تداخل الخامات سبيل إلى استعادة الذّاكرة الجماعية: دراسة في أعمال الفنّان التشّكيلي التونسي سامي بن عامر. / الباحثة والتشّكيلية التونسية:يامنة الجراي


الفنان سامي بن عامر


تداخل الخامات سبيل إلى استعادة الذّاكرة الجماعية: دراسة في أعمال الفنّان التشّكيلي التونسي سامي بن عامر.


الباحثة والتشّكيلية التونسية:يامنة الجراي

إن مجال المعرفة الإنسانية متحوّل، منفلت من التنميط والجمود، وهو فضاء مفتوح قادر على استيعاب مختلف التجارب الإبدّاعية ، الفرّدية أو الجماعية، والتي تستطيع أن تفسح لنفسها مجالا في هذا الفضاء الذي يشهد تنافسا واحتداما فكريّا وفنيّا وجماليا عنيفا،سواء على مستوى العمل، أو التنظير ، أو النقد . 
والتجارب الفنّية المتفرّدة الرائدة هي وحدها التي تظلّ شاخصة للأبصار وتقدّم نفسها بوصفها نماذج متفرّدة ينبغي الاقتداء بها والنظر إليها من منظور الاعتزاز والتقدير . وقراءتها منزّلة في سياقها الثقافي الحضاري والإنساني ،لتبيّن  العوامل المتحكمة في تشكّلها إبداعا على نحو متفّرد.


وتعدّ تجربة الفنّان التشكيلي التونسي (سامي بن عامر) الفنّية بمثابة مخزون جمالي ووعاء فكري محمّل بكل سمات الإبداع التشكيليّ الصادق ،المعبّر عن تجربة موسومة بذاتية فنّية، تنهل من الإطار الخاص الذي تنتمي إليه ومن الإبداع  الإنساني ،الذي يمثّل إطارا  جامعا تتقاطع فيه الرؤى الفنّية الإنسانية : الشخصي والوطني الممتزج بالتجربة الحياتية  التي  تختزل تفاعلا نفسيّا وفكرياّ وقيميّا  معقدا خلاّقا يستوعب التناقضات الحادة ويحّولها إلى خلق فنّي منسجم بديع.
إن لغة الخطاب عند(  سامى بن عامر ) لغة مشفّرة ، والنص لديه هو نص مفتوح  يخرج  المتقبّل من مجال البحث في المعنى إلى مسيرة البحث في الدلالة، كلما اطمأنت إلى قراءة إلا وأحالتك إلى مشروع قراءة متجددة  ، وقد وظّف فيه تقنيات مختلفة كالشطب والحك والضربات السريعة للفرشاة ، وتقنية تكثيف الملامس والكتل الناتئة عن السطح التصويري (تكديس الخامات)..


إنّ مراكمة الأشكال والرموز في الخطاب البصري في لوحاته ، وتحررها من سطوة العلاقات الأحادية ، جعلت العمل الفنّي يمتاز بتشظّى مضامينه . فالمعاني لا تعرف الاستقرار ولا تخضع لمنطق صارم، فمنجزاته الجمالية تحفل بأشكال لا متناهية الدلالة ، والتي يكون للمتلقي الدور الرئيسي في قراءتها وتأويلها  ، مما يسمح بتعدد القراءات للعمل الواحد  ، محدثاً بذلك تشظّيات في المعنى ، مما يتيح للمتلقي توظّيف مكتسباته وخبراته ومعارفه ليتفاعل ويتأمّل ويحاور الأعمال بإحالتها على مرجعياتها الثقافية والحضارية التي احتضنت لحظة الخلق الإبداعي ، وتغريه بمحاولة اكتشاف دلالات الرموز وصلتها بالإنسان من جهة وبالمطلق من جهة أخرى.
الأعمال التشكيلية للفنّان شدتني في تعمقها البحثي في العلاقة بين الجمالية والإنشائية   وبين التجريب والفعل التشكيليّ ،  وبين الفعل التشكيلي والتصميم وبين التجريب والانجاز وهو ما بني عليه الفناّن تجربته التشكيلية ، التي نسعى إلى التطرق إليها من خلال دراستها استنادا إلى جدلية حضور المقتطفات الصورية وغيابها.


وسننتهج في هذه المقاربة التشكيلية للأعمال (سامي بن عامر)، البحث في مساره التشكيلي الذي يتنّزل  بحثه الذاتي في المواد والتقنيات  ، بحث يتجاوز المنحى التجريبي إلى منحنى يطرح واقعا تشكيليّا ينبعث من روح الواقع التونسي والهوية العربية .
هذه الصور بدأت شيئا فشيئا  تتلاشى في السطح التصويري الذي تعمه ضبابية المواد المكدّسة  ،لتصبح المفردات متغيّرة تحضر وتغيب في ما يشبه الشطحة الصوفية الدائرية التي تحوم  حول المركز ويصرح الفنان في هذا الصدد:
كتب الأول واصفا رسومي "بمجموعة الكهوف الروحانية"، و تحدث الثاني قائلا أن "الروح  محورها"، و قال  آخر، إنها "تحت أرضية"، تكشف عن دهاليز يسكن فيها اللاوعي. صحيح أنني أبحث عن عالم داخلي غامض يتزامن فيه الحاضر والغائب، أتعمد صنعه و توليفه ،  فاوظف له اللون والخطوط و النسيج والضوء، غير أن لبس هذا العالم الذي أبدعه سرعان ما يغمرني أنا نفسي، فينفصل عني ليصبح مستقلا بذاته، مؤسسا للمعنى (1).


سطح تعمه ضبابية مواد هجينة المصدر  وشخصيات تحضر وتغيب  ،هذه المعطيات ستساهم في تغيير الواقع المرئي وتبدأ في تشّكيل واقع جديد ،يبحث في الداخل في اللامرئي واقع ينشد حب اكتشاف العمق والماورائيات، واقع يستبيح الأخر المخفي المجهول ، واقع يقوم على ثنائية التلاشي والحضور، أي ظهور بعض الأشكال على حساب أشكال أخرى أو الانتقال من الصورة المباشرة إلى الفعل  الدال عليها، ويكون ذلك من خلال الأثر، أي بمعنى الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل .

1-سامي بن عامر : 28 سبتمبر 1997:مقال للفنّان : حول تجربتى الفنّية.

في هذا المستوى الأول من القراءة تبدو اللوحة كتلة من الخامات والمواد،  تتداخل فيها المرجعيات والملامس وحتى القضايا المعالجة  ،وذلك من خلال التداخل بين عناصر الصورة والآثار الخطيّة وحتى بعض المقتطفات النصّية  المبعثرة و غير مقروءة :


ليصبح العمل التشكيلي للفنّان فعل كاوتتى بامتياز ،يحسن فيه الفنّان استغلال هذه الفوضى ويجعلها نصوصا موجهة ، وتصبح اللوحة مع سامي  تعبيرا عن معاني الصراع الداخلي الذي يعيشه لحظة النشوة ولحظة  الانقطاع عن الواقع أثناء الفعل التشكيلي. ويقول الفنّان في هذا الصدد:"تصبح التقنية مبدعة عندما ينظر إليها لا كوسيلة، بل كعنصر مثير للإبداع، يعني، عندما نعمل على توخي طرق جديدة، لنبرز علاقات مادية مغايرة وطريفة. عندما لا نكتفي باعتماد نفس الخامة ونفس الأداة، فنمتحن خامات وأدوات أخرى. عندما نصطدم بالحواجز ونعمل على تخطيها. فاستكشاف التقنيات ليس إثراء لوسائل العمل بل تنويعا في المضامين التشكيلية الممكنة ذاتها "2.


 ويتجلى في الأعمال الفنّية للفنّان، صراع يختزن سلوكا ثوريا على المواد القديمة التي كانت لسنين طويلة وفيّة لنقل مناظر من الطبيعة ، فينتج لوحة تتشّكل من ألوان رمادية متدّرجة موزعة  على فضاء اللوحة بعناية مدروسة نابعة من قصّدية فنّية تكشف عن التأصيل النظري للفعل التجريبيّ الذي يتبناه ،  ولئن كان التجريب يتأسس على فتح مسالك جديدة في دروب غير مألوفة، وهو ما يتجلّى في الفوضى  التصويرّية  التي ترصدها عين المتقبل العاديّ،فإنّها تعكس نظاما من الفوضى الخاضعة إلى منطق صارم في الترتيب تعيه العيّن الفنّية الناقدة ، ليصبح العمل مع الفنّان تجلّيا نصيّا على حساب الصّورة  إثر صراع فنّي تعبيري بين مكوّناتها .
 ليستحيل العمل  مقتطفات وملامس وخربشات متشظّية مؤثثة لعناصر في الفضاء التشكيليّ في وضعيات متغايرة  ، تحكمها علاقات لا مرئية تارة ومرئية أخرى ، تنازعها  مستويات متباينة وألوان متراوحة بين القاتمة والشفافية  على خلفية متناصة بفضل احتكام الفنّان إلى تقنية التنضيد  ليؤكد على الدلالة التشكيلية  والقوة التعبيريّة للخامات الهجينة المستعملة .
ــــــــــــــــــــــــــــــ

    2- سامي بن عامر مقال بعنوان:  جدلية الفكر والصدفة من خلال قراءة لأعمالي الفنّية.

سامي بن عامر :تقنيات مزدوجة.

تعليقات

  1. شكرا للفنانة التشكيلية يامنة الجراي صاحبة القلم المهذب الرائع بالتقاطه ما تماشى ويتماشى مع سانفونيات التجريب والتجريدالجميل لمبدعنا الصديق الفنان سامي بن عامر... آملا من ذلك ومن معظم التجارب المغاربية كان ذلك على صعيد التشكيل أو النقد والقراءات الايجابية أن تتلمس الدماء الجديدة في عالم التشكيل بالتنقيب عنها وعرضها كخلف واعد لمسار كبار الفن التشكيلي بمغربنا الكبير...شكرا لك الجميلة الفنانة يامنة جراي، شكرا للصديق الفنان الكبير سامي بن عامر.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح