أأغنية ..ورصاصة. / علاوة كوسة




أأغنية ..ورصاصة.




بقلم : علاوة كوسة

إلى سيد الغناء:طاغور

..."الصبح الذي كان في عينيها أغنية هندية قبل اليوم..أمسى خرافة غجرية قدت أوتار نايها الذي كان أنيسها الوحيد زمن الطفولة..فرحلت و لم نكن لنجد لها مبررا..على ما حدث و نقدم لها العزاء في مصابها."
هذا ما سمعته من أمها الجالسة جنبي، و نحن نتخذ قطار الليل براقا يسري بنا من قريتنا الهادئة إلى العاصمة ، ما كان علي أن أفتح نافذة لجراحاتها ،و لم أكن لأصبر على جيوش الحزن التي كانت ترابط في عينيها ،و قلبي درع للأمل، الذي كثيرا ما تصرح في كلامها أنه لا أمل بعد رحيله ،و رحيلها .
الليل يبسط جناحيه على الكون ،أزيز القطار يمزق وشاح الصمت الرابض في أحضان الطبيعة ،النجوم يحجبها السحاب ،القمر لا أحد يعرف أين وصل في رحلة الاكتمال ، بريق خافت يلوح في بؤبؤيها ،همهمة ،حشرجة ،تنهيدة من زمن بعيد تفك قيود بوحها، فتأنس إلى طيبتي المرتسمة على جبيني، و تبدأ في الحديث :
"كانت وحيدتنا ..و كان أبا عطوفا عليها .. و زوجا و أبا و صديقا لي أنا .. و كان ذاك المساء وحيدا في شكله و اغترابه و منفاه ،عندما ضممتها إلى صدري أحسست بنبض قلبها، فأوحى إلي بشيء من الغيظ و الاحتراق ..نامت عيناها و ما عرف النعاس طريقا إلى خواطرها المتأججة .. استيقظت باكرا ..سجادتها التي عليها أثر جبينها آخر من ودعها قبل أن تتجه صوب مدرسة تقابل بيتنا .. خطاها تحاكي خطوات الأرق في دروب الحاجبين الهلاليين.. زملاؤها ببراءتهم ينطون في الساحة كغزلان برية .. يتقدم نحوهم بمئزره الأبيض و محفظته السوداء المحملة بالكتب و المذكرات و الدواوين الشعرية ..الحجرة مبعث للحيوية و النشاط .. أوراق الرسم صارت كلها على الطاولات ..و الألوان ..حرة في اختيار ما يعكس نفسيات التلاميذ ..ربيع ..باقة ورد ..حديقة ..طائر مغرد ..بحر ..
و لما دنا من طاولتها جمدت نظراته ، وأسكتته الدهشة ،لكنه يسأل :
ـ سماح.. ما الذي رسمته ؟
(بعد لحظات)
- رصاصة يا سيدي .. رصاصة .
ـ سماح ..ما الذي دهاك ،ألم أقل: إن المطلوب منا رسم مظهر من مظاهر الطبيعة الساحرة ؟؟...
...ترتسم على شفتيها ابتسامة تميل إلى السخرية، تنحاز إلى الحسرة و تطأطئ رأسها إذ امتزج الدمع منها و الشهقات بالكلمات البريئة الثائرة :
- تقول الطبيعة يا سيدي .. ألا تدرك أن رصاصة واحدة اغتالت ربيعي و أذبلت الورود في يدي ، بل طافت على الحدائق و الجنان و أسكتت البلابل المغردة ، و سكبت بحرا من دموع في عيوني ،كل هذا في لحظة واحدة و برصاصة واحدة ...؟"
...............
...............
...............
.../...( )؟؟؟
كانت الليلة ليلة عيد .. و ما كنت أطلب منه شيئا إلا وجدته قبل أن يرتد إلي طرفي .. طبع قبلة على جبيني .. و خرج .. سعادتي و إسعادي يدثران عوزه .. الشارع أطول من الأيام .. البهجة تصنعها الأضواء.. الصغار و المفرقعات .. للفعل فاعل .. و للمقتول قاتل .. المنية لا تطيش سهامها .. و الرصاصة لا تخون الزناد .. و.. و جبين أبي مهد للرصاصة .. أخطأته مرات بزيه الأزرق لما كان يوزع الأمن و الطمأنينة على الآخرين .. و صدقته حين أراد إسعادي ..."
... ارتجفت يدي ..كنت المعلم ..فصرت الأب الثاني .. بل الأول.. لأن الأول قد رحل .. أكفكف دموعها ..أضمها إلى صدري .. ثم تبتسم ثانية وقد التقت نظراتنا فتشكل الأمل من جديد وقالت :
- ولكنهم لن يغتالوا الربيع القادم يا سيدي بعد عام"..
...هكذا قال لي معلمها.
عادت إلى المنزل والكآبة تقيم عواصم على وجهها الملائكي .. سلمت ودخلت.. صلت ودعت.. ارتشفت الماء على ثلاث.. من كأسها المفضل المرسوم عليه وردة حمراء .. وعصفوران . تقدمت في هيبة من مخدعها..
- تصبحين على خير يا أمي.
- تصبحين على ورد وزهور يا صغيرتي.
- ( تضحك داخلها ) إن أدركني الصباح؟!
.. أذان الفجر .. أدخل غرفتها ..سجادة .. عليها جثة ساجدة ..وسرب من النور يحوم حولها ..رحلت بعد رحيل أبيها .. وها أنا الآن راحلة في قطار الليل الى حيث التقيت زوجي أول مرة ..علها الأمكنة تذكرني فتعزيني .. بعدما تنكر الجميع لي .. عرفا و قانونا !! ......
وسالت من عينيها دمعتان باردتان ثم أردفت قائلة :" ولكنهم لن يغتالوا الربيع القادم بعد عام يا سيدي" .
...لفنا الصمت .. وعرجت هذه المأساة بذاكرتي على آخر لقاء لي مع صديقي" بدر الدين" عندما انتقينا معا بدلة زفافه الزاهية... ابنة عمه التي كانت في الأسطورة آلهة للجمال، ستصبح حقيقة بعد أسبوع ..ورفيقة له في رحلة العمر السعيد.. رصاصة واحدة يزفها مسدس شخص مجهول، تختار رأسه مخدعا لها .. ابنة العم صارت رفيقة للحزن في رحلة مأساتها ...!!!
.. نظرت إلى الجالسة جنبي .. والقطار يشق الليل نصفين ..وكان العزاء واحدا والمصابان اثنين ..فمن منا يعزي الآخر ؟.. يأخذ بأجفاننا النعاس ..الحلم أرحم من الواقع.. والربيع لن يغتال بعد هذا العام.

تعليقات

  1. ما أروع نفاق العين وحرية الدموع ... يزيدني رهقا ... وانا بالوصيد...

    ردحذف
  2. رائع أنت دائما سيدي ، هل يكفي أن نقول لك مزيدا من التألق يا علاوة ، إلى الأمام سيدي ، ما أجمل أن نلتقي بتاسوست.

    ردحذف
  3. من اين جئت بهذه الافكار النيرة ........لك مستقبل زاهر.........آمين

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

حوار الخامات وولادة الأثر، قراءة في تجربة سامي بن عامر / رياض بنالحاج أحمد: باحث جامعي