تنوّع العراق الثقافيّ بداهة تستحق انتباهاً حاذقاً / شاكر لعيبي
تنوّع العراق الثقافيّ بداهة تستحق انتباهاً حاذقاً
|
|
بتاريخ : السبت 15-09-2012 |
|
شاكر لعيبي
موضوعياً، يؤدي إغلاق
الفضاءات الترفيهية، للمسيحيين والمسلمين على حد سواء، إلى تقليص التنوّع
الثقافيّ واختصار حيوية الاختلاف التي تميّز البلد. بلدٌ ظلت القاعدة فيه،
في أشدّ الأوقات إظلاماً، تقوم على أساس دينيّ وسوسيولوجيّ وشعبيّ ثابت:
"لكم دينكم ولي ديني" حتى بالنسبة لأبناء المذهب الواحد نفسه.
بلغ التنوع الثقافيّ في العراق حدّ التعايش النادر والتسامح بل اندغام
عناصر بعض المعتقدات لدى الطوائف كلها. فإن مدينة مثل البصرة ظلت، طيلة
قرون، فضاءً لتعايش المسلمين والصابئة والمسيحيين والأرمن والهنود والعجم،
وكل من وقع على أرضها عبر البحر أو التجارة. اليوم يتعرّف بعضنا على حقيقة
وجود كنيستين في قلب مدينة العمارة الراسخة في المخيال المدينيّ العراقيّ
دليلاً على الصورة السلبية للريف الزراعيّ العصيّ على التنوّع والاختلاف.
الأولى كنيسة أم الأحزان الكلدانية التي يرجع تاريخ بنائها إلى عام 1880،
والثانية كنيسة مار يوسف البتول للسريان الكاثوليك التي يعود تاريخ بنائها
إلى عام 1940. وهذان تاريخان يحملان دلالة: إنهما أقيمتا في وقت متأخر لم
تكن المدينة فيه في أحسن حالاتها، لكنها قبلتْ رغم ذلك واحترمت المُختلِف.
في البصرة والعمارة والناصرية والفرات الأوسط (ولا نتحدث عن كركوك شمالاً)
كانت شعائر الصابئيّ والمسيحيّ واليهوديّ، مقبولة إلى حد كبير في الضمير
الشعبيّ، ولم تكن تتعرّض للقمع، بما في ذلك مأكولاته، ولم يقع الاعتراض،
إلا من بعيد، على مشروباته الروحية. لأن هذه الأخيرة هي علامة من علامات
التنوّع التاريخيّ للبلد شئنا أم أبينا، وتمتدّ إلى العصور البابلية التي
اكتشفت أكثر من 11 نوعاً من الجعة، مروراً بإباحة النبيذ الأحمر من قبل
قاضي القضاة أبي يوسف في العصر العباسيّ، الإسلاميّ. يومها انتشرت الحانات
على نطاق واسع، ووقعت مسامحتها عُرْفاً من طرف الطوائف والمذاهب كلها،
بناءً على القاعدة الخلاقة المذكورة أعلاه. ولولا إننا سنُحاجَج على أساس
أننا ندافع عن الخمرة ونروّج "للحرام"، وهي ليست نيتنا ولا شأننا هنا،
لقدّمنا مَسْرَداً لتاريخها في أدب العراق، لدى شعراء العراق عامةً، ثم
خاصة لدى شعراء الشيعة الكبار: الحبوبيّ (أيها الساقي) والجواهريّ (خلّ
النديم) ومصطفى جمال الدين قليلاً وغيرهم. نيتنا الصافية تقع في التذكير
ببداهتين، الأولى: إن تاريخ العراق القديم والحديث تميّز بالتعايش
والتسامح، بما في ذلك بشأن المشروبات الروحية التي كانت تُصْنع وتُشرب في
أماكن، هي اليوم قرب أو في قلب بعض مدننا التي نعتز بها أيّما اعتزاز. هذه
المدن لم تكن على الدوام كما نعرفها اللحظة، فقد كانت آرامية مسيحية يوماً،
وظلت بعض الفضاءات القريبة منها، وقتاً طويلاً حتى بعد انتشار ديننا
الإسلاميّ الحنيف، مرتعاً ترفيهاً معروفاً للجميع. على مسافة 70 كم من
كربلاء هناك كنيسة القصَير (أو الأقيصر تصغير لكلمة القصر) التي تضم كتابات
آرامية تعود إلى القرن الخامس الميلاديّ، أي قبل ظهور الإسلام. أما في
النجف فتوجد آثار ثلاث وثلاثين كنيسة ودير، وبعضها شهير عبر المصادر
التاريخية، آخرها الدير الذي أعلنت دائرة آثار النجف عام 2009 عن اكتشافه
في مطارها الدوليّ، والعثور فيه على صلبان وقطعة من الحجر منقوش عليها اسم
صاحب الدير: عبد المسيح.
كان الكثير من شعراء العصر العباسيّ يحتسون المشروبات الروحية في بعض هذه الأماكن، ويكفي العودة إلى "أغاني" الأصفهاني أو كتب القاضي التنوخي الراسخ في تشيّعه، للتأكد من شيوع ذلك عملياً. اشتهر سكان النجف وكربلاء بكرمهم وأريحيتهم وتنوّع مشاربهم وتديُّنهم القائم على المحبة والاجتهاد والكلمة الحسنة، وليس على القمع، ولا الانقضاض على الخصم مهما كانت درجة ابتعاده عما يؤمنون به. وهي سمة تسِمُ من جهة أخرى جميع سكان العراق حتى أعرابه وبدوه، بدرجاتٍ متفاوتة.
البداهة الثانية هي أن منعاً من هذا القبيل يتنافى بالمطلق والدستور العراقيّ الذي لا توجد به فقرة بهذا الشأن، كأن الدستور اعتبره شأناً شخصياً، وعلاقة خاصة بين الإنسان وخالقه. هذا الإغلاق غير دستوريّ، وعلى السيدين الفاضلين نوري المالكي وفاروق الأعرجيّ أخذ الدستور بالحسبان عند الإقدام على خطوة كالتي اتخذوها في الأيام الماضية. لندعْ ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
كان الكثير من شعراء العصر العباسيّ يحتسون المشروبات الروحية في بعض هذه الأماكن، ويكفي العودة إلى "أغاني" الأصفهاني أو كتب القاضي التنوخي الراسخ في تشيّعه، للتأكد من شيوع ذلك عملياً. اشتهر سكان النجف وكربلاء بكرمهم وأريحيتهم وتنوّع مشاربهم وتديُّنهم القائم على المحبة والاجتهاد والكلمة الحسنة، وليس على القمع، ولا الانقضاض على الخصم مهما كانت درجة ابتعاده عما يؤمنون به. وهي سمة تسِمُ من جهة أخرى جميع سكان العراق حتى أعرابه وبدوه، بدرجاتٍ متفاوتة.
البداهة الثانية هي أن منعاً من هذا القبيل يتنافى بالمطلق والدستور العراقيّ الذي لا توجد به فقرة بهذا الشأن، كأن الدستور اعتبره شأناً شخصياً، وعلاقة خاصة بين الإنسان وخالقه. هذا الإغلاق غير دستوريّ، وعلى السيدين الفاضلين نوري المالكي وفاروق الأعرجيّ أخذ الدستور بالحسبان عند الإقدام على خطوة كالتي اتخذوها في الأيام الماضية. لندعْ ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
http://www.almadapaper.net/news.php?action=view&id=72066
.
تعليقات
إرسال تعليق