لصاً، وكلباً، وولداً / سعيد بوشلالق



كان أحد كبار متصوفي الإسلام يُحتضَر ، عندما سأله أحد تلامذته : مَنْ كان معلمك أيها المعلم ؟
أجابه الشيخ : بل قُلْ المئات من المعلمين . وإذا كان لي أن أسميهم جميعا ، فسوف يستغرق ذلك شهوراً عدة ، وقد ينتهي بي الأمر إلى نسيان بعضهم . 
لكن ألم يكن لبعضهم تأثير فيك أكبر من تأثير الآخرين ؟
استغرق الشيخ في التفكير دقيقة كاملة ثم أجاب: ثلاثة في الواقع تعلمت منهم أموراً على جانب كبير من الأهمية.
أولهم كان لصاً ، فقد حدث يوماً أنني تهت في الصحراء ، ولم أتمكن من الوصول إلى البيت إلا في ساعة متأخرة جداً من الليل ، وكنت قد أودعت جاري مفتاح البيت ، ولم أملك الشجاعة لإيقاظه في تلك الساعة ، وفي النهاية صادفت رجلا طلبت مساعدته ، ففتح لي قفل الباب بلمح البصر .
أثار الأمر إعجابي الشديد ، فرجوته أن يعلمني كيف فعل ذلك ، فأخبرني بأنه يعيش من سرقة الناس ، لكنني كنت شديد الامتنان له فدعوته إلى المبيت في منزلي . 
مكث عندي شهرا واحداً كان يخرج كل ليلة وهو يقول : سأذهب إلى العمل ، أما أنت فداوم على التأمل وأكثر من الصلاة .
وكنت دائماً أسأله عندما يعود عمّ إذا كان قد غنم شيئاً ، فكان جوابه على الدوام واحداً لا يتغيّر : لم أوفق في اغتنام شيء هذا المساء ، لكنني إن شاء الله سأعاود المحاولة في الغد .
كان رجلا سعيداً لم أره يوماً يستسلم لليأس جراء عودته صفر اليدين كل ليلة ، وبعدها وعندما كنت أستغرق في التأمل يوما بعد يوم ، دون أن أحقق اتصالي بالله ، كنت أستعيد كلمات ذلك اللص : لم أوفق بشيء هذا المساء ، لكنني إن شاء الله سأعاود المحاولة في الغد . كان ذلك يمنحني القوة على المتابعة .
ومن كان المعلم الثاني ؟ 
كان كلباً فقد حدث أن كنت متوجهاً إلى النهر لأشرب قليلاً من الماء ، عندما ظهر هذا الكلب . كان عطشاً أيضاً ، ولكنه عندما اقترب من النهر ، شاهد كلباً آخر فيه ، ولم يكن هذا غير انعكاس لصورته فيه .
دبّ الفزع في الكلب ، فتراجع إلى الوراء وراح ينبح ، وبذل ما في وسعه ليبعد الكلب الآخر ، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل بالطبع ، وفي النهاية ، قرر الكلب وقد غلبه الظمأ الشديد أن يواجه الوضع فالقى بنفسه في النهر . وكان أن اختفت الصورة هذه المرة .
ومن هو معلمك الثالث ؟
أخيراً كان معلمي الثالث ولداً . فقد حدث أن رأيته يسير في اتجاه الجامع ، حاملا شمعة بيده ، فبادرته بالسؤال : لو أضأت هذه الشمعة بنفسك ؟ فرد عليّ الصبي بالإيجاب . و لما كان يقلقني أن يلعب الأولاد بالنار، تابعت بإلحاح، اسمعْ يا صبي، في لحظة من اللحظات كانت الشمعة مطفأة. أتستطيع أن تخبرني من أين جاءت النار التي تشعلها ؟
ضحك الصبي وأطفأ الشمعة ، ثم ردّ يسألني : وأنت يا سيدين أتستطيع أن تخبرني إلى أين ذهبت النار التي كانت مشتعلة هنا ؟
أدركت حينها كم كنت غبياً ، مَنْ ذا الذي يشعل نار الحكمة ؟ وإلى أين تذهب ؟ أدركت أن الإنسان ، على مثال تلك الشمعة ، يحمل في قلبه النار المقدسة للحظات معينة ، لكنه لا يعرف إطلاقاً أين اشتعلت . و بدأت . 
منذ ذلك الحين أسر بمشاعري وأفكاري إلى كل ما يحيط بي : إلى السحب والأشجار والأنهار والغابات، إلى الرجال والنساء.
كان لي طوال حياتي الآلاف من المعلمين .
وبت أثق بأن النار سوف تتوهج عندما أحتاج إليها.
كنت تلميذ الحياة ومازلت تلميذها. لقد استقيت المعرفة وتعلمت من أشياء أكثر بساطة، من أشياء غير متوقعة، مثل الحكايات التي يرويها الآباء والأمهات لأولادهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح