المياه الجريحة في عرض بينالي فينيسيا العراقي / علي النجار بافلو نيويورك
الفنان والناقد علي النجار
Assaf_NARCISO2010_videos
AbidinConsumption1HIGH1
يبدو ان الأمر هكذا, وكشعب عراقي( بما أن بعض بلدان العالم تشكل
نسبة شعوبها إلى ما نفي أو شرد أو ظل السبيل من أناسنا العراقيين اقل من عشرين بالمائة منهم) أن نواجه مصيرنا بأنفسنا عزلا إلا من عدتنا الثقافية التي غالبا ما نسيء للأخر بتصريفاتها المداهنة بثقافتها العرجاء. ونادرا ما تمهد لنا سبل الخلاص بخطوطها الإنسانية وسط كل ضجيج الثقافات العالمية المتنوعة والمتشعبة.
الفنان العراقي المغترب علي عساف وزملاءه الخمسة الآخرين, قبلوا التحدي بعد أن قطعت بهم السبل الموصولة بمؤسسات الدولة العراقية الثقافية العرجاء. ونجحوا في اختراق الوسط الفني العالمي من أوسع أبوابه. فبعد أن حرم الفنان العراقي ولخمس وثلاثون عاما من إيصال منجزه لعروض بينالي فينيسيا العالمي للفن التشكيلي, والتي تشكل عروضه أهم منفذ للتواصل مع المنجز العالمي. على الرغم من أن المساهمات العراقية السابقة كلها رسمية وملغومة بقرارات فوقية لا تعير وزنا لموضوعة العرض العامة. بل هي مجرد مساهمات بلوحات(رسوم) أو منحوتات لفنانين مختارين ليست لها صلة بأهداف العرض الثقافية. وجواز مرورها لاماكن العرض الفينيسي هو اسم الدولة(الرسمية) وإيفاء رسوم العرض. استطاع هؤلاء الفنانون العراقيون المهاجرون وبجهد شخصي من نصب أعمالهم وسط زحمة وزخم عروض من شتى أنحاء العالم. وان احتضنت المؤسسات الفنية والثقافية وحتى الشخصية والرسمية من دول العالم مشاريع أعمال الفنانين بشكل عام. فان جهد على عساف وزملائه كان منصبا على البحث عمن يمول مشروع عرضهم المشترك.
أن تسمع بالخبر, ليس مثلما ترى تفاصيل أحداثه مباشرة. وهذا ما نراه واضحا في الكثير من اشتغالات الفن المعاصر التي تستحدث أو تستقدم الحدث بصورته الوثائقية أو حتى الافتراضية. حوادثنا العراقية لا تخلو من صور صادمة. مثلما هي لا تخلو أيضا من صدمة اختراق الفعل الخارجي الذي وجد في مساحة وطننا الجريح فرصته لتهديم ما تبقى من بنية تحتية وبيئية وبناء مجده على حساب كل ذلك. ان تطرق أسماعنا كل يوم أفعال التفجير المتنوعة أدواتها والمختلفة أهدافها والملتبسة ظروفها, مثل اشتباك أطراف فاعليها والتي لا يبرأ منها حتى الذين هم في سدة الحكم. فإننا(الرأس والمرؤوس) نبقى غافلين عن خفايا الحروب السرية الصغيرة التي أعلنت ومنذ زمن الدكتاتورية الفردية ولحد الآن على مياه أنهارنا وروافدها وللحد الذي يتوقع فيه بأننا سوف نصحوا بعد ثلاثة عقود لنجد أن أنهارنا تبخرت, مثلما تبخرت أحلامنا العراقية نحن المهاجرون(الأبديون). هذه المعضلة البيئة هي التي اقترحها عرض المجموعة العراقية الفينيسي وتحت عنوان(ماء جريح).
لم يعد العمل الفني ألمسندي(اللوحة) لوحده قادر على إيصال قضية ثقافية فكرية أو تقريب التصور لحدث معاصر. هذا ما انتبه إليه العديد من الفنانين العراقيين المهاجرين. ولم يكن الأمر(تعلم التقنيات الصورية والافتراضية المعاصرة) مجرد إشباع لنزوة من قبلهم. بل, وبشكل خاص للأجيال الجديدة, تعلم ممارسات تقنية متوفرة ضمن المجال التعليمي الفني المعاصر. وللأسف, هذا ما تفتقر إليه المناهج التدريسية الفنية في داخل العراق. وان أردنا مسايرة السبل والطرائق الأدائية الفنية العالمية(والعالم المعاصر قرية اتصالاتية صغيرة, ولم يعد بعبعا يخضع للمماحصة الفارغة كما كنا نفعل) فان العمل على إبراز قضية مصيرية(مثل حرب المياه, والتي هي العن حرب) في محفل فني معاصر. لا بد للفنان الذي يتناولها من أن يتوفر على أدواته الفنية وبشرطين, الأول: هو إدراك القيمة الصورية ـ التصورية. وثانيا: توفر الإمكانية أو المقدرة التقنية بوسائلها الميديوية المختلفة. وهذا هو فعلا ما تحقق للفنانين المشاركين في هذا العرض العراقي العالمي. وان عجز فناني الداخل من مشاركتهم في هذا العرض بسبب من تقصير وزارة الثقافة بتغطية الاشتراك والنفقات, كما هو معهودها الذي أضجرتنا تبريراته المتكررة في كل مناسبة أو عرض. فان هؤلاء المغتربين استطاعوا أن يحققوا للفن العراقي المعاصر حضورا ملفتا للانتباه وسط كل الضجيج الإعلامي العالمي التنافسي في هكذا محفل فني عالمي.
(ماء جريح):
.....................
علي عساف, عادل عابدين, احمد السوداني, أزاد نانه كه لي, وليد سيتي, حليم الكريم. اشتغل كل منهم مشروعه الخاص على عنوان العرض بما خصص له من مساحة(غرفتين) في بيت فينيسي عريق مؤلف من اثني عشرة غرفة شرقية الطراز لتلاءم طبيعة العرض. ستة فنانين من أجيال فنية مغتربة متتابعة زمنيا ومنذ السبعينات حتى زمن الحصار الكارثي وما بعده. على الرغم من اختلاف تجاربهم. إلا أن معاصرة كل منهم تحمل بصماتها الخاصة. ستة تجارب عراقية بارزة(سبق لي وضمن مشروع كتاباتي عن ـ الهجرة المستحيلة, أن كتبت أو نوهت عن خمس منهم). توزعت ادائاتها ما بين الرسم والفيديو الفني والفوتو والإنشاء والتجميع, لكنها توحدت كفعل تناول الحدث المأساوي برؤى متنوعة.
الفنان(علي عساف) يستذكر البصرة(مدينته العراقية) كفينيسيا الشرق(عنوان عمله المزدوج). وكعادته في جمع واستذكار أرشيفه الصوري العراقي في العديد من أعماله التركيبية. فانه هنا أيضا ينثر الصور الشخصية على جداره كما هي في جدران العديد من بيوتنا الشعبية. صور من توفي ومن احتفي بولادته التي سرعان ما يعفرها الزمن. أوراق مؤطرة بأزمنتها المنتهكة. هي كل ما تبقى لقاطني هذه الديار. هي الزوج المفقود, الابن الذي خطفته الأيادي المجهولة. الغائب الحاضر الذي التهمته الغربة. هي البصرة. التي لم تعد تبصر. ولكي يكتمل مشروعه البصري. والبصرة, ثغر العراق الباسم الذي انتهشته الحروب واختطفت بعض من حدودها(التي هي حدودنا الجنوبية) خرائط الحلفاء من ضمن العديد من الخرائط. وللغالب خرائطه التي سرعان ما تتفكك علاماتها. انشأ عساف مشروع حائطه الثاني بصور من معالم المدينة. صور حيث كانت للمياه سطوتها قبل أن تنتهكها سدود وحدود الجوار. لكنه ومن اجل أن يثبت فعل الانتهاك هذا, نثر دموع التلوث السوداء لتحيط بمساحة فضائها لدائن سوداء منصهرة. وان كانت منازلنا تعوم في زخات المطر الأسود القادم من السماء. فان أنهارنا الآن بادلتها الأدوار على غفلة من حوادثنا السياسية الملغومة بحصص محاصصة مدنسة. علي عساف وكرائي(عمله الفيديوي: نرجس)لا يزال يحدق في بركته المائية يستطلع صور من افتقدهم عبر ضحالة شواطئه.
الفنان (ازاد نانه كه لي) ذهب مباشرة إلى موضوعه عبر إنشاءه لمكان مهجور بحنفياته الصامتة الثلاث التي ابتلعها جفاف المكان المكدس بأشلاء القحط. وان انشأ حنفياته الصامتة كأنهار العراق وروافده. فقد أجاد التصور. فلا النهر عاد قادرا على الجريان ولا المكان على الإنبات. إن كان المكان(بيئة) شحة, مياهها فهي مسكونة أيضا بهاجس التصحر. في عمله الثاني(الفيديو) لا يدع ازاد إنسانه يتمتع بالماء وهو ينعش جسده. إذ سرعان ما تخترق الغبرة الماء وهو في طريقه للنفاذ. فبعد ان تتصحر البيئة لا بد أن تتصحر الأجساد هي الأخرى.
عالم (احمد السوداني) مكتظ دوما بتفاصيل أناسه أو ما تبقى من حطامهم. هو عالم كابوسي بامتياز. ومساهمته في هذا العرض اعتقدها جاءت لتكمل الصورة الجديدة للمنجز الفني العراقي باكتمال شروطه التقنية الصورية. فالي جانب العمل الفيديوي والتركيبي والفوتو الفني لا بد من عمل مسندي غير تقليدي. ورسوم السوداني نأت عن مجمل منطقة الرسوم العراقية إن لم اقل التقليدية, فلتكن المعروفة. هو يجمع في رسومه ما بين الحدث كحطام والمهارة في تثبيت قسماته, لا كما هي, بل بما يحيلها لكوابيس أحلام تنتظر من ينقذ شخوصها من محنتها. في رسومه الأربعة المشاركة في هذا العرض تهيمن عوالمه الكابوسية الإنسية على ما تبقى مما كان بقعة مياه في طريقها للنفاذ.
ليس غريبا ان يشترك الفنان عادل عابدين في هذا العرض. لكني اعتقد بان مشاركته هذه جاءت أفضل من سابقاتها. ربما لأنه تدرب أكثر على الفعل الفني, ربما لان موضوع العرض التنبؤي حفزه أكثر للمساهمة في هكذا عرض عالمي. وهو الدءوب على ملاحقة هكذا عروض. فتراكم تجربته تجعله متحفز دوما للإتيان بجديده. هنا وفي هذا العرض يلعب لعبته قريبا وبعيدا عن عنوان العرض يحيل مفهومها إلى لعبة الكبار. فعمله مستوحى من مشاهد أفلام(حرب النجوم) وهي أصلا حروب أشباح. لكنها إن تحولت إلى واقع وكما هو حال انحسار مياه أنهارنا. فبالتأكيد سوف تكون كارثة. المياه هي الضوء في حالة خفوت بمعنى ما. وعمله الفيديوي(استهلاك الحروب) سلاحه السيوف النيونية الضوئية, كما في الأفلام. وهي أيضا قابلة للتحطم والاستهلاك كما هو حال فرسانها.
الفنان المجتهد الآخر, هو وليد سيتي. وليد أيضا تدرب على إخراج أعماله بحس مفهومي. وهو غالبا ما يشتغل على المكان بيئة قابلة للإدراك بصور تتجاوز منظرها التقليدي. هنا جرب أدوات أخرى هي بعيدة بعض الشيء عن تجاربه الخطية السابقة. وقريبة في وسائلها عن طبيعة بحثه البيئي. عمله الأول(وشم الجمال) يتكون من صورة حائطية لورقة نقدية عراقية(خمسة ألاف دينار) يخترقها من الوسط شلال(علي بيك). والعمل الثاني الذي يمتد عبر مساحة المكان(الغرفة) عبارة عن تشكيلية من قماش احمر بمزق عمودية يخترقها من الوسط جرح لولبي. التشكيلة الحائطية الشكل التي يشف مزقها عن نثار قطني بدت كأنها مساحة قانية صادمة, هي أيضا تشبه شلال مطر احمر. وان عجزت أموالنا عن إدراك الجمال الطبيعي. فلكون الطبيعة أغلى رأسمال. لكن إن تحول مجرى أنهارنا إلى سيل من دماء. فهل يعز علينا تضميد جراحها. هذا ما عبر عنه عمل هذا الفنان الثاني الذي كرس الفنان جهده لمعاينة تضاريس بيئته.
الفنان الفوتوغرافي حليم الكريم تناول موضوع العرض من زاوية أخرى. لكنها ليست بعيدة عن وسيلته الفوتوغرافية. عمله الأول(غسيل الأمم) المتمثل بيدين تغسلان العلم الأمريكي(الولايات المتحدة). وثلاثيته الصورية عن(الحب الخفي) والثورة الخفية. التي يلعب بها بملونة قسمات أشخاصه المصورة(وجوه لفتيات). ليس من اجل إظهار جمال أو وضوح القسمات, بل بما يجعل قسمات الوجوه أو بعض منها بغوص أو يختفي أو يبرز على حساب بقية أجزاء الملامح الأخرى. تقنيته هذه فسحت له مجالا رحبا لاختراق الفعل الافتراضي و البحث في مجال المخفيات أو الأسرار الجسدية والتلاعب بنغماتها أو درجات ملونتها. فاللون في صورته الفوتوغرافية التي غالبا ما تكون شبحيه تستفزنا لا بمدركاتها, بل بما خفي خلف طبعات الإدراك. وان بدا عمله الصوري(غسيل الأمم) واضحا في إيصال مغزى شفرته الاشارية. فان علامات الحب الخفي وثورته الخفية تخفي خلف قسمات أناسها ملامح فاجعة قادمة. أخيرا, هل حقق هذا العرض غرضه الإعلامي الفني. والفن جزء منه إعلام, وجزء صنعة ومتعة وتصور. اعتقد بان الجواب لا بد أن يكون: نعم., قالتها الوسائل والوسائط الإعلامية المهتمة بالعرض بشكل عام. قبل أن نقولها نحن. وعاد الفن العراقي وبدون أن ينفصل عن اغرب قضية أثارت العالم والتي تدعى العراق إلى الواجهة الإعلامية ليس من الباب المعهود(الإرهاب) بل بما خفي عن دهاليز الإرهاب العلنية(حرب المياه) أو خراب البلدان. والبلد بيئة وبشر قاطنين.
............................................................
اشتغل على إقامة العرض مفوض العرض(القومسير) الفنان علي عساف وبمشاركة المفوض فيتوريو اورباني, وساعدته بالعلاقات ماري أنجلا شروت. وبرعاية فخرية من مؤسسة المعمارية زهاء حديد. شارك في التمويل. الصندوق العربي للثقافة والفنون ورعاية ممثلية العراق الدائمة لدى منظمة الأغذية والزراعة الدوليةـ ومساهمة بسيطة من السفارة العراقية في ايطاليا.
............................................................
علي النجار
بافلو نيويورك ـ 18ـ06ـ2011
المياه الجريح
Assaf_NARCISO2010_videos
في عرض بينالي فينيسيا العراقي
AbidinConsumption1HIGH1
يبدو ان الأمر هكذا, وكشعب عراقي( بما أن بعض بلدان العالم تشكل
نسبة شعوبها إلى ما نفي أو شرد أو ظل السبيل من أناسنا العراقيين اقل من عشرين بالمائة منهم) أن نواجه مصيرنا بأنفسنا عزلا إلا من عدتنا الثقافية التي غالبا ما نسيء للأخر بتصريفاتها المداهنة بثقافتها العرجاء. ونادرا ما تمهد لنا سبل الخلاص بخطوطها الإنسانية وسط كل ضجيج الثقافات العالمية المتنوعة والمتشعبة.
الفنان العراقي المغترب علي عساف وزملاءه الخمسة الآخرين, قبلوا التحدي بعد أن قطعت بهم السبل الموصولة بمؤسسات الدولة العراقية الثقافية العرجاء. ونجحوا في اختراق الوسط الفني العالمي من أوسع أبوابه. فبعد أن حرم الفنان العراقي ولخمس وثلاثون عاما من إيصال منجزه لعروض بينالي فينيسيا العالمي للفن التشكيلي, والتي تشكل عروضه أهم منفذ للتواصل مع المنجز العالمي. على الرغم من أن المساهمات العراقية السابقة كلها رسمية وملغومة بقرارات فوقية لا تعير وزنا لموضوعة العرض العامة. بل هي مجرد مساهمات بلوحات(رسوم) أو منحوتات لفنانين مختارين ليست لها صلة بأهداف العرض الثقافية. وجواز مرورها لاماكن العرض الفينيسي هو اسم الدولة(الرسمية) وإيفاء رسوم العرض. استطاع هؤلاء الفنانون العراقيون المهاجرون وبجهد شخصي من نصب أعمالهم وسط زحمة وزخم عروض من شتى أنحاء العالم. وان احتضنت المؤسسات الفنية والثقافية وحتى الشخصية والرسمية من دول العالم مشاريع أعمال الفنانين بشكل عام. فان جهد على عساف وزملائه كان منصبا على البحث عمن يمول مشروع عرضهم المشترك.
أن تسمع بالخبر, ليس مثلما ترى تفاصيل أحداثه مباشرة. وهذا ما نراه واضحا في الكثير من اشتغالات الفن المعاصر التي تستحدث أو تستقدم الحدث بصورته الوثائقية أو حتى الافتراضية. حوادثنا العراقية لا تخلو من صور صادمة. مثلما هي لا تخلو أيضا من صدمة اختراق الفعل الخارجي الذي وجد في مساحة وطننا الجريح فرصته لتهديم ما تبقى من بنية تحتية وبيئية وبناء مجده على حساب كل ذلك. ان تطرق أسماعنا كل يوم أفعال التفجير المتنوعة أدواتها والمختلفة أهدافها والملتبسة ظروفها, مثل اشتباك أطراف فاعليها والتي لا يبرأ منها حتى الذين هم في سدة الحكم. فإننا(الرأس والمرؤوس) نبقى غافلين عن خفايا الحروب السرية الصغيرة التي أعلنت ومنذ زمن الدكتاتورية الفردية ولحد الآن على مياه أنهارنا وروافدها وللحد الذي يتوقع فيه بأننا سوف نصحوا بعد ثلاثة عقود لنجد أن أنهارنا تبخرت, مثلما تبخرت أحلامنا العراقية نحن المهاجرون(الأبديون). هذه المعضلة البيئة هي التي اقترحها عرض المجموعة العراقية الفينيسي وتحت عنوان(ماء جريح).
لم يعد العمل الفني ألمسندي(اللوحة) لوحده قادر على إيصال قضية ثقافية فكرية أو تقريب التصور لحدث معاصر. هذا ما انتبه إليه العديد من الفنانين العراقيين المهاجرين. ولم يكن الأمر(تعلم التقنيات الصورية والافتراضية المعاصرة) مجرد إشباع لنزوة من قبلهم. بل, وبشكل خاص للأجيال الجديدة, تعلم ممارسات تقنية متوفرة ضمن المجال التعليمي الفني المعاصر. وللأسف, هذا ما تفتقر إليه المناهج التدريسية الفنية في داخل العراق. وان أردنا مسايرة السبل والطرائق الأدائية الفنية العالمية(والعالم المعاصر قرية اتصالاتية صغيرة, ولم يعد بعبعا يخضع للمماحصة الفارغة كما كنا نفعل) فان العمل على إبراز قضية مصيرية(مثل حرب المياه, والتي هي العن حرب) في محفل فني معاصر. لا بد للفنان الذي يتناولها من أن يتوفر على أدواته الفنية وبشرطين, الأول: هو إدراك القيمة الصورية ـ التصورية. وثانيا: توفر الإمكانية أو المقدرة التقنية بوسائلها الميديوية المختلفة. وهذا هو فعلا ما تحقق للفنانين المشاركين في هذا العرض العراقي العالمي. وان عجز فناني الداخل من مشاركتهم في هذا العرض بسبب من تقصير وزارة الثقافة بتغطية الاشتراك والنفقات, كما هو معهودها الذي أضجرتنا تبريراته المتكررة في كل مناسبة أو عرض. فان هؤلاء المغتربين استطاعوا أن يحققوا للفن العراقي المعاصر حضورا ملفتا للانتباه وسط كل الضجيج الإعلامي العالمي التنافسي في هكذا محفل فني عالمي.
(ماء جريح):
.....................
علي عساف, عادل عابدين, احمد السوداني, أزاد نانه كه لي, وليد سيتي, حليم الكريم. اشتغل كل منهم مشروعه الخاص على عنوان العرض بما خصص له من مساحة(غرفتين) في بيت فينيسي عريق مؤلف من اثني عشرة غرفة شرقية الطراز لتلاءم طبيعة العرض. ستة فنانين من أجيال فنية مغتربة متتابعة زمنيا ومنذ السبعينات حتى زمن الحصار الكارثي وما بعده. على الرغم من اختلاف تجاربهم. إلا أن معاصرة كل منهم تحمل بصماتها الخاصة. ستة تجارب عراقية بارزة(سبق لي وضمن مشروع كتاباتي عن ـ الهجرة المستحيلة, أن كتبت أو نوهت عن خمس منهم). توزعت ادائاتها ما بين الرسم والفيديو الفني والفوتو والإنشاء والتجميع, لكنها توحدت كفعل تناول الحدث المأساوي برؤى متنوعة.
الفنان(علي عساف) يستذكر البصرة(مدينته العراقية) كفينيسيا الشرق(عنوان عمله المزدوج). وكعادته في جمع واستذكار أرشيفه الصوري العراقي في العديد من أعماله التركيبية. فانه هنا أيضا ينثر الصور الشخصية على جداره كما هي في جدران العديد من بيوتنا الشعبية. صور من توفي ومن احتفي بولادته التي سرعان ما يعفرها الزمن. أوراق مؤطرة بأزمنتها المنتهكة. هي كل ما تبقى لقاطني هذه الديار. هي الزوج المفقود, الابن الذي خطفته الأيادي المجهولة. الغائب الحاضر الذي التهمته الغربة. هي البصرة. التي لم تعد تبصر. ولكي يكتمل مشروعه البصري. والبصرة, ثغر العراق الباسم الذي انتهشته الحروب واختطفت بعض من حدودها(التي هي حدودنا الجنوبية) خرائط الحلفاء من ضمن العديد من الخرائط. وللغالب خرائطه التي سرعان ما تتفكك علاماتها. انشأ عساف مشروع حائطه الثاني بصور من معالم المدينة. صور حيث كانت للمياه سطوتها قبل أن تنتهكها سدود وحدود الجوار. لكنه ومن اجل أن يثبت فعل الانتهاك هذا, نثر دموع التلوث السوداء لتحيط بمساحة فضائها لدائن سوداء منصهرة. وان كانت منازلنا تعوم في زخات المطر الأسود القادم من السماء. فان أنهارنا الآن بادلتها الأدوار على غفلة من حوادثنا السياسية الملغومة بحصص محاصصة مدنسة. علي عساف وكرائي(عمله الفيديوي: نرجس)لا يزال يحدق في بركته المائية يستطلع صور من افتقدهم عبر ضحالة شواطئه.
الفنان (ازاد نانه كه لي) ذهب مباشرة إلى موضوعه عبر إنشاءه لمكان مهجور بحنفياته الصامتة الثلاث التي ابتلعها جفاف المكان المكدس بأشلاء القحط. وان انشأ حنفياته الصامتة كأنهار العراق وروافده. فقد أجاد التصور. فلا النهر عاد قادرا على الجريان ولا المكان على الإنبات. إن كان المكان(بيئة) شحة, مياهها فهي مسكونة أيضا بهاجس التصحر. في عمله الثاني(الفيديو) لا يدع ازاد إنسانه يتمتع بالماء وهو ينعش جسده. إذ سرعان ما تخترق الغبرة الماء وهو في طريقه للنفاذ. فبعد ان تتصحر البيئة لا بد أن تتصحر الأجساد هي الأخرى.
عالم (احمد السوداني) مكتظ دوما بتفاصيل أناسه أو ما تبقى من حطامهم. هو عالم كابوسي بامتياز. ومساهمته في هذا العرض اعتقدها جاءت لتكمل الصورة الجديدة للمنجز الفني العراقي باكتمال شروطه التقنية الصورية. فالي جانب العمل الفيديوي والتركيبي والفوتو الفني لا بد من عمل مسندي غير تقليدي. ورسوم السوداني نأت عن مجمل منطقة الرسوم العراقية إن لم اقل التقليدية, فلتكن المعروفة. هو يجمع في رسومه ما بين الحدث كحطام والمهارة في تثبيت قسماته, لا كما هي, بل بما يحيلها لكوابيس أحلام تنتظر من ينقذ شخوصها من محنتها. في رسومه الأربعة المشاركة في هذا العرض تهيمن عوالمه الكابوسية الإنسية على ما تبقى مما كان بقعة مياه في طريقها للنفاذ.
ليس غريبا ان يشترك الفنان عادل عابدين في هذا العرض. لكني اعتقد بان مشاركته هذه جاءت أفضل من سابقاتها. ربما لأنه تدرب أكثر على الفعل الفني, ربما لان موضوع العرض التنبؤي حفزه أكثر للمساهمة في هكذا عرض عالمي. وهو الدءوب على ملاحقة هكذا عروض. فتراكم تجربته تجعله متحفز دوما للإتيان بجديده. هنا وفي هذا العرض يلعب لعبته قريبا وبعيدا عن عنوان العرض يحيل مفهومها إلى لعبة الكبار. فعمله مستوحى من مشاهد أفلام(حرب النجوم) وهي أصلا حروب أشباح. لكنها إن تحولت إلى واقع وكما هو حال انحسار مياه أنهارنا. فبالتأكيد سوف تكون كارثة. المياه هي الضوء في حالة خفوت بمعنى ما. وعمله الفيديوي(استهلاك الحروب) سلاحه السيوف النيونية الضوئية, كما في الأفلام. وهي أيضا قابلة للتحطم والاستهلاك كما هو حال فرسانها.
الفنان المجتهد الآخر, هو وليد سيتي. وليد أيضا تدرب على إخراج أعماله بحس مفهومي. وهو غالبا ما يشتغل على المكان بيئة قابلة للإدراك بصور تتجاوز منظرها التقليدي. هنا جرب أدوات أخرى هي بعيدة بعض الشيء عن تجاربه الخطية السابقة. وقريبة في وسائلها عن طبيعة بحثه البيئي. عمله الأول(وشم الجمال) يتكون من صورة حائطية لورقة نقدية عراقية(خمسة ألاف دينار) يخترقها من الوسط شلال(علي بيك). والعمل الثاني الذي يمتد عبر مساحة المكان(الغرفة) عبارة عن تشكيلية من قماش احمر بمزق عمودية يخترقها من الوسط جرح لولبي. التشكيلة الحائطية الشكل التي يشف مزقها عن نثار قطني بدت كأنها مساحة قانية صادمة, هي أيضا تشبه شلال مطر احمر. وان عجزت أموالنا عن إدراك الجمال الطبيعي. فلكون الطبيعة أغلى رأسمال. لكن إن تحول مجرى أنهارنا إلى سيل من دماء. فهل يعز علينا تضميد جراحها. هذا ما عبر عنه عمل هذا الفنان الثاني الذي كرس الفنان جهده لمعاينة تضاريس بيئته.
الفنان الفوتوغرافي حليم الكريم تناول موضوع العرض من زاوية أخرى. لكنها ليست بعيدة عن وسيلته الفوتوغرافية. عمله الأول(غسيل الأمم) المتمثل بيدين تغسلان العلم الأمريكي(الولايات المتحدة). وثلاثيته الصورية عن(الحب الخفي) والثورة الخفية. التي يلعب بها بملونة قسمات أشخاصه المصورة(وجوه لفتيات). ليس من اجل إظهار جمال أو وضوح القسمات, بل بما يجعل قسمات الوجوه أو بعض منها بغوص أو يختفي أو يبرز على حساب بقية أجزاء الملامح الأخرى. تقنيته هذه فسحت له مجالا رحبا لاختراق الفعل الافتراضي و البحث في مجال المخفيات أو الأسرار الجسدية والتلاعب بنغماتها أو درجات ملونتها. فاللون في صورته الفوتوغرافية التي غالبا ما تكون شبحيه تستفزنا لا بمدركاتها, بل بما خفي خلف طبعات الإدراك. وان بدا عمله الصوري(غسيل الأمم) واضحا في إيصال مغزى شفرته الاشارية. فان علامات الحب الخفي وثورته الخفية تخفي خلف قسمات أناسها ملامح فاجعة قادمة. أخيرا, هل حقق هذا العرض غرضه الإعلامي الفني. والفن جزء منه إعلام, وجزء صنعة ومتعة وتصور. اعتقد بان الجواب لا بد أن يكون: نعم., قالتها الوسائل والوسائط الإعلامية المهتمة بالعرض بشكل عام. قبل أن نقولها نحن. وعاد الفن العراقي وبدون أن ينفصل عن اغرب قضية أثارت العالم والتي تدعى العراق إلى الواجهة الإعلامية ليس من الباب المعهود(الإرهاب) بل بما خفي عن دهاليز الإرهاب العلنية(حرب المياه) أو خراب البلدان. والبلد بيئة وبشر قاطنين.
............................................................
اشتغل على إقامة العرض مفوض العرض(القومسير) الفنان علي عساف وبمشاركة المفوض فيتوريو اورباني, وساعدته بالعلاقات ماري أنجلا شروت. وبرعاية فخرية من مؤسسة المعمارية زهاء حديد. شارك في التمويل. الصندوق العربي للثقافة والفنون ورعاية ممثلية العراق الدائمة لدى منظمة الأغذية والزراعة الدوليةـ ومساهمة بسيطة من السفارة العراقية في ايطاليا.
............................................................
علي النجار
بافلو نيويورك ـ 18ـ06ـ2011
تعليقات
إرسال تعليق