وقفة في تيت غاليري... مع الفنان ضياء العزاوي
وقفة في تيت غاليري... مع الفنان ضياء العزاوي
الفنان التشكيلي ضياء العزاوي
تملكتني الدهشة أثناء زبارتي الأخيرة لمتحف "التيت غاليري مودرن" في لندن، وعندما شاهدت حشداً من الزائرين يقف أمام لوحة كبيرة للفنان ضياء العزاوي بعنوان "صبرا وشاتيلا" . وقد عجبت لوجود هذه اللوحة أصلا في المتحف الذي لم يسبق له ان عرض أي عمل من أعمال الفنانين العراقيين والعرب عموما، ناهيك عن وضع اللوحة ضمن معروضاته الدائمة. وأحسست بالفخر حقاً لاسيما انني أكن لهذا الفنان مشاعر المودة والاعجاب منذ ان بدأ مشواره الفني في العراق وعرفته حين كان يرتاد مرسم كلية الآداب والعلوم حيث عمل الفنان حافظ الدروبي ، وكذلك عندما عرضت لوحاته في معرضين أقيما بموسكو. فقد كانت للوحاته منذ البداية نكهة خاصة جمعت بين الاصالة الفنية الوطنية" الرافدينية" والتطلع الى منجزات الفنون العالمية.
لقد قال الفنان العراقي محمود صبري ذات مرة ان لوحات الفنان ضياء العزاوي تتحدث عن فنه، وليس اقواله او ما يكتبه عنه النقاد. وباعتقادي ان ما كتب
عن ضياء العزاوي من قبل الاعلاميين لا يكشف البتة جميع جوانب إبداعه وسياتي .
"صبرا وشاتيلا" بريشة الفنان ضياء العزاوي في "تيت غاليري" في لندن
ليوم الذي يتولى أحد النقاد والباحثين دراسة لوحاته دراسة جادة بعيدة عن الانطباعات الذاتية والمجاملات للفنان. كما ان احاديث ضياء العزاوي نفسه المنشورة في وسائل الاعلام تكشف فقط جانباً من شخصيته كأنسان وفنان.
لقد صدرت احكام كثيرة عن ابداع ضياء العزاوي. ففي عام 1982 وصفه الناقد الروسي بوغدانوف بأنه من اتباع "السوريالية" و" الفوفيزم"، وإن لوحته المعنونة " بعد المعركة" تظهر اكواماً من اجساد البشر والحيوانات المرسومة بشكل ردئ مما يصعب معرفة فكرة الفنان. وفيما بعد أسهب النقاد والاعلاميون في نسب العزاوي الى هذه المدرسة الفنية او تلك.
وفي الحقيقة فإن لمن الصعب القول ان الفنان ضياء العزاوي كان متأثراً لحد كبير بالمدارس الفنية في اوروبا حيث يعيش على مدى أكثر من ثلاثين عاما في الغربة القسرية. ان هذا الفنان هو نسيج بحد ذاته، بالرغم من انتمائه إلى العديد من الجماعات الفنية منها " الرؤية الجديدة" و"العددية"، ولو انه أخذ الكثير من تجارب الفنانين الرواد العراقيين المتأثرين بالفن العراقي القديم ورسوم الواسطي الى جانب تأثرهم بالانطباعية والتكعيبية والتجريدية وغيرها من المدارس الاوروبية والتي تعرفوا عليها خلال دراستهم في فرنسا وايطاليا وبريطانيا. لقد كانت بدايات ضياء العزاوي في العراق واقعية بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث تناول تصوير حياة ابناء الريف في لوحاته المطعمة بالزخارف الاسلامية والسجاجيد الشعبية، ثم انتقل منها الى تصوير الملاحم الدينية العراقية. وعندما استقر على اعتماد "التجريد" كأساس في اسلوبه الفني، بقيت التأثيرات السابقة واضحة في لوحاته خلال مختلف الفترات مع رفدها بالتقنيات الاوروبية. فلوحته عن مجزرة صبرا وشاتيلا في اثناء الاحتلال الاسرائيلي للبنان هي ليست شطحة من شطحات الخيال، بل هي انعكاس للواقع التأريخي في العالم العربي الذي يهتم به الفنان، وقام الفنان بدراسة وافية لكل مشهد تجسد في اللوحة.
ولابد من الاعتراف بأن العزاوي يبقى فنانا واقعيا مهما كانت وسائل التعبير الفني التي يستخدمها. ولهذا فإنه يعيدنا لدى تصوير الاجساد الممزقة والدمار وأثار القسوة ضد البشر العزل في لوحته "صبرا وشاتيلا" إلى مسألة علاقة الفن بالواقع. وهي مسألة شغلت جميع فلاسفة اليونان، وإلى التأمل الذي هو أساس المعرفة والقيمة الجمالية في الفن. لكن يبقى هذا الفنان محتفظاً بعراقيته وبتأثره بالطبيعة في وطنه التي تجدها في ألوان لوحاته ومواضيعها المستقاة من الفولكلور العراقي وأساطير سومر وبابل. ويجد المشاهد فيها انعكاساً لبساتين النخيل ونهر دجلة عند الاصيل وبيوت الفلاحين والحقول حيث ترعى فيها الحيوانات وتنبش الطيور الارض وزينة الفلاحات وملابسهن الزاهية الالوان وشناشيل بغداد. إن كل هذا يجعل من ضياء العزاوي فنانا تبقى جذوره راسخة في العراق بالرغم من انه أخذ الكثير من الفنانين العالميين في القرن العشرين. ولكن لكل مرحلة في حياة أية فنان مهامها الجمالية والاجتماعية. ولابد للفنان في زماننا من تجاوز مرحلة تقليد مظاهر الطبيعة الى محاولة التوغل في أعماقها وتجسيد دخائل النفس البشرية. وهذا ما نراه في غالبية أعمال العزاوي من لوحات وتماثيل و"دفاتر"خلال العقدين الاخيرين.
ان ضياء العزاوي يؤكد في جميع اعماله الابداعية إن الفن ليس في مأزق اليوم، بل يمضي في طريقه المرسوم في مسيرة الحضارة. ولكن على الفنان أن يبحث بإستمرار عن اشكال ووسائل تعبير جديدة. ولهذا نجد أن العزاوي لا يقف عند مرحلة معينة، بل يتجاوزها الى مرحلة أخرى حتى باستخدام الشبكات الحريرية والمجسمات المضافة الى لوحاته وكذلك ما سمي ب" الحروفية"، أي استخدام الحرف العربي في رسم اللوحات. كما انجز "دفاتر الفنان" بإصدار كتب بنسخة واحدة مزينة بالصور بدأها بمقامات الحريري وبدواوين الشعراء المعروفين، ونهم شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري.كما مارس نفسه النحت. ونجده في مرسمه في ضواحي لندن في حركة دائمة متنقلا في دروب الفن والادب والشعر والفكر. فهذة شيمة من شيم الكثير من الفنانين في العالم. إن بيكاسو مثلا، انتقل من الاسلوب الاكاديمي الى الفترة الوردية ثم الزرقاء والى الفترة الزنجية ثم التكعيبية، وبعد ذلك تحول الى نوع من التجريد المتميز به. وفي العراق مر جميع الفنانين الرواد مثل فائق حسن وجواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وحافظ الدروبي واسماعيل الشيخلي وغيرهم بمراحل عديدة . كما ان ضياء العزاوي لا يقف بعيداً عن الاحداث الجارية في المنطقة العربية. فيتأثر بمآسيها، وتجد بين مواضيع لوحاته مأساة تل الزعتر (1979) وصبرا وشاتيلا (1980) والروح الجريحة (2010) ومدينتي المحاصرة(2011). وبهذا سار كفنان وطني ملتزم في نفس الدرب الذي سلكه من قبل غيره من الفنانين الرواد العراقيين. لكن ضياء العزاوي يواصل البحث فهو فنان باحث على الدوام.
ان اقامة معارض لوحات ضياء العزاوي في خارج وطنه ، حرمت عشاق الفن في العراق من التطلع إلى غالبية أعماله، ويعتبر ذلك بحد ذاته مأساة أليمة. فالفنان يمكن ان يعيش ويبدع خارج وطنه، ولكن تبقى وشائح متينة تربطه بمنابته وبالاجواء التي نشأ فيها. وقد اضطر ضياء العزاوي الى ممارسة نشاطه الفني في بيروت والكويت والدوحة وعمان ودبي والعواصم الاوروبية دون ان تتاح له الفرصة لعرض حتى لوحته الآنفة الذكر في بغداد. ان عراق ما بعد الاحتلال قد غرق في مستنقع الطائفية والعشائرية والفساد، حيث تبتعد الجهات المسؤولة الثقافة عن اولويات مهامها الحالية، وباتت مشغولة بالصراعات الداخلية وكسب المال بأية وسيلة "بالحلال او الحرام" كما تذكر ذلك وسائل الاعلام ، ناهيك عن اعتبار الفن نفسه من الموبقات والمحرمات الواجب حظرها. علما ان العراق كان في الخمسينيات والستينيات قد سبق الكثير من الاقطار العربية في تطور الفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى والغناء (المقامات). وكان العراق يزهو باسماء جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي ومحمد غني حكمت ومنير بشير وعشرات الفنانين الآخرين،اما اليوم فهو خارج الحركة الثقافية العربية ولا أقول العالمية. إن بلادنا المنكوبة تعيش اليوم على هامش الركب الحضاري، فلا اهتمام لديها بالعلم والفن والفكر عموما. ويرى اصحاب القرار في بلادنا ان التفكير " مضر بصحة الأمة" التي يفضل ان تبقى جاهلة ومتخلفة حضاريا. اما التربية المعرفية والتنوير ومنها الفن، والذي يشكل شخصية الانسان ، كما أكد على ذلك الفلاسفة المسلمون منذ ايام الخليفة المأمون ، فقد أصبحت في طي النسيان.
المدينة المفقودة
عبدالله حبه
29/10/2012
http://www.alnoor.se/article.asp?id=175022
تعليقات
إرسال تعليق