معبر من الفصل الثالث.تنزروفت..بحثا عن الظل / عبد القادر ضيف الله




معبر من الفصل الثالث.تنزروفت..بحثا عن الظل

بقلم : عبد القادر ضيف الله

صمت الشيخ ثم رحل وهو يشير: " الآن يمكنكم أن تدخلوا مدينة سيدي مولاي بن عبد الكريم الرڤاني آمنين .سموا باسم الله وباسمه ستكونون آمنين فيها."

وجه رڤان يتداعى بحمق نساء الرمل وهن يتعريّنَ على رمل العرق،كلما أردن فتح رباط عدتهن في فلاة تنزروفت، رغم حر وشاحها الناري الذي لفح وجهي مع أول وطء لي على جسدها الطيني الأحمر لأتأفف وأنا أجيب بحوص حينما سألني وأنا أنزل قدمي من حافلة النقل البري عن رأيي في المدينة التي تقف ملوحة بيدها السوداء التي تحولت إلى رمادية اللون بفعل الغبار المتطاير من نعال الغرباء الذين هبوا ليزوروها في موسم وليها الوحيد مولاي الرڤاني.هذا الولي الصالح الذي مرَّ ذات يوم واضعاً نطافه في رحمها الرملي، لم يكن يعرف الرڤاني أن مدينته ستتعهر بعده كما تعهرت مدينة ولي أدرار وكل المدن التي زحف إليها جراد الغرباء الهاربين من الجوع والموت المبرمج في الشمال. لم تعد المدن في كل جغرافيا هذا الوطن مدن تحمل هوية ذاك الزمن الأخضر ،غاب عنها التسامح و الخجل لتصبح اليوم متشابهة حد القرف، قصور رڤان حبلى بالمريدين الذين شوّهتهم تجارب اليربوع الأزرق والأحمر التي أجرتها فرنسا يوماً في عمق رڤان والغرباء الذين لا يشبهون إلا أنفسهم وهم يتسابقون في إبراز ولائهم المزيف لوليّها في مثل هذا اليوم من مطلع مايو الذي يحتفل فيه عادة عمال هذا الوطن البائس الذي بدأ في أكل أبنائه مع أول قرار تلقاه من صندوق النقد الدولي اللعين، لا أحد يهتم بذكرى هذا اليوم،ولا أحد يذكر وجع هذا الشهر الذي حزت فيه رقاب الآلاف من أبناء بلدي ولا أحدب ممن يحكموننا يذكر أنين من ماتوا تحت سياط جلاديهم، حينما قررت فرنسا أن تستحوذ على هواء الحرية والمساواة لأبنائها فقط وترمي أبناءنا في نهر السين،أدرك أبائي حينها أن الموت أرحم من حياة بلا حرية ولا كرامة. اليوم لا أحد من أبنَاءِ الذينَ بقوا أحياءً من تقتيلها وذبحها يهتم بشيء حتى العمل وحرق العرق لم يعد مجدي في هذا الوطن ولم يعد أحد فينا يعمل كما كان آباءَهُ يعملون في عهد بوخروبة، الكل سُرح أو طرد بإيعاز من الذين ورثتهم حرب المصالح حقدها تاركين المصانع العملاقة التي أنشأها هذا الرجل لزحف الرمل ظناً منه أنه سيقضي على بؤس أبائنا وبؤسنا ، وأنه سيجعل من وطن منهك ومن شعب منهك معجزة جديدة لكنه لم يكن يعرف أن الأوطان لا تبنيها النيات وأن الذين رافقوه كانوا يهدمون في كل ليله ما كان يبنيه نهاراً حتى أوصلونا إلى نفق الفقر الذي تحول بعد عقود من الزمن إلى كفر بالوطن وكفر بالثورة التي حررته،لا أحد من جيلي أو من الأجيال التي ولدت من رحم الموت يشده الانتماء والإيمان، الكل يكفر برب هذا الوطن وبرب حاشية الرئيس الأحدب الذي باع كل شيء حتى صار الوطن اليوم معروضاً للبيع لكل قوادي الشمال وللقوادين القادمين من وراء البحر والصحراء، بعد أن سقطت كل المعاقل التي كان بوخروبة يستمد منها ثورته في العالم،سقط جدار برلين على رؤوس الجنوب وبؤسائه، ولم يسقط جدارك أنتِ وجدار ذاك المبنى اللعين الذي نصبَ لي فيه المسعودي فخ الوجع . وتفشى وباء جديد سماه إعلاميو الريع بالعولمة التي لم يتوقف بحوص من ترديد أن أمريكا هي من زرعتها في هذه الأرض حتى تخربطت هذه البلاد التي اشترتها الشركات الكبرى الهجينة بعدما أخذت الحاشية عمولتها أرصدة في بنوك وراء البحر وبقينا نحن كما نحن نرزح تحت بول الأرقام التي تحكم مصائرنا ومصائر بؤساء العالم .
"هنا لا أحد يهتمّ !" مثلكِ. أضاف بحوص وهو يتفحصني حينما شعر بضيقي وامتعاضي من المدينة " اتهرّدت علينا في هذا العالم الذي يتعولم كالوباء القاتل وحتى الصحراء التي هربنا إليها بجلدنا وجدناها كذبة كبيرة كما كل أكاذيب الساسة ،الصحراء صحراء لم تتغير ملامحها إلا إلى الأسوأ لأن الآسياد أرادوها أن تبقى كما هي بقرة تحلب لهم المال دون أن يطعموها شيئا أو يطعموا أبناءها لأنهم عقدوا حلفاً مع شياطين الدولار الأخضر ليمارسوا تنويمنا بمشاريعهم ومخططاتهم الزائفة حتى نبقى بعيدين عن ثورة اليأس ، تائهين ينخرنا البؤس ومحرومين من إنسانيتنا ومن أبسط الأشياء ،حتى من الحب لتصبح قلوبنا متصحرة كما أرض تنزروفت ، فتحولنا مرغمين إلى خونة. أما هؤلاء البؤساء الذين سكنتهم الصحراء فهم يمارسون رغبتهم في الخلاص من يأس الرمل باسم الأولياء يعبرون إلى الخفاء ليتلقوا السر.
قال الهاتف بلا لسان " السرّ ترياق التيه ، وترياق من لا ولي له "
ثم أضاف" أم أشباه أحدب هذه الصحراء فهم يحترفون مهنة القوادة باسم الزيارات المقدسة لينكح الجار جارته والعبد سيدته و الحرطاني نساء الشرفة والشريف نساء التلوله الهاربات من اغتصاب جماعات الموت في الشمال. لم يبق أحد في المدينة لم يفجر كبته وغله في الجنس والخيانة حتى الطلبّة الهاربين بيأسهم في الزوايا البعيدة يمارسون عاداتهم مع الصبية وهم يلقنون لهم كلام الله. الكل يترصد الكل، والكل يلبس لباس الوقار والتقوى يا صديقي.
قلت له بعد أن سمرتُ وجهي جهة قبة الولي " إذن هم يريدون أن ينتقموا من الجذب والعطش الذي عذبهم همْ وآباءَهم ،يدفعهم قوادِي السياسة لارتداء جبة الأولياء في مواعيد يحددها الرئيس وحاشيته . " وأنتِ وحدك المدانة في هذا العالم الذي لم يتخلص من عقده المتشابكة. الكل متمسك بشهوة الماضي وبالسرّ المزيف الذي زرعه أولياء الساسة ومؤرخو تاريخ الزيف العربي، وبالنخوة التي لا تجدي شيئا في عالم سقطت فيه كل أوراق التوت عن عورات السادة والعبيد ، حينما سألت الشيخ عيسى جار بحوص بدأ يردد لي حكايا التلمساني الذي طارد يهود تمنطيط وهو يكزز على أسنانه التي أكلها التمر " الأولياء هم السر والتلمساني ولي الله في هذه الصحراء وسيدها الذي سيره الله ليطهر أرضه من نجاسة المغضوب عليهم منذ أن التقى بسيدّنا الرڤاني و تحالفا معاً على تطهير توات كلها من رجس اليهود لعنة الله عليهم" أشدّ على يد بحوص والحنق يكاد ينفجر من ضلوع صدري راغباً في أن أعري عليه وعلى وليه هذا. ترى هل طهّر هذا الولي مع ذاك الرجل التلمساني هذه الصحراء حقا كما يدّعي هذا الشيخ؟ قلتها في سري وأنا ألكز يد بحوص حتى جذبها مني بعدما رمقني كي أتحكم في حنقي،مبدياً لي أنه يوافقني الرأي هامساً :"لا أظن أن التلمساني و الرڤاني قد طهرا توات حقا من رجسهم لأن التلمساني لم يكن يعرف أنه أخطأ الرأي حينما استفتى علماء توات ولم يأخذ برأي القاضي العصماني وأولئك الذين رأوا أنه عليه أن يستأصل مواليهم قبلهم .وقبل أن يأخذ كل اليهود بجريرة مرابيّهم الذين رفضوا دفع الجزية لأن اليهود ليسو كلهم سوء، فالمشكلة في أبناء المرابيّن الذين توالدوا في هذه الصحراء وانتشروا كما الدود في دم هذا الوطن وليس في بسطاء اليهود الذين عمّروا هذه الأرض وعلّموا أهلها فنون الحرف والتجارة منذ هجراتهم الأولى . أما الحاقدين الذين لا مِلتةَ لهم فهم رأس الأفعى التي أكلت العالم فيما بعد. " مريدو الرجل الصالح اليوم تشدهم رغبة التطهر من رجس اقترفوه نحو أنفسهم لهذا تراهم يغالون في تقربهم وتبركهم بعسس الصحراء من أولياء الله الصالحين. مروشة استثناء الخرافة و الحكايا التي أراد الشيخ عيسى أن يحكيها لنا حينما أخبره بحوص بعشقي لأغاني الشلالي التي لا تتكرر في غير فلوات توات ،لا تذكر مروشة الجنية التي عشقت الشلالى عند مرورها بفلوات تنزوفت إلا حينما يذكر الشلالي الهارب بدمه من مدينة الشلالة بعدما أهدر دمه سي مولاي وشيوخ قبيلة سيد الشيخ لأنه تغنى بامرأة الحاكم وهو يعرف أنه لولا تلك العرّافة العجوز لكان الشلالي مصلوباً على باب قصر تشرفين الكبير ومنكل به . قال الشيخ " فقد جاء ذات ليلة باردة يستقرئها قدره فنظرت إليه ثم فتحت عن صدرها المتخشب وهي تصيح حتى بانت من رقبتها العروق الزرقاء الكبيرة وقالت بعد أن نفخت في كانون الجمر:" أنت الموعود ببنت ملك الجان ،والفتنة إذا ما رحلّت تبّان، ويرحلّ أهل القصر، وتوه الخرفان ، ويسيل دم الشرفة وديان. قدرك أصبح محتوماً من يوم قريّتْ كتابك على العدّيان،وبُحت بنارك في مرقد السلطان،ولو كان للولد الإنسان دم يسري في عروق الجان فهو الحب اللّي سكن بنت ملك الجان،وعمرّك مكتوب عليه تيه سنين في الرمل وأيام كما حسن الوزان عالم الفلك والبحار و مكانش تراب يسّتْر دمك ويعمر عين بن أدم غير تراب الصحرة ، ولي طلّڤ الدنيا الفانية وعاش يبحث عن الحقيقة يلقاها وين يعيش الجان فالرڤ ولحمادة ولعرق وكل أرض ما وطأتها رجل كحل الراس ولد الإنسان . تنزروفت هي المصير...". ثم صمتت العرافة.
" ليلتها بات الشلالي مصروعاً بالحمى والكوابيس وخيالات الناس الذين رحلوا دون أن ينتبه لهم أحد من أهل المدينة ، تجوب على رأسه الطيور السوداء . مع الفجر كان الشلالي يجري وهو يلهث وراء القافلة المحملة بالشعير إلى توات. يقولون أنه تاه عن القافلة وركب العرق الكبير حتى تنزروفت . وحينما داهمه الليل في تلك الخلاوات سكنته بنت ملك الجان مروشة التي عشقته أول ما رأت جماله. اليوم لا أحد من الناس يعرف كيف وصل الشلالي وحده إلى توات ولا كيف عاش و لا حتى كيف مات . و حدها أغانيه التي لا يعرف أحد متى حفظت في صدور نساء توات و رجالها الذين يرددونها كلما عذّبهم جفاء النساء . مروشة لا تذكر إلا حينما يسطع صوت الشلالي المسكون بالتيه والحزن " لزرڤ سعاني يا حبيبي ودي عنواني ....مليح غواني يا حبيبي ودي عنواني". و الرڤاني استثناء التاريخ الذي لا ينسى !
واستثناء المتصوفة الذين عَبَرُوا صحراءَنَا وعمروها " قالها الشيخ عيسى وهو يمسدُ على لحيته المصوفة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح