دائرة الشمس: عَن النّاشر والمؤلّف والمترجم والقارئ 2/1 ./ أحمد العلي


 
 من أعمال الفنان التشكيلي العراقي علي رشيد*

دائرة الشمس: عَن النّاشر والمؤلّف والمترجم والقارئ  2/1 ./ أحمد العلي
النّشر، والقراءة، والكتابة، والترجمة، ليست مفردات. إنها أسئلة. تُمكنُ صياغة سؤالٍ مُكتمل النضج والفرادة، بكلمة واحدة، ويبدو ارتجالياً وعَجِلاً التعليق على أحد تلك الأسئلة بالقول: وماذا عنها؟، إذ في أزمنة الغربلة الكُبرى، حيث («حيث» هنا مقصودة) يمّحي الفارق بين الخير والشر، الإبداع والاتباع، الولادة والاحتضار، يكفي أن تقولَ مثلاً «الحُريّة» حتى ينتقل وجع السؤال من قلب السائل إلى قلب المُخاطَب. وهذه علامة، في زعمي، على أن الإشكال هُنا جذري، جذري تماماً، ودقيق، مثل شريانٍ مُغلق.

لا تنعطف ثقافةٌ ما، بغتةً بكلتا قدميها وبكامل ثقلها، نحو ترجمة أعمالٍ أدبيّة من لغات أخرى إلى لغتها، وإلى إعادة نشر ما قامت بترجمته مسبقاً، كما يحدث الآن عند العرب، إلّا إذا كانت تُعاني من الفقر؛ افتقارٌ لمؤلّفات، بوصفها مُنتَجات إبداعيّة مُلهِمَة، وافتقارٌ لمؤلفين، بوصفهم مُنتجي أفكار. وليس الحِراك الترجمي، الذي عاشته ولا تزال تعيشه ثقافات العالم بدرجات متفاوتة، سوى محاولة لضخ الدم في أجسادٍ جافّة. ففي حال أنّ عطش القُرّاء يُروى بما يُنتجه مؤلّفو لغتهم وثقافتهم، يكون الإقبال على الأعمال المُترجمة ضئيلاً، إذ يكفيهم أن يعرفوا أن ثقافتهم تُشارك في تحضُّر العالم وتطوره، وإنها قادرة وزاخرة وساحرة وغزيرة، وأن عليهم أن يُفردوا وقتاً مديداً ليتعرّفوا على إرثهم الأدبي، ماضيه وحاضره. لهذا لا يُترجَم إلى الإنكليزية والألمانية، مثلاً، سوى القليل، مقارنة بما يُترجَم عنهما. بكاء الطفل علامةٌ متأخّرة على جوعه، إنه يبكي إذا تضوّر، وهذا حالُ الترجمة إذا استبسَلَت في ثقافةٍ ما، إنها علامة متأخّرة على اشتداد الجدب.

لا أستطيع أن أرى الكاتب سوى أنه مُنتِجٌ للأفكار. هوَ ذا. كيفما صاغها وكيفما أدّبَها. الكاتب هو أفكاره. لهذا يعرفُ الكثيرون أفكار نيتشه، مثلاً، من دون أن يقرأوا له مؤلّفاً واحداً. ولهذا يعتقد الكثيرون أيضاً أن أدونيس، مثلاً، يستعيرُ أفكارَ غيره من دون أن يستطيعوا تذوّقَ أيّ من نصوصه الطويلة. ولهذا أيضاً استطاعت السيريالية والرومانسية والواقعيّة، من بين حركاتٍ أخرى، أن تتجلّى في الرواية والشعر والرّسم والسينما. إنها الفكرة، كيفما تناوَلتَها، أينما رحلتَ بها. وعَطفاً على ذلك، لا يُمكنُ الخروج بهذه الفكرة، الفكرة الماسَة، سبيكة الذهب، أو قُل جُرعة الأنسولين أو حتى ترياقُ الموت، إلا بالتأليف. التأليف هُنا، في سبيل إنتاج الأفكار، يختلف جوهريّاً عن تجميع النصوص أو الحكايا وإصدارها في كتاب. ما نمُرّ به الآن من عطشٍ للترجمة لا يُحيل إلّا لأمرٍ واحدٍ: أنّ ما يُكتَبُ الآن بالعربيّة يُكتَبُ بذهنيّة الكَنس والتجميع. أن تكتُبَ قصيدةً هُنا وقصيدةً هُناك، عن هذا وعن ذاك، أو روايةً تتقافزُ فيها الشخصيات والأحداث من دون نمو، لا فرقَ بين السطوح وغُبارها، ثُمّ تأتي بالمكنسة، وتكنس هذا كله في زاوية، وتجمعه وتُخرجه في كتاب، لا ناظِمَ إبداعياً لصفحاته كيفما كان؛ لا حياكة ولا سَبر ولا غَور ولا ضوء ولا حتى عتمة، تلك العتمة العارفة، يُشبه أوّله آخره، وحتى لو قرأته مقلوباً، فلن تصل لأمرٍ ما. ما الّذي يحدث هنا؟ تحدث الكتب، لا المؤلّفات. يحدُثُ الكُتّاب، لا المؤلفون. يحدُثُ الخواء، لا الفكر.

وهذا ما يُفسّر بؤس النقد في هذه الحقبة الزمنية ومجانيّته، فالنقاد يشتغلون في مناحل، يقبضون على الاحتمال المتحقق للعسل في خلايا الشمع، أي الأفكار في المؤلّفات، غُبار الطلع لا يُشغلهم، فهو غُبارٌ ولا يُمكنُ القبضُ عليه أو على فضائه. التأليف الأدبي يشبه كثيراً التأليف الأكاديمي (علينا إعادة الاحترام للأكاديميّة هُنا والكَف عن استصغارها، والتفريق بين المؤسسة الأكاديمية والعمل الأكاديمي)؛ الجزء البحثي هو ما تفتقر إليه أعمالنا الأدبية؛ عُلومُ الياسَمين: أن تجلس إلى طاولة وأن تسهر، تتوامَض، تنضو الثيابَ وتنزِعُ للقول، تسمع طَرق المعاول والمناجل في رأسك، تُغربل الأعمال التي ألهمتك وتُشير وتُطوّر وتحذف وتُضيف، أن تحاور بعملك الأدبي أعمالاً أُخرى، تُحاكي وتبتدع وتتوافَق مع وتختلف عن، تُحيّي الفجرَ وتُحيّي الغروب وتفوتك الحياة بينهما عدى ما يجري في رأسك، تُفرغ نفسك من الناس وتملأها بالناس؛ أنتَ الآن تؤلّف، تُطلق في عراء الحياة حيواناتٍ جديدة، وعواء لا يُشبه العواء، تترُكُ العظامَ تنمو في العظام، أنت تبحث، أنت تخترق وتُحلّل وتصوغ وتُعيد الصياغة وتخاف وتخشى وتتساءل وتُكابد وتأتي وتذهب في مكانك. أنت الآن تؤلّف. فيك جسارة الكمأة وخطوات المنتقم كاتماً في صدره حكاية طويلة وملتهبة، أنتَ لا تضُمُّ الخيوط، أنتَ تغزل. أنت لا تُراكم الطوب، أنت تبني.

لكن، إن كانت الترجمة حقاً محاولة إنعاش، فلا نجاة بها مع مترجمين يأتون من خلفيّة تشبه تلك المُنتجة للكُتُب، الكَنس والتجميع، لا الأرضية الصّلبة المُنتجة للمؤلّفات. أعني ترجمة المتفرقات، بلا خطة ولا نسغ. ترجمة الأوراق القاتمة لا الأشجار. ترجمة أوّل الزّفاف وحسب. الترجمة المتطايرة. لا معنى لاجتزاء مقاطع أو أقوال لمؤلّف عالمي، أو رسالة أخيرة، أو مقابلة مبكّرة لأديب ثقيل الوزن.

اجتزاء المشاريع ليس مشروعاً. الريشةُ ليست الطائر. لسنا بحاجة، كُتّاباً وقُرّاء، لكُتُب جديدة، بل الحاجة ماسّة لمؤلّفات جديدة، لفهم ذهنيّات بناء الأعمال الأدبية، ذهنيّات إنتاج الأفكار، وهذه لا تمكن مقاربتها إلا بقراءة مؤلّفات كاملة: عمل روائي كامل، أو ديوان كامل، أو مختارات من مُجمل أعمال أديبٍ ما، أو منتخبات تُعطي صورة عن حركة أدبية ما. هكذا فقط تستطيع الثقافة أن تُفيد من الترجمة. بيد أن الحِراك الترجمي الآن مرفوعٌ بضميرٍ رديء، إننا نرى حولنا، أنا وأنت، أدباءً عالميين مُنسرحين مع بعضهم في وئام ويتناوبون في الظهور أمامنا تناوُب الأشباح من دون أن نعرف كيف يختلفون عن بعضهم وما هي أفكارهم، كأنهم أصدقاء أبديّون، كأنهم عاشوا في زمنٍ واحدٍ وتقارعوا الكؤوس. إننا نُصنّفهم على أنهم أدباء عالميون وحسب. هُم في جهة، ونحن في الأخرى. هم الضفّة المقابلة. ألا تتآكّلُ المرارةُ منكَ الحَشَى لهذه الصبيانيّة؟ لا يجيء التعلُّم إلا بالغرق في العمل الأدبي، لا بالتشتّت في آراء جاهزة ومقاطع مبتسرة من مقولات هذا الشاعر أو عَمَل ذاك الروائي. هذا الأخير هو عمل صحافي لا غير، هدفه العَرض والإعلام، وهو بشكل آخر: استماتةٌ للالتصاق بأسماء ثقافية كبيرة في بُلدانها للهرب من الواقع الأدبي العربي وواجباته، جهلاً به وبمستقبله.

هكذا يتم استسقاط كل ما يعنيه ذاك الأديب العالمي في ثقافته على المترجم، مما يجعله يشعر بأنه لَمِسَ أطراف الكون واستحقّ كل الجوائز الأدبية. وجهٌ للشقاء آخر. أيُّ مجنونٍ هذا الذي يشقى هكذا، يَرمي نفسه للهباء، ونيرانُ المُخيّمات البعيدة تومِضُ له؟ ويُخيّلُ ليَ الآن أنّ المُترجم سبّاحٌ قوي، أو صاحبُ زَورَق، لكنه يحومُ في المياه، تُغيضه الأعماق ويَنسى أنه مُسافرٌ بين ثقافتين، عَبّارٌ للأفكار، ينسى أن الناس لا ينامُون في قاع البحر! إنهم هناك خلف الضفاف. وفي النهاية، الترجمة ثوبٌ مُستعارٌ، كالحياة عند الأفوَهِ الأودي، ليست مكاناً للإقامة. أُرسو. (يتبع).

شاعر وكاتب من السعودية

المرحع:
http://www.ila-magazine.com/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A.html


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح