل (5) .
وكَتبَ فى عام 1932: " ثورة العمال فى المقدمة. . المهمّة الرئيسة للمصور السوفيتى سَتَكُونُ خَلْق لوحات فنيةِ عظيمةِ." وقال أيضاً "في العشرينيات ، بدأ العديد مِنْ فنانى الطليعةِ الروسِ الانتقال التدريجى إلى التصويرِ التصورى عنْ الناسِ قبل كل شئ ، اُشتَياَقاً إلى الرجالِ الجدّدِ.وهذا تَضمّنَ الانتقال مِنْ تجريدِ الطليعةِ إلى التشخيص والشخصية الفوتوغرافية ، والواقعية الاشتراكية "
وبناء على ذلك توجّه العديد من الفنانين إلى مجالات أخرى مثل َ: التصميمات ، و الفنون التطبيقية ، والملصقات السياسية ، و الهندسة المعمارية . لكن الفنانين الذين لَمْ يُستَوعبوا هذا التغير استبعدوا ، أَو هاجرَوا مِنْ الاتحاد السوفيتى ، مثل (كاندنسكي) الذى شَعرَ بأنّ إبداعه لَن يَنَمُو فى السياقِ الاجتماعى و السياسيِ الجديد ، لذا غادرَ إلى برلين . و حَدثَ مصـــيرُ مماثل (لشاجال) ، و(جابو) ،و(بيفسنير) .
وتبعاً َللمذهبُ الاشتراكى عادت كُلّ السلع المادية ووسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع ، متضـــمنة الأعمـــال الفنــــيةِ ، ووسائلِ إنتاجها . وأصبح الفَنِّ أولاً وقبل كل شئ أداة دعائيةِ ، وتم عرضِ معظم الناتجِ فى البناياتِ العامّةِ . وكان يتم تقُديّر مكانة الفنانين طبقاً لأهمية الموقعِ الذى تعُرِض فيه أعمالهم. وهكذا ، أصبح "أفضل" الفنانين هو الذى أختيرت لوحاته للعرضِ فى الوزاراتِ الحكوميةِ الهامة أَو المعارضِ الكبرى .
وبعد وفاة (ستالين) فى عام 1953 بفترة قصيرة أصبح واضحاً للجميع أن الواقعيةِ الاشتراكية فَقدتْ حيويتَها . وفى اجتماع الحزبِ عام 1952 ، علق (سوسلوف) قائلا "بأنّ الفَنِّ السوفيتى أصبح حلوى فارغةَ ...، و الفنانين ، اتبعوا النظريةَ الرسميةَ بشكل مرتعد وهذا أدّى إلى الركـــــودِ " .
وفى السياقِ التاريخى ، كان اتجاه الفَنّ السوفيتى بشكل عامّ يَظْهرُ كالبديل المحتمل الوحيد . نظرا ؛ لأن البلاد كَانتْ فى حالة حرب سياسياً ، مع العالم بأكملهِ. وأصبح أى شكل للتجريبِ مرفوض . والتعددية فى تفسيرِ الفَنِّ مرفوضة. الواضح والمفهوم كَانت البدائلَ المقبولة الوحيدةَ . فاللوحات التذكارية ، صـُنِعـَتْ طبقاً لكُلّ القواعدِ المطلوبة . واسم اللوحات كان لابد أن يشرحها ويتممها. مثل هذه اللوحات أُنتجتْ وأُعيد إنتاجها بكمياتِ جماعيةِ. وكَانَ الهدف من نْشرَها على مدى واسع وواضح ، وليكون أسهل على الناسِ تصديقها .
بذلك يكون الفن الروسى قد قدم لنا حالة تاريخية خاصة من سطو السلطة السياسية على الفن ولكن علينا أن نتابع التأمل فالحتمية التاريخية تقودنا سريعاً إلى شاطىء أخر مواجه ومناقض تماماً فى فكره لكنه متفق مع التجربة الروسية فى إيمانه بسلطة الفن والسعى لامتلاكه كأداة للهيمنة السياسية :
سلطة الفن فى عصر العولمة
بدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى سنة 1947 حيث أخذ كل من المعسكرين يطارد الآخر فى العالم الثالث حيث الإنقلابات والحروب الإقليمية، وفى أروقة الأمم المتحدة حيث يعمل كل منهما على تعطيل مشروعات الآخر بإستخدام حق الفيتو.
على أن الحكومة الأمريكية وجدت أن هذا لا يكفى لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية، ومن هنا إتجهت السياسة الأمريكية إلى تصويب ضرباتها على جبهة الثقافة العريضة بما تشمله من أفكار وفنون وآداب وعلوم وكل ما يتعلق بالكلمة المقروئة والمسموعة و المرئية لإيمانها بلاشك بقدرة السلطة الثقافية على تغيير وعى الشعوب .
فأخذت الحكومة الأمريكية تعمل بذكاء على تغيير تحتى لمعالم السلطة الرمزية اللامرئية واستغلال دوره هذه السلطة فى تثبيت الواقع وقبوله كشكل سائد لابديل له فى وعى البشر ، مما يسمح لها باستخدامها كأداة لإدارة مصالحها وتأكيد سيادتها . وبالطبع ساعدها تفوقها التكنولوجية وإمتلاكها لوسائل الإتصال الحديثة فيما بعد فى تحقيق هذا الدورـ فى محاولة متواصلة لتغيير أذهان الشعوب وتشجيعها على كراهية النموذج الشيوعى بتقديم النموذج الرأسمالى الأمريكى ثقافياً، والعمل على إستزراعه فى مختلف البيئات وذلك عن طريق جهاز المخابرات المعروف إصطلاحاً بالـ C.I.A ليتولى الجانب الثقافى فى الحرب الباردة وكانت من أهم أعمال هذا الجهاز تكوين واجهة ثقافية تمهد الطريق أمام المصالح الأمريكية فى الخارج. وذلك من خلال برنامج سرى مع الحرص الشديد على أن يبدو وكأن لا وجود له.
وبدأ الأمريكيون فى إفتتاح المراكز الثقافية فى مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الأمريكية، ومن خلال ذلك إستطاعت أمريكا أن تعيد بناء البنية الثقافية فى العالم بما يؤدى إلى كراهية الشيوعية والسعى وراء النموذج الأمريكى. وهذا يؤكد أهمية الثقافة فى التأثير على الوعى حيث يتم من خلالها تدريجياً التخلى عن نمط قديم وإكتساب نمط آخر. لذلك عندما سقط حكم الشيوعية فى الإتحاد السوفيتى لم يجد هذا السقوط مقاومة من الجماهير التى كانت تتشرب على مدى أكثر من أربعين عاماً وبالتدريج الثقافة الأمريكية . (12)
وبالتالى إستطاعت أمريكا من خلال تغييرها معالم السلطة الرمزية ـ التى يشكل الفن أحد أركانها الهامة ـ أن تهيىء الجميع لقيادتها للعالم ، وأن تكرس الفن كسلطة رمزية لتقديم أيديولوجية مضادة للشيوعية : أيديولوجيه الحرية الأمريكية، فكيف يمكن أن تكون قوة عظمى دون فن ملائم، من هنا تبنت صفوة أمريكا الثقافية (التعبيرية التجريدية) حيث مثلت فى رأيهم تعبير عن هذه الأيديولوجية و لأنها لم تكن تصور أشخاصاً أو أشكالاً، و لأنها كانت صامتة سياسياً، فإن التعبيرية التجريدية كانت المعادل التشكيلى الأنسب لهذه المرحلة ، فقد كان ينظر للحداثة الأوروبية وللفن الحديث على أنه كله شيوعى، وعلى ذلك فسرت السلطة الأمريكية جميع المدارس من التكعيبية حتى السيريالية بأنها تسعى إلى التخريب، ونظرت للحداثة الأوروبية على أنها جزء من مؤامرة عالمية لإضعاف قوة أمريكا .
من هنا تحملت التعبيرية التجريدية الدور السياسى لها وإقتحمت بها أمريكا المشهد الفنى الحداثى1946 نتيجة ترُويجَ الفَنِّ التجريدى أثناء الحرب الباردةِ فى الخمسينيات ، باعتباره ممثلَ الثقافاتِ 'الحرة' للديمقراطياتِ الغربيةِ فى مقابل ديكتاتورية الواقعيةِ الاشتراكية . حيث ربطوا بينها وبين الحرية التى يدعيها النظام الأمريكى اعتبرت الحرية شرطاً للإبداع وربطت هذه الحرية بالمفهوم السياسي للديمقراطية .
ففى عام 1939 بمناسبة افتتاح المبنى الجديد لمتحف الفن الحديث قال الرئيس الأمريكى الراحل " روزفلت" : " لايمكن للفن أن ينمو إلا متى كان الناس أحرار كى يعبروا عن ذواتهم ، وأن يتولوا بأنفسهم تنظيم طاقاتهم وإطلاق العنان لصلاحيتهم . إن شرط وجود الديمقراطية هو ذاته شرط وجود الفن . وما نسميه حرية سياسية يفضى إلى الحرية فى الفن . فإن استحال المجتمع إلى نمط لاحيدة فيه ، وإلى كتيبة تنصاع لأوامر صارمة ـ إشارة نقدية وتلميحية واضحة للنظام الشيوعى ـ أى إلى حياة يستبد بها الروتين أضحى من المتعذر على الفن والفنانين البقاء . إسحق الشخصية المتفردة فى المجتمع تسحق الفن بدوره . شجع أوضاع الحياة الحرة ، تشجع الفن بدوره " . (13)
ومن أمريكا إنطلقت معظم الإتجاهات الفنية المؤثرة فى الفن المعاصر واتخذت الفنون أحد وسائل تدعيم سلطتها الثقافية على العالم ، وأصبح هناك انصياعاً عالمياً لسلطة الصورة التى يبثها (الإنترنت) طوال الوقت والتى مارست حضورها الفعال وأصبحت من مصادر التجربة الإبداعية للفنان فى إتجاهه الفنى وصوره وأشكاله وقضاياه وموضوعاته. وشهدت الستينات تحولاً مركزياً فى العواصم الثقافية فلم تعد باريس واجهة العالم بل نيويورك وواشنطن من أهم المراكز الثقافية والتجارية للفن ، وبإنتهاء الحرب الباردة لصالح أمريكا أصبح الفن متأثراً بالهيمنة المبنية على نزعة أيديولوجية تأصيلية للثقافة الأمريكية .
مشكورة د.أمل
ردحذف