التشكيل من خارجه / علي النجار

Najjar Art

التشكيل من خارجه / علي النجار

 
ليس احتراف التشكيل كما هو معهود إلا فخا لموته. وما تكريس الفنان منقذا الا وهم تجاوزته الأيام, لصالح أحلام باتت مؤجلة دوما. الريادة الآن(ليس بالمعنى الواسع) لأشخاص نصب لهم الفن فخا من حيث لا يدرون وفي زمن كانوا غافلين فيه عن قدراتهم الإبداعية(حادثة سقوط طائرة, مرض مفاجئ , فكرة بنت لحضتها, إشاعة ذائقة مزيفة بوسائل اعلام فاعلة, اختراق التشكيل من خارجه). لم تتشكل لكل من هؤلاء الفنانين القادمين من المجهول عادات أدائية مكتسبة من فترات دراسة الفن او اساتذته او من تقليد المتوفر من اعمال فنية ان لم نقل إبداعية. مساحة إبداعاتهم الغفل هذه كان لها فضل اختراق ابرز مناطق الاداء والتعبير الجديدة, وهي ملح المعاصرة وطعمها الحريف. لم يكن الدارج او البارز من الحركات او الأعمال أو الاطروحات التشكيلية او الفنية عموما بهذه السعة كما هي الآن, كما ليس بالأمكان تصور مدى حرية الأداء وانفلاتها كما هي بهذا الاتساع او الانذهال المنفلت من كل الأطر.
ليس الأمر مجرد صدفة, حداثة القرن العشرين حاولت جهدها الغاء ما قبلها و لم تستطع تجاوز مكتسباتها التقنية في ذروة عطائها. ولكل حداثة على مدى التاريخ امتداد لما بعدها, هي في اغلب الحالات نقيض بنسب معينة لها. وما تحاول ما بعد حداثتنا الان انجازه ليس من السهولة الألمام به. هي حركة دائبة لا ئبة كبندول الساعة يمينا وشمالا, او هي كاللولب في حركته الضاغطة اللولبية. إنها لم تلغي ما قبلها حتى تخوم التاريخ, ليس استنساخا, بل استعارة بصور شتى لا تعفي الجد من الهزل الا في حدود فهمها النقيض للثابت, المراوغ و المتحرك. لم تلغي الهامش على حساب المتن, يتساوى الاحتراف فيها من عدمه, بل يتجاوزه غالبا.

 
الفن الرديء, فن الزنوج,الفن النسائي, فن الجسد(أداء الجسد), فن الأرض(البيئة), الفن ألمفاهيمي, الفن المختزل, الإنشاء في فراغ, الفن التركيبي, فن الفيديو ,الفن المحيطي, الرسم الحركي ,التشخيص المرتبك, ما بعد الرمزية, كرافيك الكومبيوتر التشكيلي و الفوتو, النزعة البدائية او الطوطمية الجديدة ... الخ من المسميات او الابتكارت التي لا حصر لها والتي من الممكن ابتكارها في اية لحظة. لم تلغي المعاصرة الفرد, لكنها شيأته مركزا جديدا, تتنازعه ذاته نفسها ومحيطها, في أوربا أو أمريكا أو اليابان( مثلا ). هو أيضا لم يكن بعيدا كل البعد عن مكتسبات المعاصرة الفنية, بما انها من ضمن مستهلكاته الاخرى على مدار حياته ,كبضاعة أو متعة, أو أداء جاد و فنتازي و هازل. منذ ولوجه الروضة طفلا صغيرا مغرق بالالوان والاشكال الفنية( أعمال ورقية أو أصلية, أشكال متحركة, شاشة صغيرة وكبيرة). من كل هذا الكم العابر لا بد ان يلصق به شيء ما, ربما يحرك دواخله لانتاج معادل فني, مخيال بصري في مرحلة ما من مراحل حياته.
أوقات الحالات المرضية الحرجة, خيبات الجسد, انتكاساته الكبرى, سرعان ما تجد لها متنفسا في مجال الأداء الفني التشكيلي, تتضافر فيه تقنية مكتشفات المعاصرة الصورية الصورية, الضوئية والمواد الخام. باداءاتها التشكيلية المختلفة مع هامشها الأرشيفي المدون. خيبات الجسد هذه عامة في زمننا, أورام, ايدز, جنون الحيوانات, جنون الجينات وجنون التاريخ المتسارع ... الخ . استنزاف الجسد المتباطيئ هذا لا يمنع قدرات الادراك المتبقية من الامساك بلحضاتها الحرجة. التاريخ الذاتي والجمعي باشكاله المتعددة وفي حالات استرجاعاته القصوى أحيانا ما يوفر للمريض مساحة مفتوحة للاداء الفني(علاجا, تطهيرا, استدراكا لأزمنة وتواريخ ضائعة). ليس للاحتراف الفني سطوة في كل ذلك, كما نوهت. هي بحال من الاحوال تستقي من خزين الجسد المطمور بوحها الشخصي, في محاولة للأفلات من العدم,. أو, ربما وهم إنقاذ الجسد. بما أن الجسد هو الحاضن الأول والأخير لبذرة فنائه, وهو المعني بقدراته على إدراك ذلك بوسائله الخاصة. بوحه التعبيري الفني ببساطته او تعقيداته التي تتناسب ولحضة التعبير الأدائية, بما يوازي مفاعيل محركات ذهنية المريض, لحظة إدراك, أو استجلاء عوالمه الخفية التي كانت هامدة خلف ضبابية حفاؤها.

 
هل بإمكاننا اعتبار النتاج الابداعي للمصاب بالورم السرطاني وثيقة, ام فنا. من اجل إدراك ذلك علينا قراءة معمقة لنماذج عديدة من نتاج هؤلاء المرضى. ويبدو لنا من الوهلة الأولى انعدام أي تصنيف بإمكانه ان يظم بين دفتيه هذا النتاج, لاختلاف المحركات الشخصية والوجدانية لكل منهم. كذلك لاختلاف المناخ والجغرافية(المحيط الحاضن). ليس المر مقتصر عليهم, فليس هناك أيضا من خط واضح في نتاج اشهر فناني اليوم, مثل الذي لا يتعدى نتاجهم غالبا إعادة صياغة منتجات الآخرين, من خلال التلاعب بالاحجام واعادة تفسيرها بصياغات لا تبتعد عن الأصل إلا بمقدار بما يلاءم المزاج العام, وغير بعيد عن سلطة الإعلام(الميديا) النافذة. إن كانت الميديا توفر لمحترفيها فرص كبرى. فإنها أيضا توفر, بنسبة ما, فرص مماثلة, ولو بنسبة ما, لاستغلال, أو استثمار, نتاج فن المرضى, من خلال(جمعيات مرضى السرطان) و ترويجه كوثائق عاطفية مؤثرة تتناسب ومستوى طموح الجمعية او الهيئة الراعية نفسها.
الوثيقة المدونة في حالة عرضها ضمن شروط العرض الفني المتعددة لا تنفصل عن هاجس العمل الفني الذي هو في حصيلته النهائية وثيقة ما, سواء كانت بوح ذاتي او معلومة واضحة او مشوشة, ملغزة أو غامضة. والعمل الفني المرافق لها هو الاخر لا ينفصل عن كونه وثيقة صورية, حركية, مدونة بوسائل اخرى لا تبتعد عن الاولى الا بقدر ادهاش وسائلها نفسها. هذا لا يعني ان مساحة الادهاش واحدة في كل الأحوال. ما يميز وثائق المرضى حميميتها العالية ولغتها العاطفية التي تداري الحالة المستعصية باقتباسات مرادفات وتفاصيل دقيقة لا تمت لثقل المفردة الحياتية المتداولة في منطقة سطح الحياة العائم فوق كم الاوهام الغير واقعية الهائلة. جرح اللغة المختزل هذا الذي يعاود الظهور في هكذا مدونات كثيرا ما يؤدي غرضه الشارح للعمل الفني, المرافق له. وليس بالضرورة تطابق العمل الفني ومدونته المكتوبة. ربما تكون شفرة الاشارات المختزلة هذه, في معظمها ابلغ اثرا من التدوين الكامل لسيرة المرض. لكن, أحيانا ما يمكن الاستعاضة عن الأعمال الفنية بهذه الوثائق وإمكانية إخراجها كعرض تشكيلي متكامل. المهم, كيف يتم عرضها (وثيقة أصلية, عرض فيديوي) وغيرها من الوسائل العديدة التي تقرب فحوى النص للمتلقي, او تقدمه كقراءات متعددة. هذا النهج لا يبتعد عما ما اقترحته الاعمال التشكيلية ( المفاهيمية ) منذ حوالي نصف قرن. التي لم تبتعد في معظمها عن محاولة رؤية وتفسير مستحدث لانماط الأداءات التشكيلية الجديد التي تدمج الوثيقة الزمنية(الفيزيقية) والوثيقة المعلوماتية بلب العمل التشكيلي في محاولة لكسر حدوده. كما فعلها(مانزوني و ييف كلين, مارسيل بروثار, روبرت اسمتشون, كارل اندريه, دونال جود و روبرت موريس .....)
.............................................

قراءة موجزة لمقتطفات من بعض الوثائق المصاحبة للأعمال التشكيلية لمرضى السرطان
ـ الوثيقة الأولى
Christian Corbat
عنوان العمل ( ضرورة )
الأمازونية , القربان .. قياس العمل ( 5 25 89 ) انج
ماذا تريد اعمالي ان تقول. هل تقول ان جسدي سوف يتحطم. في هذه القضية انا فقدت ثديي. هذا لا يعني تحطم روحي الانسانية .. في اول الامر احس في داخلي سحرا ما يقودني الى عدم الاسترسال في تحطيم الذات. ما يهمني انه اولا واخيرا فانا بقيت على قيد الحياة و وهذا مهم ......
..........................................................
الوثيقة الثانية
Sharon DeNault
عنوان العمل ( الذي يجرح )
دراسة بالباستيل لعمل نحتي .. القياس ( 25 21 )انج
................................................................
تجربتي الاولى مع مرض ( السرطان) كانت في العام ( 1982 ) وفي عام ( 1987 ) لم اكد متاكدا من بقائي على قيد الحياة , وكانت صدمتي بالطلاق ساحقة في هذه الاوقات . لتعلقي بالحياة , كنت ااود ايضا ان اعيش . خلال انفصالي ( طلاقي) . هناك شيئ واحد حافظ على سلامة عقلي , وهو اشتباكي وعملي الفني ....
...........................................................
الوثيقة الثالثة
Dorothy Bryan
ورق وحبر هندي وباستيل
عنوان العمل ( ملعب البولنك الاخضر)
.................................................
اشعر بحاجتي الى قذف الاشياء من حولي . نفذت هذا العمل بالحبر الهندي الاسود وورق الالوان المائية وبطريقة عنف الفرشاة العريضة والماء . هذا الأمر يريحني . انا اريد ان ادون شيئا على الورق . الباستيل البنفسجي يعبر عن عنفي الداخلي الصارخ ....
................................................
الوثيقة الرابعة
Dian Katsiaficas
عنوان العمل ( اشتباك الانعزال)
قدم (4x4x4) نحاس اصفر وسلك حديد
..............................................
هذا الإنشاء في الفراغ , الذي كما يبدو عبارة عن كتلة استعراضية من النحاس الاصفر , يشتبك في ان معا مع الأرضية المسرحية .. لقد حاولت تجسيدها مع زميلي(تومسان روز ) كانشاء يجسد ذاكرتي(ذاكرة المرض) و يعكس في ان معا مصدرها الذاتي ....
..............................................................

الوثيقة الخامسة
Libby Ellis
عنوان العمل ( انا و السرطان )
كتاب من قطع مجلدة .. قياس ( 10 8 ) انج
........................................
في السابع والعشرين من ايلول ( 1989 ) احتفلت بعيد ميلادي السابع والعشرين. كان وضعي مقبولا كمساعد مدير لمجلة متخصصة في الرحلات والتسلية تصدر في مدينة نيويورك. حينما شخصت إصابتي بالسرطان. خضعت خلال عام للعلاج الأشعاعي والكيمياوي. كان عاما تشاكسني وتخترقني فيه الاحلام قبل النوم وبعده واشعر بان حياتي ككرة من طين في يدي, في مقاييس متعددة اشعرها غير مستقرة. مع كل ارتيابي هل بامكاني ان اشكلها كما اريد . حينها انفتحت حياتي على نفسها كشريط سينمائي ناعمة ومحترمة.
................................................
الوثيقة السادسة
Sharry Thomas
عنوان العمل(العالم الآخر لفقدان الثديي. أو , لا استطيع فهم فقدان ثديي)
فديو ( 10 ) دقائق عرض
..............................
يتناول عمل الفديو هذا مرض سرطان الثديي . شاركت في انجازه ثلاث نساء . اثنتان كتبتا النصوص النثرية والشعرية التي تدور حول فناء وتهتك جسد والدة احدى النساء الثلاث المصابة . عرض الفديو هذا يكرس البحث عن مدلولات الحياة والموت . منطلقا من تصريح المصابة بعدم فهمها علة مرضها . انه بشكل من الاشكال مكرس للبحث عن العالم الخفي لعلة فقدان الثديي .
...............................................

في استعراضنا لهذه المجموعة من الاعمال المنتقاة بشكل عشوائي من مجموعة كبيرة تدون نفس العلة. نكتشف مدى التنوع الاسلوبي والادائي وبوسائل وفرتها بشكل من الاشكال مساحة المعاصرة المنفتحة على تخوم المعلوم والمجهول. ان لم تشكل هذه الاعمال بعض مصادرها الكثيرة. كما لم تبتعد هذه النصوص المجتزأة هي الاخرى عن مساحة الاداء التشكيلي المعاصر الذي تختلط من خلاله المادة(المادة الاولية لصناعة العمل) والهاجس الإنساني والحياتي البسيط والمعقد. ولو اطلعنا على نتاج مرضى ( الايدز ) الفني أو تهويمات المدمين على الكحول وما شابههم. فإننا سوف نكتشف مقاربات لنتائج نماذج هذه المجموعة, نفس الهاجس الجواني أوالدنيوي. ثقل تفاصيل الحياة وهوامشها الأكثر سرية.
...................................................

لو دققنا في كم الاستلاب الذي عاناه الانسان العراقي خلال عهود عديدة غير بريئة. وكم الخراب البيئي والانساني الغير معقول . وانتشار امراض معروفة كالاورام السرطانية وامراض القلب والدماغ الصاعقة, أو أمراض العصر الأخرى الغامضة التي أفرزتها فترات الحروب واسلحتها القذرة.
لو وفرنا فرصة التعبير الفني بوسائل بدائية او متقدمة لهؤلاء المرضى في العراق والدول العربية, ولو انتبه التشكيل العراقي(المحترف) لما تفرزه بيئته من ظواهر جديدة تستدعي حفز الهمم لتناولها بما توفره مساحة المعاصرة من بحث واداء وتجريب لا حدود له. لو توفر لنا فهم زمننا, و كل الوسائل متوفرة لفهمه الآن وفي أي مكان من المعمورة, حينها نكون ولجنا بعض اسرار مععاصرتنا الفنية في عصبها الأكثر انسانية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح