طلِّع سروالك ؟!؟ / الكاتب و الاعلامي خليفة بن قارة

طلِّع سروالك ؟!؟



الكاتب و الاعلامي خليفة بن قارة


هل المظهر الخارجي للإنسان ملك شخصي للفرد يتصرّف فيه على هواه لأنه- كما يرى البعض- عنوان للحرية الفردية التي جاءت نتيجة تراكمات نضال البشرية عبر الزمن، أم هو مَشاع مشترك يحتكره المجتمع بما لديه من قيّم وأخلاق وضوابط يعاقِب عليها القانون، ولا يُمكن تجاوزها باسم ممارسة الحرية التي أقرّتها مختلف التشريعات الدولية كما يُصِرّ على ذلك البعض الآخر؟

هل المظهر الخارجي للإنسان ملك شخصي للفرد يتصرّف فيه على هواه لأنه- كما يرى البعض- عنوان للحرية الفردية التي جاءت نتيجة تراكمات نضال البشرية عبر الزمن، أم هو مَشاع مشترك يحتكره المجتمع بما لديه من قيّم وأخلاق وضوابط يعاقِب عليها القانون، ولا يُمكن تجاوزها باسم ممارسة الحرية التي أقرّتها مختلف التشريعات الدولية كما يُصِرّ على ذلك البعض الآخر؟ الحقيقة المؤلمة هي أن المجتمعات المتخلِّفة أكثر تعديا على موروثها الإيجابي وعلى ما تسنّه من قوانين تحمي مُكوِّناتها الاجتماعية، من المجتمعات الأخرى وهي الأسرع للبلل "الاستباقي"من أية سحابة صيف عابرة، كما هي الأشدّ تأثّرا بما تحمله الريح القادمة عليها من كل صوب وحدب ولو علمت أن ذلك هو أجل إسقاطها .
يؤكِّد الأدب الشفوي الجزائري وكل ما توارثناه حتى اليوم أن الجزائري كان يعتبر الحزام أحد أدلّة الإثبات على نضج الرجل، ووسيلة أساسية من وسائل الحماية التي يفرضها المقدّس الاجتماعي الذي يعزف الناس عن ذكر اسمه، والأسرة الجزائرية تعتبر الحزام جزءا من بداية السير السويِّ في الحياة فتؤكِّد على ضرورة "تحزيم" الفتى بدءا من تقميطه وهو في المهد صبيا، وتطوّر المفهوم ليأخذ شكلا آخر حينما يتباهى الرجل بصدق قوله وإخلاص عمله وطهارة يده ونقاء جيبه فيقول إنه "خدّام حزام" ليدلِّل على أن هناك حزاما يشدُّه إلى الفضيلة ويمنعه من سقوط قيّمه تماما كما يفعل حزام سرواله في ستر عورته وإخفاء كل ما يثير الغرائز الحيوانية التي تحط من قيمة الإنسان الذي كرّمته كل الشرائع السماوية وحمته معظم القوانين الوضعية، وما زال الجزائريون في أكثر من جغرافيا يحافظون على هذه الخصلة التي يعتبرونها في بعض الأحيان مرادفة للرجولة برغم رياح العولمة التي أنزلت سراويل الشباب في بقاع كثيرة متباعدة من العالم بعدما قرّبت بينهم وسائل الإعلام والاتصال التقليدية والحديثة ووحّدت بينهم "ظاهرة" إنزال السروال إلى مستوى يكاد يكشف المؤخِّرة التي سترها الله وما زال كشفها عيبا اجتماعيا عالميا تعاقب عليه القوانين .
لقد نافس آدم حوّاءه في الغنج والدلال والتزُّين بالأقراط، في وقت راحت هي الأخرى تشذّ فتخلت عن أنوثتها باحتلال مواقع"ذكورية" كثيرة افتكّتها منه تحت مُسمَّيات مختلفة، قلدته بها في حركاته ولباسه وخشونته وتسلّطه أيضا، حتى أصبحا يتبادلان الأدوار التي خص الله كل واحد منهما، ففقد الشاب رجولته أو كاد وتلاشت أنوثة المرأة أو توشك على ذلك، وبدا الدِّين- كرادع في اختلاط الأدوار- باهتا في ترشيد الناس خاصة بعد ما اختطفه المتطرِّفون من كل الديانات، وجعلوه مدعاتهم إلى الحرب المقدّسة على البشرية الضالة أو المرتدّة أو الكافرة، وهو الذي ما كان- منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم- إلا من أجل سعادة الإنسانية وهنائها وأمنها، ومع كل ذلك ازدادت الشعوب المتخلِّفة أو ذات "القابلية للاستعمار" اندماجا في مظهر الشعوب المتقدِّمة أو العائدة قويا باستعماره، إلى أن أصبح الشكل الخارجي للشباب واحدا في كل مكان، وبدت هناك وحدة شبانية كونية أساسها اللِّباس صدَّقت نبوءة خبراء الإعلام الذين رأوا- فيما يرى المستشرف الصادق- العالم قرية واحدة قبل أن تُصبِح حقيقة معيشة، مما كوّن صعوبة في التفريق بين أبناء القارات المختلفة لولا الملامح المميّزة ولون البشرة ولغة المتحدِّثين منهم .
موضة إنزال السروال إلى حدود مشينة هي إحدى صادرات الغرب الآثمة إلينا مع جملة صادراته الضارة، لا أدخل في تفاصيل "الظاهرة" وتاريخها، ولا حتى فيما كان يعنيه أصحابها المساجين الشواذ المحتجزون في السجون الأمريكية، كما لا أتعرّض إلى تبنّيها من طرف فرقة الهيب هوب الأمريكية المناهضة لليبرالية الغربية المتوحِّشة وإعادة تعليبها إلى أكبر شرائح العالم الفسيح بمساعدة الغرب نفسه، ولكنني أقف متعجِّبا حيال رفض هذا الغرب لها بل ومحاربتها، في وقت راح يدعونا للغرق فيها ويغرينا بأمراضها المجمَّلة، فأمريكا- وهي جزيرة الحريات الفردية المطلقة- تتدخّل في تحديد اللّباس الشخصي، وتطيح فلوريدا بأصحاب السراويل النازلة، حيث شرَّع برلمانها قانونا يحظر هذا النوع من الكساء، ويقول هؤلاء البرلمانيون الممثِّلون الحقيقيون للشعب الأمريكي الذي انتخبهم? إن وضعية الشباب ذوي السراويل المنخفضة يسيء للفرد الأمريكي، بينما تنتشر هذه الظاهرة عندنا و بين شباب العرب كما تنتشر النار في غابة مصْفرَّة خلال صيف حار، قد يكون الشباب الجزائري من أولئك الذين فضّلوا خوض هذه التجربة، للتعبير عن القنوط من الوضع السياسي والاجتماعي الذي لم يجدوا لهم مكانا فيه آمنا، أو لظنّهم أنه لم يبق لهم إلا أن ينزعوا سراويلهم لمجابهة الحالة المفروضة عليهم، ولولا بقيةٌ من حشمة لما بقوْا في صورة نصف نزْع التي عليها معظم الشباب، فقد يثيرون بصورتهم الجديدة انتباه سياسيّيهم الذين لم يعودوا يروْنهم بعدما أصابهم عمى الجري وراء المصالح الشخصية الضيِّقة، وتحنيط الزمن وتوقيف حركة التاريخ عند رُكَبهم، وربما يكون تساهل الدولة مع "الظاهرة" ووقوفها متفرِّجة على المعتدين عن القانون ما ساعد على انتشارها وأجّج روح التنافس بين مريديها، ولكنه يؤكِّد أن الدولة قد تخلت عن واجبها في حماية القيّم المشتركة للأمة التي داسها الهاربون من واقعهم، فشباب يُخفِض سراويله بكيفية معيبة وربما يضع قرْطا أو أكثر في أذنيْه، مريض لا بد من تطبيبه وقد تداخلت عليه الصور فخُيّل إليه أنه اكتشف الطريق، وحتى لا يكون قاعدة خلفية لأكثر من ثلاثمائة ألف مُدمِن أو متعاط للمخدّرات، مِمَّن أحصاهم فقط الديوان الوطني لمحاربة المخدِّرات، وكي لا يتسنّن الشعب كله بشبابه ذاك- وهو وثبته إلى الأمام- فيخلع كلية ما ظل يستره أو يستدل في مسيرته إلى غده المنتظر بأصحاب السراويل الساقطة فتتحقق أهداف مَن أوردوها، إذا كان من الطبيعي أنه لا يمكن لمريض أن يتبيّن طريق مستقبله، فهل يمكن أن يُؤتَمَن المرضى ومن يساعدهم على إبقاء المرض منتشرا بينهم على وطن بحجم الجزائر؟ قبل عودة وعي مؤسسات الدولة بخطورة ما يجري والبدء في العلاج العاجل، ماذا لو استمع مستعملو السراويل الهابطة إلى المثل الشعبي الذي أعتقد أن الجزائريين لم يتخلوْا عنه برغم هذه الهجمة: كُلْ ما يُعْجِبُك وَالْبَسْ ما يُعجِبُ الناس ...
khalifalarabi@gmail.com 29-06-2011

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي