العنقاء وطائر الفينيق أسطورة وحوار...لم يستطع العرب تحقيق وجودهم التاريخي سياسياً واجتماعياً ومعرفياً! 
«العالم العربي ظلّ ضيفاً ثقيلاً على التاريخ منذ زمن بعيد، ونسي الترياق السحري الذي

بإمكانه أن يبعثه من 

الرماد، كان الفشل سمتنا الأساسية في محاولاتنا دخول العصر الحديث وتحقيق التنمية

 الشاملة، وتدشين

 مدينة الإنسان على أنقاض مدينة اللاهوت والطائفة الغالبة، والحاكم بأمر الواحدية..».
كذلك يبدأ الكاتب العربي أحمد دلباني مجموعة كتاباته ومراجعاته على هامش الربيع العربي المعنون (قداس السقوط) والصادر عن دار التكوين بدمشق عام 2012، وبذلك يكون المؤلف والدار أقدما على عمل رائد وسابق في دراسة ما أطلق عليه الربيع العربي سواء وافق أحدنا على التسمية أم لم يوافق، وأظن أنها المرة الأولى التي يترافق فيها النص النقدي الفكري مع الحدث، وهذا أمر يستحق الوقوف عنده طويلاً..

إرهاصات ومقدمات
الكتاب معنون بالكتابات والمراجعات، وهذا العنوان الفرعي يؤسس لدور المثقف القارئ الحصيف لما يجري على أرض الواقع، وتقديم التحليل والإرهاصات العميقة والمؤثرة لما يمكن أن يحدث، والقراءات نشرت وألقيت ما بين عامي 2009 و2012 وفي تطوافتها هذه تعزز دور المثقف اجتماعياً، ولا تحصر دوره في الرفض أو التهليل لما يجري، وهذا لا يعني حياد الناقد، بل على العكس تماماً، يظهر انحيازه المطلق إلى جدلية الحراك التاريخي، وانحيازه المتألم لواقع عربي ينتمي إليه، يريده، لكنه يريده منطلقاً أكثر مستفيداً من الترياق السحري، ومن العصر الحديث ومكوناته، فالعالم العربي لم يدخل عصر الحداثة الفكرية، وبقي معانداً لها، ورافضاً الدخول بدافع سياسي، وآخر يعود إلى الموروث التاريخي المتمثل بالرؤى الدينية اللاهوتية الواسعة، والرؤى الطائفية والعشائرية الضيقة التي لا ينتمي إليها أحدنا على الأغلب، لكنه يفتح عينيه ليجد نفسه أسيراً ومقيداً ليعود أدراجه قروناً إلى الوراء رافضاً الخروج من الرماد الذي غطاه قروناً طويلة، ورافضاً أن يدشن نفسه إنساناً..
لقد أسرني هذا المفهوم المباشر لدلباني، وأعادني إلى كتب طبعناها وقرأناها من دون أن نستفيد منها أدنى استفادة، فقد كتب (غيرت هوفستيد) كتابه الرائد (الفروق الثقافية بين الأمم) وترجمه الصديق الباحث د. محمد مرعي مرعي، وطبع في تسعينيات القرن العشرين، ولكنه لم يحرك فينا أي باعث لنهضة الأمة! وفي هذا البحث الميداني الإحصائي يتحدث هوفستيد عن الروح الجمعية والروح الفردية، ليصل إلى أن الروح الجمعية، مع إيجابياتها تكون اتكالية، وعشائرية، وظالمة، وفي عرضه يمثل العرب أعلى سلّم الطبيعة الجمعية، حيث يضيع الأفراد المميزون لمصلحة الجمعية (وما أنا إلا من غزية) وهذه الروح يمكن أن تقتل التميز الفردي، وتلغي المبادرات ما دامت منصهرة في البؤرة الاجتماعية التي ستعود بالتالي عليها وترفضها إن لم تناسب الإطار العام للجماعة.. كما مثّل العرب أدنى سلم الإبداع الفردي، بل في بعض الإحصاءات لم يتمكن العرب من دخول التصنيف والجداول، لأنهم وببساطة شديدة لم يتمكنوا من الروح الجمعية الإيجابية، الحامل الأساسي لرقي المجتمع، ولم يتمكنوا كذلك من تعزيز المبادرات الفردية التي يمكن أن تشكل حافزاً فيزداد أعداد المتميزين!! لذا قتل مجتمعنا روح المبادرة النهضوية التي تعاضد على إيجادها الرواد والإصلاحيون من مختلف المناطق والأديان والطوائف، وعادوا القهقرى إلى الولاء الضيق والسلبي.. وهذا ما لخصه وبحثه دلباني في مسألة الانتماء والنهضة بعبارة موجزة ومؤلمة..
«ها أنا اليوم أترنح على أرصفة البطالة الحضارية من جديد، وأدفع ثمن سحقي الإنسان باسم الأمة ووصايا العقائديات الحديثة، لم يعد لدي ما أقوله في عالم يفضحني، يوماً بعد يوم، ويكشف عن فشلي الكبير في احتضان وجيب العصر القائم على الأنسنة، وعلى القوة بوصفها بديلاً وجودياً للذات التي فقدت العلوّ، وأينما وليت وجهي في مفازة الحاضر السديمي المهزوم لا أجد ما أتفيأ ظلاله إلا الحنين الخائب إلى الأب الغائب، لا أجد ظلاً إلا لفح شجرة الأصولية الملعونة التي طلعت في أصل الجحيم».
لا أظن ألماً يوازي ما وصل إليه دلباني بين الواقع، وبين ما يرجوه، بين الروح التائقة إلى الانعتاق وولوج العصر بما فيه، وواقع الوصائية والأبوية التي لا تتركه لحظة من زمن وما أحصاه وجدوله هوفستيد عرضه دلباني بحذق عن سحق الفردية التي عبر عنها بالإنسانية لمصلحة ماذا؟ ليس لمصلحة الجمعية فقط، فقد ذهب المؤلف أبعد في النقد، لمصلحة أمة أكثر من جمعية، ولمصلحة وصايا ومعتقدات قديمة وحديثة، فالإيديولوجيات الحديثة لم تكن أرحم من الوصايا القديمة، ولم تكن أرحم في وصائيتها وأبويتها وفرضها على الفرد الإنسان! وهذا استدعى على الصعيد الفردي كفراً أو نكوصاً، وعلى الصعيد المجتمعي خيبة وفشلاً..

الطريق إلى الخيبة
أي نجاح لا يولد من الفراغ، وأي فشل وخيبة لا يأتيان من رحم الواقع، ولكن لابد من سلوك طريق موصل إلى النتيجة المرجوة أو التي نخشاها، وتكمن أهمية أبحاث دلباني في أنها تنتهج نهجاً علمياً نقدياً، قبل الربيع وأثناء وجود الحراك، وهذا النهج أثبت فاعليته وضرورته، وأزعم أن قيمة الكتاب ومراجعاته تكمن في حدوث الربيع والتغيير، وإلا وصفت هذه الدراسات بالتجديف والرجم بالغيب الذي ترفضه الوصايا القديمة، وتأباه الإيديولوجيات الحديثة، وكل منهما يفترض الخضوع والحياة اليومية.. يقسم موضوعات كتابه إلى قسمين، وهي في الحقيقة عصية على التقسيم، لكن المؤلف ارتأى ذلك، فكانا قداس السقوط ونسق المغلق، وربما كان المسوغ لهذا التقسيم أن الأول يتابع قصة السقوط، ويتحدث عن موجعاتها وأسبابها وما يترتب عنها من نتائج جيدة أو كارثية.. وفي أبحاثه الأولى يتناول المؤلف الفكرة الجمعية الإيجابية مقابل الفردية أو الفردانية على المستوى السياسي، وليس على مستوى المجتمع والاتكالية، ليتبين لنا أن هذه الروح الجماعية ستؤدي حتماً إلى ما وصلت إليه الأمور، ويستهدي المؤلف بالتجربة الغربية النهضوية لصناعة مجتمع يتجاوز واقعه، ولكن من دون أن يقف من التجربة الغربية موقف المؤله لها. ويستخلص رحلة العربي ببراعة وانعتاق من أي مؤثر: «من التخوين إلى التكفير: هذا هو حصاد العقل العربي النقدي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، هذا هو حصاد الثقافة العربية الطليعية في الدولة الوطنية التي مارست الوصاية واعتقدت أنها تحمي قلعة الحقيقة المطلقة من مناوشات صعاليك الفكر، وتحمي نعاس جواد المدينة النبيل من لسعات ذبابة الفكر المشاكسة.. من تخوين الإيديولوجيات إلى تكفير الدولة الباحثة عن شرعية يائسة في عهد انتعاش الأصوليات..». المعضلة الأساسية كما يراها دلباني هي في التخوين من العقائد الوضعية والإيديولوجية، والتكفير من العقائد الدينية التي تسود المنطقة، وكلا الطرفين الأيديولوجي والديني يعمل على روح وصائية ممعنة وقاتلة لصعاليك الفكر الذين كان من الممكن أن يكونوا حاملين لانطلاقة الدولة الحديثة.

قراءات سابقة
يقف المؤلف وقبل أن تشيع روح الفوضى الخلاقة في الأرض العربية إلى قراءات مهمة سابقة لم يقف عندها المعنيون العرب، فقد عمل المثقفون المنطلقون على إيقاظ الهمم والتنبيه إلى المخاطر، لكن أحداً لم يتنبه، فتحول من لا يملك القدرة إلى داع للحرية وطالب لتطبيقها، وبما أن البحث فكري تحليلي للخطاب الإيديولوجي لم يقف المؤلف إلا عند التجارب الفكرية، وقد لا أكون مغالياً إن قلت: إن مثقفي وأدباء العربية هم أكثر أهل الأرض صراخاً وبحثاً عن الأفضل، لكن الفصل التام بين ما هو ثقافي وما هو سياسي أدى إلى قطيعة مطلقة، وإلى الوصول إلى حالة اللاجدوى.
إن الواقع المتردي جعل نزاراً يقول: بلاد كانت تسمى مجازاً بلاد العرب/ تلفتي تجدينا في مباذلنا/ واحد ببحار النفط مغتسل/ للغنى والغواني كل ما وهبا/ المهرولون..
وطبيعة البحث لم تدخل المؤلف في استقصاء النص الأدبي، والدوافع التي جعلت شاعراً بمستوى نزار يقف هذا الموقف الاستشرافي الذي نترحم عليه، ونحن نرى الأمة تمر بأسوأ مراحلها «ما نمط الشرعية السائد في عالمنا العربي؟ هل تغير في العمق منذ أسسنا وجودنا على ملاحم أمة واحدة، ومنذ شرعنا نكتب تاريخنا انطلاقاً من اللحظات التدشينية الكبرى؟».
ويتابع تشخيصه في موضع آخر: «إن مجتمعنا تسود فيه بنية العلاقات التقليدية وغياب الحرية والذاتية الفردية، ولا يعرف العلاقات الديمقراطية، وإنما علاقات الإخضاع الهرمية في كل مناحي الحياة، ولم تتح له أو يجتاز المسافة الحضارية الضرورية من أجل ترسيخ قيم الحداثة، وإنما عرف تحديثاً شكلياً لم يكن إلا صورة تفتقر إلى المعنى وإلى المضمون الثقافي والإنساني!».
هذه الرؤية العميقة للمشكلة تعطي الباحث وأبحاثه مكانة لائقة، إذ لم يتوقف عند الظاهر السياسي، وإنما تعمق في الرؤية المجتمعية التي تعني التقدم من عدمه، عبر سياسة الإخضاع الهرمية، هذه الرؤية التي تتساوق مع دراسة مصطفى حجازي (سيكولوجيا الإنسان المقهور) هذا المجتمع المقهور من أعلاه إلى أدناه هو الذي دفع إنساننا العربي دفعاً عن الحداثة، وجعله على هامشها وسطحها.
وفي نسق المغلق يستعين الكاتب بتحليل آراء عدد من الكتاب الذين قرؤوا فأحسنوا القراءة، لكن البون الحداثي بين المرسل والمتلقي وقف حائلاً عن الاستفادة من هذه الرؤى المتقدمة، «إن تأملات أدونيس في السنوات الأخيرة قادته إلى نوع من التشاؤم البصير في هذا الشأن، إننا نراه يتحدث ويكتب عن انقراض العرب وموتهم.. إذ انطلاقاً من التجربة الحضارية للعرب في القرن الأخير، وانطلاقاً من التحديات التي واجهتهم، وكان عليهم تخطيها لولوج العالم المعاصر.. لم يقدم العرب شيئاً للعالم، ولم يستطيعوا إحداث النقلة النوعية في وجودهم التاريخي سياسياً واجتماعياً ومعرفياً بالأخص، وإنما أعادوا إنتاج الزمن القديم في حلة جديدة ذات صبغة استهلاكية على نطاق واسع، لا ديمقراطية ولا حرية ولا حقوق للكائن البشري، لا تنمية ولا عدالة ولا مساواة، لا إبداع ولا إعادة نظر في الموروث الديني تفتحه على أسئلة الراهن، وإنما اجترار للماضي بما يخدم لحظة الانهيار والخواء، ويسند الاستبداد السياسي».
هل نتذكر إعلان أدونيس عن موت العرب؟!
هل نتذكر الهجمات الشعواء عليه من أنصاف وأرباع الكتبة؟!
هل نتذكر قصيدة نزار (متى يعلنون وفاة العرب)؟
هل نتذكر كيف قوبلت بسيل من النقد لم يتوقف؟
الجميع هاجم نزاراً، وبعد ذلك هاجم أدونيس لإعلانه هذا، ووصفا بأبشع الأوصاف، ولم يدخل أحد المنتقدين إلى عمق النص والفكرة! ولم يفهم أحدهم مقدار الحب الذي يكنه هذان العلمان للعرب والعربية!
قوبلا على أنهما مارقان رافضان، ولم يقابلا على أنهما يقرعان جرس الإنذار للمرحلة القادمة التي وصلنا إليها بعد عقدين أو أكثر أو أقل.. ترى لو كان المثقف بوصلة حقيقية هل وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟!
ويعرج المؤلف في وقفات ذات قيمة على محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد مستلهماً رؤاهما ومكانتهما التي لم يتم الالتفات إليها فنصر حامد أبو زيد «يمثل ينبوعاً ثراً للنبذ والتكفير والاستبعاد من دائرة الخلاص الديني والدنيوي معاً..».
ووقف عند رؤية الجابري الخاصة من قراءة التراث الكلامي الإسلامي «كان بحثهم عن المعنى جهاداً مضنياً ومستمراً ضد التأويل، أي تأويل النص الديني، الذي تفرضه السلطة الإيديولوجية للدولة».
وكذلك أخذ اللبناني علي حرب حيزاً بآرائه في هذا البحث في دعوته إلى المثقف في «خروج الفكر العربي الطليعي من شرنقة التمذهب إلى آفاق التفكيك الذي يفضح إرادة التعسف ويكشف النقاب عن جرثومة الاستبداد في نظام الحقيقة الإيديولوجية الذي يقف مع الأصوليات التقليدية الدوغماتية على الأرض نفسها..».
سواء قام بعرض رؤاه، أو حلل رؤى المثقفين الآخرين فإن أحمد دلباني في قراءاته هذه كان منحازاً إلى الحداثة الحقة، وإلى الإنسان والمجتمع، وضرورة تحرير هذا المجتمع من الوصائية والإخضاع.. وكنت قبل قراءة هذا الكتاب أظن أنه متابعة لما يجري على الأرض، وأنا لست ممن يؤمنون بالكتابة الحارة أثناء الحدث، لكن الكتاب والكاتب معاً خيبا ظني فخرجت ممتناً لهذا التحليل الذي وضع أمامي خريطة فكرية لما يجري على الأرض العربية مع تحديد الأسباب بعمق وروية من دون شعاراتية أو انحياز.
كان المجتمع سبباً وغاية، وتراتبية السلطات وراء ما يجري، ولولا الفصل التام بين المثقف والسياسي لأمكن تجاوز العقبات من دون خسائر أو بأقل الخسائر إن لم نتفاءل، حدث ما حدث فهل ندخل قلب الحداثة أم نعود القهقرى لنعلن موت العرب ودفن أي أمل بدخولهم العصر الحديث جداً؟
هل نخسر مقاعدنا لنعود إلى الحصير والكتاتيب؟
قداس السقوط كتاب نقدي تحليلي عميق ومقارن بين الواقعين العربي والغربي، يحاول ترسم الخطا ورسم الخطوط، فيه الكثير من الألم والألق معاً، ويستحق أن يقرأ من المثقفين والساسة على السواء لتحديد أرضية مثقفة تساعد على انطلاقة جديد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.alwatan.sy/dindex.php?idn=129215

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح