أين تكمن قوة الفن ؟ / فاروق يوسف
أين تكمن قوة الفن ؟ / فاروق يوسف شاعر وناقد من العراق
يوم حطّم بيكون كرسيّ فيلاسكيز
حين رسم فانسان فان غوغ كرسيّه في غرفته بآرل الفرنسية لم يكن يفكر في كرسي جوزف كوست. مَن خدع الآخر، فانسان أم فان غوغ؟ ولكن كيف يمكن أن يكون الكرسي، وهو مادة استعمال يومي، ملكاً لفرد دون سواه، بغض النظر عن قوة ذلك الفرد السحرية؟ كرسيّ فانسان هو ما رسمه على قماشة اللوحة التي أعدّها الرسّام بنفسه. لن تكون للكرسي الواقعي أي قيمة تذكر بعد الرسم. صار ذلك الكرسي كائناً متخيّلاً، هو جزء من عدّة الرسام إذ يواجه مشكلة البعث يوم القيامة مصحوباً بكائناته التي اخترعها. سيكون عليه أن يجعل كرسيّه يتكلم، وهو من خشب وقش، كما لو أنه يدلي باعترافه الأخير. لقد دأب فانسان على الزج بكائناته في الأيام الحرجة من حياة الكائن القلق والحائر الذي هو نفسه. أما كرسيّ كوست فإنه لا يزال يرتاح إلى أنسنته التي لا تضطر إلى العودة إلى الفن بعدما غادرته. الكرسيّ يعيش معنا. لا يفرق مفهومه عن العيش بيننا وبينه. حيرته تنفعنا في تفسير وجودنا، وصمته يكشف عن الكثير من هذياننا. هل كان ذلك الهذيان ممكناً لولا العمل الفني الذي اخترعه كوست في العام 1965؟ هناك محاولة للتفسير يقدّمها كوست بنفسه. كرسيّ محايد، وآخر في صورته وأخيراً كما لو أنه يفسر وجوده من خلال الكلمات. لقد رسم الإسباني دييغو فيلاسكيز أثناء زيارته لروما في العام 1650 هو الآخر كرسيّا يقعد عليه البابا انوشينت الخامس، وهو الكرسي نفسه الذي حطّمه الإيرلندي فرنسيس بيكون في العام 1953 حين أعاد رسم لوحة فيلاسكيز، لكن بطريقته. لن نرى في العملين الشيء نفسه. أنا على يقين من أن فيلاسكيز سيعجب بكرسيّه الذي حطّمه بيكون. لقد نفخ الرسام الإيرلندي في الكرسي نوعاً من حياة لم يتخيلها فيلاسكيز نفسه، ناهيك بالبابا الذي صار موضع اختبار شكلي جرؤ الرسام على إقامته باعتباره مادة حياة.
لقد حضر الكرسي هنا بمحض المصادفة، كونه الشيء الذي تمكن إعادة تعريفه من خلال الرسم، ولكن الإنسان نفسه كانت قد جرت إعادة تعريفه من خلال الرسم. فنساء غويا، لسن فتيات أفينيون اللواتي رسمهن بيكاسو، ولسن نساء لويزا بورجوا، ولسن نساء موديلياني، ولسن نساء إيغون شيلي. هل نكون مضطرين إلى البحث عما يجمع ويفرّق بين نساء لن يكون علينا سوى الاعتراف بأنهن ينتمين إلى عالم الرسم من حيث كونه محاولة لخلق عالم مجاور؟ مَن يملك الحق في أن يقول إن تفاحة سيزان لم تكن تفاحة، عليه أن يثبت أن بيكاسو لم ير عاهراته الخمس في أفينيون. كان رامبرانت مولعاً في رسم تحولاته الجسدية، من الشباب إلى الشيخوخة، وكان من خلال ذلك الولع النضر يعيد تعريف نفسه.
حين يستيقظ الجمال من نومه
مَن قال "أزيح الغبار عنها، فتخرج كما لو أنها كانت في انتظاري"؟ مايكل أنجيلو أم جاكومتي أم رودان؟ كان ابن عصر النهضة يعرف إلى أين تمضي يداه، من غير أن يكون قلقاً، أما الفرنسي العاشق فسحره عصر البرونز فصار يتلمس طريقه أعمى بلمعان الذهب، وهو الذي ألبس بلزاك في تمثاله عباءة عربية. يبقى جاكومتي الجالس على الرصيف وهو يبكي، كما وصفته سيمون دو بوفوار. لم يكن جماله جاهزاً. ليس لديه ما يؤكد أنه يبحث عن شيء في عينه. لا يعد جاكومتي نفسه بشيء من الأمل، لذلك جلس في السان جيرمان يائساً يبكي. لم يكن بحكم خبرة عذابه يصدّق حكاية الغبار الذي يشفّ عن كائنات جميلة. كانت كائناته تقيم في مكان آخر، لا ينعس فيه جمالها، فهو جمال لا يرضى بالنوم حلاًّ. كائنات جاكومتي لا تنام. هي في حالٍ من المشي الدائم. وهي لذلك تهبنا فرصة النظر إلى جمال لم يروَّض من قبل. هنا تكمن واحدة من أعظم حقائق الفن. الالماني انسيلم كيفر (1954) يسعى في كل عمل من أعماله إلى أن يصدمنا بتلك الحقيقة. هناك جمال يقيم في الكآبة مثلما يقيم في سعادة هنري ماتيس، وهو يلصق قصاصات أوراقه الملونة، بعضها بالبعض الآخر. سيكون علينا أن نتأمل ألغاز الجمال الإنساني في كارثة وجودية تقترح علينا الكثير من الاسئلة. الفن في هذه الحالة يقوّينا، يسلّحنا بقوة جمال غير متوقعة. فنّ جاكومتي، كما هو فن كيفر، يهيئنا لمواجهة جمال مختلف، لم تصنعه اليد بل خيالها. أهذا ما كان يفكر فيه الروماني برانكوزي؟ أعتقد أن هناك الكثير من الجمال المحذوف. في ذاكرة كل عمل فني، هناك الملايين من الصور التي لم تخرج إلى العلن. سيكون علينا دائماً، ونحن ننظر إلى العمل الفني، أن نفكر في احتمالاته الكثيرة التي دسّها الفنان تحت وسادته ليحلم بها. لا بأس. لن يتمكن الفنانون من إخفاء تلك البدائل إلى الأبد. لقد أغرى الجمال خبراءه في البحث عن سر اللون البشري لدى رامبرانت، فاكتشفوا بعد عقود من البحث أن الرسام الهولندي كان يؤسس للبشرة بالصبغة الخضراء. ما كان لجمال البشرة أن يكتمل لدى رامبرنت بغير الأخضر الذي كان سرّه. لم يستعمله أحد من قبله ولا من بعده. أخضره كان بمثابة إعادة لاكتشاف الكائن البشري.
يشبهني كما لو أني أراه
يوم اختُرع الفن (متى حدث ذلك؟) كان الإنسان يقف خارج معادلته. على جدران الكهوف رسم الإنسان القديم ثيراناً، حيوانات كان يستعيرها من الواقع ليحتويها سحرياً، ليسيطر عليها من خلال ذاكرة يده، ولم يفكر في نفسه إلا باعتباره كائناً خائفاً. بعد ألوف السنين (كم عددها؟) سيكتشف الإنسان من خلال الفن أنه يستحق أن تكون الآلهة شبيهة به، كما لو أنه ينحت أو يرسم صورته الشخصية من خلالها. هنا تكمن المفارقة. لم يتشبه الإنسان بالآلهة، وهي التي لا تُرى، بل جعلها شبيهة به فصار في إمكانه أن يراها. في مرحلة لاحقة ستكون مريم، أمّ المسيح، امرأة أوروبية بكل المقاييس، على الرغم من أنها بحسب المرويات المسيحية كانت فلسطينية الأصل. أما كان موسى مصرياً؟ ماذا عن صورة الملائكة في منحوتات عصر النهضة ورسومه؟ لقد تخلت الملائكة عن سيرة خفائها باعتبارها كائنات سموية لتتخذ هيئة أطفال أرضيين، لكن بهوية أوروبية، بسبب مايكل أنجيلو ورافايل ودافنشي وروبنز. الفن صنع هذا كلّه. لقد وهبنا الفن مريم الجميلة بحسب مقاييس عصر لن يقوى أحد على الاعتراض عليه، وجعلنا نتخيل شكلاً لملاك لن يكون في الضرورة صينياً أو هندياً. غير أن الفن كان، على الرغم من كل تلك الأخطاء، قد مهّد لطريقة استثنائية في النظر إلى الإنسان. صار الإنسان بسبب الفن مركز الحياة ومحور التفكير في ما يجري من حوله. لقد ظهر حمورابي في مسلّته الشهيرة وهو يستلهم قوانينه من الإلهة الشمس. الكائن البشري، وهو ملك الجهات الأربع، سجّل حضوره في التاريخ، لا باعتباره نصف إله بل باعتباره إنساناً، ولا برقيّه الجمالي إلى الدرجة التي أهلّته لأن يكون قريباً من الآلهة. سيكون علينا أن نتوقع حدوث حالة من الصمت تاريخي التي ستمتد لقرون، يكون الإنسان فيها ملهماً بقوة الإله، من غير أن يكون قادراً على استحضار كلماته مثلما فعل حمورابي. الفن هو الذي اخترق ذلك الصمت بثرثرته، حين نحت الأشوريون ثيرانهم المجنحة. كان لكل ثور رأس إنسان.
الفن وهو يهذّب الحواس
كيف يمكن الفن أن يكون أخلاقياً وقد نحتت سارة لوكاس قضباناً ذكورية لتعرضها كما لو أنها فاكهة ناضجة؟ المسألة، بكل بساطة، أنه سيكون علينا أن نفكر في الفن لا في ذلك القضيب. سيتم فصل علاقة القضيب غير المهذبة بالأخلاق. في منحوتات عصر النهضة هناك الكثير من القضبان التي لم تكن تستدعي الشهوة. ولم يكن ظهور تلك القضبان ذا صلة بالأخلاق. في جزء منه، لا ينطوي الفن على رسالة أخلاقية، وفق التعريف الاجتماعي للأخلاق. لكن ذلك لا يعني أن الصنيع الفني هو كائن لا أخلاقي، يدعو إلى الفاحشة على سبيل المثال.
الفن الحقيقي يحرّض على العصيان والتمرد والاختلاف وينتسب إلى الحرية المطلقة ولا يقبل بالتسويات الوسطية التي تضعه في ميزان المشاركة في صنع الواقع والقبول به، محافظةً على مسيرة التاريخ. الصنيع الفني كائن لاتاريخي، تذهب به لانفعيته إلى الحدود القصوى من هدم المسلّمات الثقافية.
ما يسكت عنه الكثيرون، أن كل عمل فني إنما يشكل ظهوره خدشاً لحياء الثقافة. هنا بالضبط يظهر المعنى الأخلاقي الملتبس. كانت لوحة "الغداء على العشب" لمانيه، التي عرضت منتصف القرن التاسع عشر قد شكلت صدمة أخلاقية للكثيرين، لكنها بعد ذلك شكلت نظاماً أخلاقياً، صار الفنانون يتعلمون مفرداته كما لو أنها جزء من النظام الثقافي السائد. لا يحتاج المرء إلى العودة إلى قضيب سارة لوكاس ليتأكد من أن الفن لن يكون واجهة في مخزن لبيع البضائع الجنسية. فالفن، وإن كان لا يعلّم الأخلاق، يهذّب النفس البشرية، يصقل حواسها، من خلال رقيّه وتساميه، وينظّفها ويعي قوتها الأصلية لتكون عوناً للإنسان في مواجهة الشر والقبح والظلم والاستبداد.
نبيّ الكائنات المتحولة
سيكون على النحات الأميركي ريتشارد سيرا أن يضحك الآن من نفسه. فهو بعدما نصب منحوتته، "شرق غرب"، في صحراء قطر، بعيداً من الدوحة، وهي أقرب منطقة مأهولة بستين كيلومتراً، صار على يقين من أن أحداً لن يرى تلك المنحوتة. ألا يعبّر ذلك الفعل العبثي عن تفكير في علاقة الفن بـ"الله"؟ سينظر البدو الرحّل إلى تلك المنحوتة من جهة ما تنطوي عليه من قيم سحرية. تلك هي بقايا أمم اندثرت. سينضم سيرا، من حيث لا يدري، إلى قافلة الأمم الغابرة. سيكون عمله سبباً للإيمان أو للكفر بالقوة نفسها. الأصعب على سيرا، أن تفسَّر أعماله عقائدياً. لكن ذلك التفسير، إن حصل، سيكون نوعاً من الإطراء على قوة الفن.
لا يضحك سيرا لإنه لا يرى مستقبلاً نفعياً لعمله في الصحراء، فعمله في كل الأحوال لن يكون نافعاً (أتذكر هنا عمله الرائع في حديقة المتاحف بأمستردام)، غير أنه يضحك لسبب مختلف. قد يتخيّل البدو أن تلك الانصاب هي من بقايا دين اندثر، كان سيرا نفسه نبيّه. ألم يدرّب سيرا نفسه على النسيان؟ نسيان المعنى بشكل خاص، وهذا ما أربكه حين سأله الصحافيون في الدوحة عن معنى ذلك العمل. لم يقل لهم إن الفن بلا معنى، غير أنه استجار بغضبه فقرّر أن يصمت.
يوم حطّم بيكون كرسيّ فيلاسكيز
حين رسم فانسان فان غوغ كرسيّه في غرفته بآرل الفرنسية لم يكن يفكر في كرسي جوزف كوست. مَن خدع الآخر، فانسان أم فان غوغ؟ ولكن كيف يمكن أن يكون الكرسي، وهو مادة استعمال يومي، ملكاً لفرد دون سواه، بغض النظر عن قوة ذلك الفرد السحرية؟ كرسيّ فانسان هو ما رسمه على قماشة اللوحة التي أعدّها الرسّام بنفسه. لن تكون للكرسي الواقعي أي قيمة تذكر بعد الرسم. صار ذلك الكرسي كائناً متخيّلاً، هو جزء من عدّة الرسام إذ يواجه مشكلة البعث يوم القيامة مصحوباً بكائناته التي اخترعها. سيكون عليه أن يجعل كرسيّه يتكلم، وهو من خشب وقش، كما لو أنه يدلي باعترافه الأخير. لقد دأب فانسان على الزج بكائناته في الأيام الحرجة من حياة الكائن القلق والحائر الذي هو نفسه. أما كرسيّ كوست فإنه لا يزال يرتاح إلى أنسنته التي لا تضطر إلى العودة إلى الفن بعدما غادرته. الكرسيّ يعيش معنا. لا يفرق مفهومه عن العيش بيننا وبينه. حيرته تنفعنا في تفسير وجودنا، وصمته يكشف عن الكثير من هذياننا. هل كان ذلك الهذيان ممكناً لولا العمل الفني الذي اخترعه كوست في العام 1965؟ هناك محاولة للتفسير يقدّمها كوست بنفسه. كرسيّ محايد، وآخر في صورته وأخيراً كما لو أنه يفسر وجوده من خلال الكلمات. لقد رسم الإسباني دييغو فيلاسكيز أثناء زيارته لروما في العام 1650 هو الآخر كرسيّا يقعد عليه البابا انوشينت الخامس، وهو الكرسي نفسه الذي حطّمه الإيرلندي فرنسيس بيكون في العام 1953 حين أعاد رسم لوحة فيلاسكيز، لكن بطريقته. لن نرى في العملين الشيء نفسه. أنا على يقين من أن فيلاسكيز سيعجب بكرسيّه الذي حطّمه بيكون. لقد نفخ الرسام الإيرلندي في الكرسي نوعاً من حياة لم يتخيلها فيلاسكيز نفسه، ناهيك بالبابا الذي صار موضع اختبار شكلي جرؤ الرسام على إقامته باعتباره مادة حياة.
لقد حضر الكرسي هنا بمحض المصادفة، كونه الشيء الذي تمكن إعادة تعريفه من خلال الرسم، ولكن الإنسان نفسه كانت قد جرت إعادة تعريفه من خلال الرسم. فنساء غويا، لسن فتيات أفينيون اللواتي رسمهن بيكاسو، ولسن نساء لويزا بورجوا، ولسن نساء موديلياني، ولسن نساء إيغون شيلي. هل نكون مضطرين إلى البحث عما يجمع ويفرّق بين نساء لن يكون علينا سوى الاعتراف بأنهن ينتمين إلى عالم الرسم من حيث كونه محاولة لخلق عالم مجاور؟ مَن يملك الحق في أن يقول إن تفاحة سيزان لم تكن تفاحة، عليه أن يثبت أن بيكاسو لم ير عاهراته الخمس في أفينيون. كان رامبرانت مولعاً في رسم تحولاته الجسدية، من الشباب إلى الشيخوخة، وكان من خلال ذلك الولع النضر يعيد تعريف نفسه.
حين يستيقظ الجمال من نومه
مَن قال "أزيح الغبار عنها، فتخرج كما لو أنها كانت في انتظاري"؟ مايكل أنجيلو أم جاكومتي أم رودان؟ كان ابن عصر النهضة يعرف إلى أين تمضي يداه، من غير أن يكون قلقاً، أما الفرنسي العاشق فسحره عصر البرونز فصار يتلمس طريقه أعمى بلمعان الذهب، وهو الذي ألبس بلزاك في تمثاله عباءة عربية. يبقى جاكومتي الجالس على الرصيف وهو يبكي، كما وصفته سيمون دو بوفوار. لم يكن جماله جاهزاً. ليس لديه ما يؤكد أنه يبحث عن شيء في عينه. لا يعد جاكومتي نفسه بشيء من الأمل، لذلك جلس في السان جيرمان يائساً يبكي. لم يكن بحكم خبرة عذابه يصدّق حكاية الغبار الذي يشفّ عن كائنات جميلة. كانت كائناته تقيم في مكان آخر، لا ينعس فيه جمالها، فهو جمال لا يرضى بالنوم حلاًّ. كائنات جاكومتي لا تنام. هي في حالٍ من المشي الدائم. وهي لذلك تهبنا فرصة النظر إلى جمال لم يروَّض من قبل. هنا تكمن واحدة من أعظم حقائق الفن. الالماني انسيلم كيفر (1954) يسعى في كل عمل من أعماله إلى أن يصدمنا بتلك الحقيقة. هناك جمال يقيم في الكآبة مثلما يقيم في سعادة هنري ماتيس، وهو يلصق قصاصات أوراقه الملونة، بعضها بالبعض الآخر. سيكون علينا أن نتأمل ألغاز الجمال الإنساني في كارثة وجودية تقترح علينا الكثير من الاسئلة. الفن في هذه الحالة يقوّينا، يسلّحنا بقوة جمال غير متوقعة. فنّ جاكومتي، كما هو فن كيفر، يهيئنا لمواجهة جمال مختلف، لم تصنعه اليد بل خيالها. أهذا ما كان يفكر فيه الروماني برانكوزي؟ أعتقد أن هناك الكثير من الجمال المحذوف. في ذاكرة كل عمل فني، هناك الملايين من الصور التي لم تخرج إلى العلن. سيكون علينا دائماً، ونحن ننظر إلى العمل الفني، أن نفكر في احتمالاته الكثيرة التي دسّها الفنان تحت وسادته ليحلم بها. لا بأس. لن يتمكن الفنانون من إخفاء تلك البدائل إلى الأبد. لقد أغرى الجمال خبراءه في البحث عن سر اللون البشري لدى رامبرانت، فاكتشفوا بعد عقود من البحث أن الرسام الهولندي كان يؤسس للبشرة بالصبغة الخضراء. ما كان لجمال البشرة أن يكتمل لدى رامبرنت بغير الأخضر الذي كان سرّه. لم يستعمله أحد من قبله ولا من بعده. أخضره كان بمثابة إعادة لاكتشاف الكائن البشري.
يشبهني كما لو أني أراه
يوم اختُرع الفن (متى حدث ذلك؟) كان الإنسان يقف خارج معادلته. على جدران الكهوف رسم الإنسان القديم ثيراناً، حيوانات كان يستعيرها من الواقع ليحتويها سحرياً، ليسيطر عليها من خلال ذاكرة يده، ولم يفكر في نفسه إلا باعتباره كائناً خائفاً. بعد ألوف السنين (كم عددها؟) سيكتشف الإنسان من خلال الفن أنه يستحق أن تكون الآلهة شبيهة به، كما لو أنه ينحت أو يرسم صورته الشخصية من خلالها. هنا تكمن المفارقة. لم يتشبه الإنسان بالآلهة، وهي التي لا تُرى، بل جعلها شبيهة به فصار في إمكانه أن يراها. في مرحلة لاحقة ستكون مريم، أمّ المسيح، امرأة أوروبية بكل المقاييس، على الرغم من أنها بحسب المرويات المسيحية كانت فلسطينية الأصل. أما كان موسى مصرياً؟ ماذا عن صورة الملائكة في منحوتات عصر النهضة ورسومه؟ لقد تخلت الملائكة عن سيرة خفائها باعتبارها كائنات سموية لتتخذ هيئة أطفال أرضيين، لكن بهوية أوروبية، بسبب مايكل أنجيلو ورافايل ودافنشي وروبنز. الفن صنع هذا كلّه. لقد وهبنا الفن مريم الجميلة بحسب مقاييس عصر لن يقوى أحد على الاعتراض عليه، وجعلنا نتخيل شكلاً لملاك لن يكون في الضرورة صينياً أو هندياً. غير أن الفن كان، على الرغم من كل تلك الأخطاء، قد مهّد لطريقة استثنائية في النظر إلى الإنسان. صار الإنسان بسبب الفن مركز الحياة ومحور التفكير في ما يجري من حوله. لقد ظهر حمورابي في مسلّته الشهيرة وهو يستلهم قوانينه من الإلهة الشمس. الكائن البشري، وهو ملك الجهات الأربع، سجّل حضوره في التاريخ، لا باعتباره نصف إله بل باعتباره إنساناً، ولا برقيّه الجمالي إلى الدرجة التي أهلّته لأن يكون قريباً من الآلهة. سيكون علينا أن نتوقع حدوث حالة من الصمت تاريخي التي ستمتد لقرون، يكون الإنسان فيها ملهماً بقوة الإله، من غير أن يكون قادراً على استحضار كلماته مثلما فعل حمورابي. الفن هو الذي اخترق ذلك الصمت بثرثرته، حين نحت الأشوريون ثيرانهم المجنحة. كان لكل ثور رأس إنسان.
الفن وهو يهذّب الحواس
كيف يمكن الفن أن يكون أخلاقياً وقد نحتت سارة لوكاس قضباناً ذكورية لتعرضها كما لو أنها فاكهة ناضجة؟ المسألة، بكل بساطة، أنه سيكون علينا أن نفكر في الفن لا في ذلك القضيب. سيتم فصل علاقة القضيب غير المهذبة بالأخلاق. في منحوتات عصر النهضة هناك الكثير من القضبان التي لم تكن تستدعي الشهوة. ولم يكن ظهور تلك القضبان ذا صلة بالأخلاق. في جزء منه، لا ينطوي الفن على رسالة أخلاقية، وفق التعريف الاجتماعي للأخلاق. لكن ذلك لا يعني أن الصنيع الفني هو كائن لا أخلاقي، يدعو إلى الفاحشة على سبيل المثال.
الفن الحقيقي يحرّض على العصيان والتمرد والاختلاف وينتسب إلى الحرية المطلقة ولا يقبل بالتسويات الوسطية التي تضعه في ميزان المشاركة في صنع الواقع والقبول به، محافظةً على مسيرة التاريخ. الصنيع الفني كائن لاتاريخي، تذهب به لانفعيته إلى الحدود القصوى من هدم المسلّمات الثقافية.
ما يسكت عنه الكثيرون، أن كل عمل فني إنما يشكل ظهوره خدشاً لحياء الثقافة. هنا بالضبط يظهر المعنى الأخلاقي الملتبس. كانت لوحة "الغداء على العشب" لمانيه، التي عرضت منتصف القرن التاسع عشر قد شكلت صدمة أخلاقية للكثيرين، لكنها بعد ذلك شكلت نظاماً أخلاقياً، صار الفنانون يتعلمون مفرداته كما لو أنها جزء من النظام الثقافي السائد. لا يحتاج المرء إلى العودة إلى قضيب سارة لوكاس ليتأكد من أن الفن لن يكون واجهة في مخزن لبيع البضائع الجنسية. فالفن، وإن كان لا يعلّم الأخلاق، يهذّب النفس البشرية، يصقل حواسها، من خلال رقيّه وتساميه، وينظّفها ويعي قوتها الأصلية لتكون عوناً للإنسان في مواجهة الشر والقبح والظلم والاستبداد.
نبيّ الكائنات المتحولة
سيكون على النحات الأميركي ريتشارد سيرا أن يضحك الآن من نفسه. فهو بعدما نصب منحوتته، "شرق غرب"، في صحراء قطر، بعيداً من الدوحة، وهي أقرب منطقة مأهولة بستين كيلومتراً، صار على يقين من أن أحداً لن يرى تلك المنحوتة. ألا يعبّر ذلك الفعل العبثي عن تفكير في علاقة الفن بـ"الله"؟ سينظر البدو الرحّل إلى تلك المنحوتة من جهة ما تنطوي عليه من قيم سحرية. تلك هي بقايا أمم اندثرت. سينضم سيرا، من حيث لا يدري، إلى قافلة الأمم الغابرة. سيكون عمله سبباً للإيمان أو للكفر بالقوة نفسها. الأصعب على سيرا، أن تفسَّر أعماله عقائدياً. لكن ذلك التفسير، إن حصل، سيكون نوعاً من الإطراء على قوة الفن.
لا يضحك سيرا لإنه لا يرى مستقبلاً نفعياً لعمله في الصحراء، فعمله في كل الأحوال لن يكون نافعاً (أتذكر هنا عمله الرائع في حديقة المتاحف بأمستردام)، غير أنه يضحك لسبب مختلف. قد يتخيّل البدو أن تلك الانصاب هي من بقايا دين اندثر، كان سيرا نفسه نبيّه. ألم يدرّب سيرا نفسه على النسيان؟ نسيان المعنى بشكل خاص، وهذا ما أربكه حين سأله الصحافيون في الدوحة عن معنى ذلك العمل. لم يقل لهم إن الفن بلا معنى، غير أنه استجار بغضبه فقرّر أن يصمت.
فاروق يوسف شاعر وناقد من العراق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.ila-magazine.com/%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%82-%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%81.html
تعليقات
إرسال تعليق