ألوان وظلال تطارد ركام الذكريات / بقلم : عدنان بشير معيتيق

ألوان وظلال تطارد ركام الذكريات
3 août 2013, 13:00

عدنان معيتيق والكاتب عبدالله المتقي في مقهى فرنسا بالدار البيضاء 2012


عدنان معيتيق والكاتب عبدالله المتقي في مقهى فرنسا بالدار البيضاء


بقلم : عدنان بشير معيتيق

الكاتب والفنان عبدالحميد الغرباوي في مرسمه

الكاتب والفنان عبدالحميد الغرباوي في مرسمه

كنت ضيفا على أمسية شعرية وسردية نظمتها جمعية اللغويين بالدار البيضاء، وبعد أن التقيت مع الكاتب المبدع عبدالله المتقي، في مقهى فرنسا بالقرب من باب مراكش في صباح اليوم الثاني من وصولي إلى المدينة، أبلغني بضرورة حضوري لهذا الحدث حتى أتمكن من لقاء الكاتب والفنان التشكيلي المغربي عبدالحميد الغرباوي .انتهت الأمسية الجميلة بعد أن التقينا فعلا بالغرباوي ومع الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي، تخلل هذا المقطع المتميز من إقامتي بالمغرب خلال ساعتين هذا اللقاء المختلف الممتلئ بالحفاوة وشاعرية اللحظة خصوصا باعتباري ضيفا وفنانا تشكيليا قادما من ليبيا، بعد أن ألقى الغرباوي نصا مفعما بالحب كان لي نصيب منه في الإهداء مناصفة مع شخص آخر لم يفصح عن اسمها في ذلك الوقت واكتفى بالاتصال بها وترك سماعة الموبايل مفتوحة أثناء إلقائه النص.

لوحة للفنان الكاتب عبدالحميد الغرباوي

لوحة للفنان الكاتب عبدالحميد الغرباوي

خرجنا من قاعة الأمسية التي كانت تعانق المحيط على إحدى زوايا المدينة، قام الغرباوي بدعوتي إلى مرسمه القريب من المكان الذي كانت فيه الأمسية حيث قمنا بالذهاب راجلين في اتجاه أزقة منطقة درب السلطان التي تطل على الحبوس (الأحباس) الأثرية الممتلئة بأنفاس الماضي والمختلطة بزفرات الناس البسطاء، الباعة الجوالين وأصحاب عربات الخضار ودكاكين بأبواب صغيرة الحجم متعانقة في ألفة أبدية بالجغرافيا الذاكرة التاريخية، وما تعاقب عليها من حضارات... في حينها شعرت بازدواجية في التفكير وفصام بالمشاعر المختلطة ما بين الدار البيضاء والقاهرة ما بين الفنان التشكيلي الليبي عمر جهان المقيم بالقاهرة وعبد الحميد الغرباوي الكاتب والفنان التشكيلي المقيم بالبيضاء كما يطلق عليها أهلها، لا أعلم لماذا هذه الإحالة المفاجئة ربما لتشابه الأمكنة ونفس الأنفاس العميقة التي تتردد منهما وملامح الحضارة التي مازالت تنضح بها كلا المكانين، هذه الأزقة وتلك الرائحة، الدكاكين، عربات شواء السمك المتنقلة، الأزياء المتنوعة والمزركشة بألوانها البهية والوجوه وزحمة المكان.
 هذه شذرات من الغرباوي ( أكتب القصة القصيرة وهي قصيرة ، لكنها طويلة إذا ما تمثلتها على مستوى الواقع، أكتب عن اللحظة العابرة عن ظلال تطارد الشمس وشمس تطارد ظلال، عن ركام الأمنيات عن ركام الشهوات وثرثرات المتسكعين في الحارات والأزقة والحانات، عن الرائحة الصاعدة من الطين وأشلاء الوقت)... كل هذه صور لحالات ونصوص تشكيلية انفلتت على سطح الورق في تركيبتها الكتابية، فالفنان الغرباوي لا يتوخى الحذر في تسريب ما يعتمل بداخله فهو يطلق العنان لمخيلته لاستحضار مفرداته ويقوم برسمها بحبر دمه على الورق، فتارة تظهر ككلمات وتارة أخرى تومض كألوان وخطوط في تناغم رائع بين عالمين متوازيين يتجول الغرباوي بكل خفة ليرشدنا إلى مسالك سرية قام بتعبيدها لتسهيل الهروب ما بين عالمين.

لوحة للفنان الكاتب عبدالحميد الغرباوي

لوحة للفنان الكاتب عبدالحميد الغرباوي

 الرسم عنده عملية عكسية للكتابة، استدعاء نصوصه السردية في حالتها الشاعرية الخام وخلطها بذائقه الخاصة وما يعتمل في داخله من مواد ملونة وأصباغ الخبرة المكانية والزمانية من نسمات المحيط وعبق الأمكنة المهترئة ورائحة الطين والأصوات المبحوحة للباعة الجوالين وعربات البرتقال و(الببوش) وساقي الماء بعرضه الفني البديع مع أصوات كؤوسه النحاسية المصاحبة لجسده المتزين بملابس غرائبية لا تخلو من موروث شعبي مغربي كجوقة أبدية ووجوه العابرين والأبواب المحصنة لباب مراكش في المدينة القديمة ورائحة الألبسة الجلدية والتي تختلط في مضغة عجيبة تتجسد على أسطح مهترئة بالية تمتد إلى الذات وتصل إلى الجسد المتلقي في حلتها الجديدة فالاستقبال يصبح بصريا وليس سمعيا كما كان في حالته الأولى هي خطوط وألوان متعرجة ومتداخلة وأطياف لحالات متبقية منذ حين وبقايا كتابة تنحشر في زوايا اللوحة وكولاج لقصاصات تم تحويرها إلى أعمال فنية تجنح إلى التزيينية في الكثير من الأحيان غالية من السر القصصي .
باعتبار أن الكتابة عملية عكسية للرسم فكل ما يُكتب يستقبل كصور وكل ما يرسم يستقبل كنصوص وقصص، جاءت نصوص الغرباوي المكتوبة في كتابه الجميل عزفا منفردا على إيقاع البتر لنص يحمل نفس العنوان وصف دقيق ووضوح في الصور المرسومة وهذا جزء من النص (في الطريق الخالية المبللة بمطر الشتاء...في الطريق إليها ... موالُ ...حزين... موال ليس يدري من أين يأتي ولعله من تلك النافذة المفتوحة، المسدولة الستار ..الستار الوردي الذي تناوشه ريحُ هادئة ..ريح مسالمة...) وبخلاف نصوصه المرسومة في أعماله الفنية فهي تجنح إلى التجريد فأفكارها مجردة، خالية من أي سر أو وصف يشوبها الغموض في أغلب الأحيان رغم ألوانها المفعمة بالحيوية والنشاط وتداخل بعض الرموز المحشورة بين مقاطع هندسية صارمة وكتل لونين صريحة الألوان.
*فنان تشكيلي من ليبيا
2013.07.10

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح