شخصية الفنان التشكيلي في الرواية العربية, / سامي جريدي
شخصية الفنان التشكيلي في الرواية العربية
تبحث عن الحرية ولكنها مصابة بالقلق
سامي جريدي
من أجل الجمع ما بين السردي والتشكيلي، لا بد من البحث في عنصر «الشخصية»، هذه الشخصية التي لم تأخذ حقها من الدراسة رغم أخذها البطولة السردية على مستوى الوصف والحوار والزمن وسير الأحداث وصناعتها وتأثيث الأمكنة لتصبح شخصية مهمشة منسية نقديا كحياتها على وجه الواقع.
وبعيدا عن القطع بوجود خطاب سردي مضمر تحتضنه هذه الشخصية، يمكن أن نكشف بعضا من جوانبه، تبدأ من عدم فهم الآخرين لطبيعة الفنان التشكيلي على مستوى الواقع لتصل إلى تجاهل الفن ككل، ولعل عدم الاعتراف بفنه وبأفكاره قد يرجع إلى طبيعة وثقافة المجتمع الذي أوجد انفصالا كبيرا بين الفنان والمتلقي، بين الأنا والآخر، وهي في النهاية مسائل تنفتح على كثير من المواضيع والتجارب المرتبطة بثقافة المجتمع واتساع أفقه من الأساس.
ويقارب أكثر من سبع عشرة رواية عربية مختارة من ضمن ثلاثين رواية عربية جاءت فيها شخصية الفنان التشكيلي متنوعة المشاهد والصور والأحداث والأسماء. متقاربة إلى حد كبير في كونها شخصيات مصابة بالقلق، والاضطراب، والفوضى، متوترة، منعزلة، متمردة، ذات رؤى سوداوية في أغلب الأحيان لرسم الوجود. كما أنها مع ذلك شخصيات تبحث عن الحرية، والجمال، والخير، وتتطلع إلى المستقبل، محملة بأسئلة كبرى، وتحاول أن تصوره بطريقتها الخاصة. كما لم يكن الفنان التشكيلي كائنا سيكولوجيا بقدر ما كان فيلسوفا له أفكاره ورؤاه التي يطلقها على مساحات البياض والفراغ.
تمثل شخصية «خالد بن طوبال» بطل ثلاثية أحلام مستغانمي سيرة حقيقية لشخصية الفنان التشكيلي العربي المناضل. ففي «ذاكرة الجسد» نقرأ سيرته الكبرى في الفن، التي يتضح من خلالها سيرته التي انتقل فيها من تجربة قاسية في الحرب الجزائرية إلى تجربة أقسى وجدها في عشق الرسم. في الأولى كان مناضلا في الحرب، أما الثانية فكان فنانا تشكيليا مناضلا في الحب، فقد في الأولى يده وفي الثانية امتلاك يد حبيبته.
وفي رواية «صراخ في ليل طويل» لجبرا إبراهيم جبرا تأتي سيرة الفنان التشكيلي «فارس الطيبي». وفي رواية «العدامة» لتركي الحمد تجيء شخصية «عدنان» الفنان التشكيلي معلنة خطابها الآيديولوجي، وهو الخطاب الكلي الذي تتجه إليه أحداث الرواية، فليس عنوان إحدى لوحات الفنان التشكيلي بـ«الحرية» إلا امتدادا للمطالب المعلنة التي تبحث عنها شخصيات هذه الرواية. وفي رواية لنوال السعداوي نجد شخصية الفنانة التشكيلية «بهية شاهين» وهي تعيش طقوسها السحرية في الرسم. وفي رواية «مذكرات امرأة غير واقعية» لسحر خليفة تمتزج أحاسيس الفنانة التشكيلية بمواضيع أعمالها التي تهيمن على ريشتها في مشاهد معبأة بطقوس الفنانين وجنون الألوان. وفي رواية «لم أعد أبكي» لزينب حفني تصف لنا الروائية المكان الذي ترسم فيه الفنانة التشكيلية «راوية»، تقول: «يوجد المرسم في ركن بحديقة المنزل، وهو عبارة عن غرفتين، الغرفة الكبرى علقت فيها لوحات بمقاسات متباينة، أسند بعضها على حوامل خشبية... والغرفة الصغرى خصصتها للاستراحة..»..
وتبدو آراء الفنانة «راوية» أكثر تعبيرا عن نوازعها الأنثوية كالعنوسة مثلا، وأكثر صرامة في نقاشاتها مع الآخرين، لتقول: «أنا لا أرسم من أجل النقاد».
ودائما ما تكون غرف الفنانين مصابة بالفوضى، أما هنا فلا، الأمر الذي يدل على اختلاف غرف الرسم من فنان وفنان آخر، كل واحد ومزاجه الخاص الذي تكشفه غرف الفنانين. فالفوضى ليست دائما سمة بارزة بين غرف ومراسم الفنانين، وهو أمر تثبته حقيقة مقطع آخر في رواية أحلام مستغانمي الذي تقول على لسان شخصيتها الفنان التشكيلي: «أنا مسكون بالفوضى، ولكنني لا أسكنها بالضرورة..».. ويجيء هذا الوصف أيضا متقاربا في رواية «ماكياج خفيف لهذه الليلة». وهناك رواية «الآخرون» لصبا الحرز التي تصور شخصيتها ملامح متنوعة للرسم على الجسد ووصف غرفة الفن لصديقتها «دارين» بالمخبأ السري.
وتسأل الشخصية عن حياة وسيرة أبيها في رواية «فراس وأحلام المدينة» الذي تصفه الجدة بأنه الفنان المبدع والنحات الجميل، تقول: «كان أبوك أحسن الرجال... كان فنانا مبدعا يرسم للناس الصور. كان نحاتا ينحت أشكالا جميلة من الرخام والحجر. كان نقاشا ينقش الرسوم على الخشب».
وفي رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» نقابل أشياء الفنان التشكيلي وهي تعبر عن حقيقة اللون بمدلولاتها المتعددة، مما جعل عنصرية السواد تمثل غيابا صريحا لغياب المفاهيم التي تتوارى فيها معالم الهوية ومصداقية الأشخاص التي تصل الرواية في نهايتها إلى إثباته في شخصية «مصطفى سعيد».
من هنا كان لهذه الشخصيات أن تكون أكثر جاذبية وجرأة من غيرها بدءا من الرسم وانتهاء بالسرد لتتمازج وتمتزج بذلك ألوان وألوان من الرؤى والأحداث والأفكار لتوجد بذلك لوحة تشكيلية واحدة.
بالتالي يمكن أن نفهم جزءا من هذه الشخصيات للفنان التشكيلي كما بدت في الرواية العربية، التي ظهرت من خلالها هذه الشخصية محملة بالأفكار والرؤى والتصورات التي يغلب على بعضها رموز العدمية والتمرد والخلاص.
* ناقد وفنان تشكيلي سعودي، والكلمة جزء من ورقة نقدية مطولة ألقيت بنادي المنطقة الشرقية الأدبي بالدمام الأحد الماضي.
تعليقات
إرسال تعليق