سريالية / الحبيب السائح



سريالية

جريدة صوت الأحرار: 03 أفريل 2014
Habib Sayah
الحبيب السائح
يصيب حياتَنا ما يشبه التثبيط المعمم، بل الانكسار الروحي؛ لذلك فإننا نشعر بهذا القرف غير المسبوق. إننا نعلنه في كلامنا ونظهره في إشاراتنا ونواجه به غيرنا في إيماءاتنا. فبيننا وبين أنفسنا، جرّاء ذلك، نتمنى أنْ لو جئنا إلى هذه الدنيا في زمان غير هذا الزمان. وولدنا مواطنين في بلد آخر غير هذا البلد!
يعصر قلوبَنا الغضب الأقصى على شرطنا الإنساني. إننا نرش سخطنا على الفقير والثري، المتعلم والأمي، الطموح والقنوع، الفاجر والورع، السارق والمختلس والناهب والنصاب والنزيه أيضا، والكذاب والدساس والمتحايل والمنافق والصادق أيضا، والمسئول وغير المسئول والشريف أيضا. وعلى التاريخ وعلى ما يمثل الرمزية أيضا. إنها حال الغبن التي تسبب مثلَ هذا الهيجان النفسي المطلق.
إننا نرفع على لافتة حركتنا اليومية شعار البراءة من التردي بأشكاله، كأننا لسنا جزءا منه ولا بداخله. ونهرب من أنفسنا إلى طريق الريح نبحث عمن يُسندنا بصبر جديد على ما يصيبنا؛ لأننا شارفنا أن نفقد قوانا العقلية على فهم ما يجري من حولنا، تحت أرجلنا، فوق رؤوسنا وأمام أعيننا!
وها نحن نَخُط بقنبلة دُهْنية على جدار حالنا المطلي بلون إخفاقاتنا: من هم الذين ينتزعوننا من بُعْد عالمنا البشري إلى هذا البُعد السريالي؟
من يسمعنا الآن نعلن: لا شيء مما عشناه في بلدنا خضع يوما لأي منطق! إننا، كلما حاولنا أن نستوعب أمرا سياسيا أو اقتصاديا أو ماليا أو تاريخيا أو ثقافيا، ازددنا قصورا عن الإدراك؛ لأننا مجبَرون على أن نقيس ما يجري حولنا، في مجالنا الحيوي، على ما هو محكوم بقواعد المنطق عند الآخرين؛ سواءٌ أتعلق الشأن بالتسيير، الذي تضطلع به الكفاءات، أم بالممارسة السياسية التي تخضع حتما للتداول!
ألهذا لم نَعد ننتظر مهديا ولا مسيحا، كي ينهض، بدلاً عنا، بمعجزة تَحط الجزائر ضمن دائرة بلدان، مما كان يسمى العالم الثالث، خرجت من قوقعة الحكم الفردي والتصور الأحادي إلى فضاء المواطنة والمدنية والتطور؟
وإلا، فها نحن في فزعنا الأعظم وحيدين، على رصيف الواقع البشري العاجّ بمتناقضات الدنيا ومفارقات الزمان جميعها، نتساءل برغم الخيبة الطافحة في كل مكان وموقع، وبرغم الانهيارات المتعاقبة في كل قلب وضمير: هل سيبقى لنا مزيد من الصبر ومَعين من الطاقة للنهوض مرة أخرى بواجبنا الوطني؛ كما فعل أجدادنا في عام 1954، لنجنب الجزائر مآل خراب مادي وروحي آياته تبْرق من حولنا؟
إن كانت القلة منا الذين يحتفظون في أنفسهم بجذوة أمل لا يزالون يقاومون، في المواقع كلها، بما أوتوه من قوة الروح والإيمان ومن حب راسخ ومتجذر للوطن، كيلا تذهب الجزائر أدراج ريح فتنة كبرى لا تُبقي ولا تذر، فإن الكثرة تكاد تستسلم لمصير ليس من يد القدَر.
ولكن من أين لهذه القلة منا السندُ والدعم، لتُمسك سلميا بمصير الجزائر، فتعيد لحوالي أربعين مليونا من الجزائريين المعطلين عن العمل والإبداع والمحرفين عن الطريق الوطني، الأملَ في مستقبلهم؛ حتى ولو أن كلمة "مستقبل" صارت مخجلة، لأن السياسي حولها مرادفاً للوعود الكاذبة؟
ها هي هذه الظروف المتأزمة، التي تعبُر تاريخنا الحالي، تؤكد لنا، مرة أخرى، أننا ما زلنا نبحث، في ارتباك، عن دولتنا الحاضنة؛ دولة تؤمننا من خوفنا ومن رعبنا وتطمئننا على وجودنا وعلى غد أبنائنا؛ دولةٌ فوق النظام؛ فوق هؤلاء الذين يتقرّبون منا بمناسبة كل استحقاق بوعود تقول كل شيء إلا كيف نبني دولة المواطنة.
تقول لي أمي: تكذب على الذئب مرة مرتين، الثالثة يأكلك!
إن الانتخابات في الجزائر تكرست كحق بفعل دم الجزائريين. وكم كانت عارمة وجارفة وصادقة في 1962 للانفصال عن فرنسا الاستعمارية! ولم تكن أقل من ذلك لما كان الجزائريون في كل مرة يشعرون أنهم بحاجة إلى أبٍ قويّ وصارم ينطق باسمهم ويتحسس أوجاعهم ويدفع بأحلامهم إلى الأمام.
فإن وزارة الداخلية تملك أدق الإحصاءات لكل استشارة أو انتخاب. وهي بكفاءاتها تقرأ كل الرسائل التي يرسلها المواطنون من خلال كل عملية انتخابية. فلما ذا لا تؤخذ تلك الرسائل مأخذ اعتبار في دوائر القرار؟ وما الذي يمنع الجزائريين، كل الجزائريين، من أن يشاركوا في إدارة شئون حياتهم السياسية؟
ألم يبق للجزائريين بعدُ، إن كان بقي لهم شيء في الجزائر يمكن أن يلتمسوا منه الاستماع إلى همومهم وانشغالاتهم ومخاوفهم، سوى الصحافة الوطنية؟
سريالية جريدة صوت الأحرار: 03 أفريل 2014 الحبيب السائح يصيب حياتَنا ما يشبه التثبيط المعمم، بل الانكسار الروحي؛ لذلك فإننا نشعر بهذا القرف غير المسبوق. إننا نعلنه في كلامنا ونظهره في إشاراتنا ونواجه به غيرنا في إيماءاتنا. فبيننا وبين أنفسنا، جرّاء ذلك، نتمنى أنْ لو جئنا إلى هذه الدنيا في زمان غير هذا الزمان. وولدنا مواطنين في بلد آخر غير هذا البلد! يعصر قلوبَنا الغضب الأقصى على شرطنا الإنساني. إننا نرش سخطنا على الفقير والثري، المتعلم والأمي، الطموح والقنوع، الفاجر والورع، السارق والمختلس والناهب والنصاب والنزيه أيضا، والكذاب والدساس والمتحايل والمنافق والصادق أيضا، والمسئول وغير المسئول والشريف أيضا. وعلى التاريخ وعلى ما يمثل الرمزية أيضا. إنها حال الغبن التي تسبب مثلَ هذا الهيجان النفسي المطلق. إننا نرفع على لافتة حركتنا اليومية شعار البراءة من التردي بأشكاله، كأننا لسنا جزءا منه ولا بداخله. ونهرب من أنفسنا إلى طريق الريح نبحث عمن يُسندنا بصبر جديد على ما يصيبنا؛ لأننا شارفنا أن نفقد قوانا العقلية على فهم ما يجري من حولنا، تحت أرجلنا، فوق رؤوسنا وأمام أعيننا! وها نحن نَخُط بقنبلة دُهْنية على جدار حالنا المطلي بلون إخفاقاتنا: من هم الذين ينتزعوننا من بُعْد عالمنا البشري إلى هذا البُعد السريالي؟ من يسمعنا الآن نعلن: لا شيء مما عشناه في بلدنا خضع يوما لأي منطق! إننا، كلما حاولنا أن نستوعب أمرا سياسيا أو اقتصاديا أو ماليا أو تاريخيا أو ثقافيا، ازددنا قصورا عن الإدراك؛ لأننا مجبَرون على أن نقيس ما يجري حولنا، في مجالنا الحيوي، على ما هو محكوم بقواعد المنطق عند الآخرين؛ سواءٌ أتعلق الشأن بالتسيير، الذي تضطلع به الكفاءات، أم بالممارسة السياسية التي تخضع حتما للتداول! ألهذا لم نَعد ننتظر مهديا ولا مسيحا، كي ينهض، بدلاً عنا، بمعجزة تَحط الجزائر ضمن دائرة بلدان، مما كان يسمى العالم الثالث، خرجت من قوقعة الحكم الفردي والتصور الأحادي إلى فضاء المواطنة والمدنية والتطور؟ وإلا، فها نحن في فزعنا الأعظم وحيدين، على رصيف الواقع البشري العاجّ بمتناقضات الدنيا ومفارقات الزمان جميعها، نتساءل برغم الخيبة الطافحة في كل مكان وموقع، وبرغم الانهيارات المتعاقبة في كل قلب وضمير: هل سيبقى لنا مزيد من الصبر ومَعين من الطاقة للنهوض مرة أخرى بواجبنا الوطني؛ كما فعل أجدادنا في عام 1954، لنجنب الجزائر مآل خراب مادي وروحي آياته تبْرق من حولنا؟ إن كانت القلة منا الذين يحتفظون في أنفسهم بجذوة أمل لا يزالون يقاومون، في المواقع كلها، بما أوتوه من قوة الروح والإيمان ومن حب راسخ ومتجذر للوطن، كيلا تذهب الجزائر أدراج ريح فتنة كبرى لا تُبقي ولا تذر، فإن الكثرة تكاد تستسلم لمصير ليس من يد القدَر. ولكن من أين لهذه القلة منا السندُ والدعم، لتُمسك سلميا بمصير الجزائر، فتعيد لحوالي أربعين مليونا من الجزائريين المعطلين عن العمل والإبداع والمحرفين عن الطريق الوطني، الأملَ في مستقبلهم؛ حتى ولو أن كلمة "مستقبل" صارت مخجلة، لأن السياسي حولها مرادفاً للوعود الكاذبة؟ ها هي هذه الظروف المتأزمة، التي تعبُر تاريخنا الحالي، تؤكد لنا، مرة أخرى، أننا ما زلنا نبحث، في ارتباك، عن دولتنا الحاضنة؛ دولة تؤمننا من خوفنا ومن رعبنا وتطمئننا على وجودنا وعلى غد أبنائنا؛ دولةٌ فوق النظام؛ فوق هؤلاء الذين يتقرّبون منا بمناسبة كل استحقاق بوعود تقول كل شيء إلا كيف نبني دولة المواطنة. تقول لي أمي: تكذب على الذئب مرة مرتين، الثالثة يأكلك! إن الانتخابات في الجزائر تكرست كحق بفعل دم الجزائريين. وكم كانت عارمة وجارفة وصادقة في 1962 للانفصال عن فرنسا الاستعمارية! ولم تكن أقل من ذلك لما كان الجزائريون في كل مرة يشعرون أنهم بحاجة إلى أبٍ قويّ وصارم ينطق باسمهم ويتحسس أوجاعهم ويدفع بأحلامهم إلى الأمام. فإن وزارة الداخلية تملك أدق الإحصاءات لكل استشارة أو انتخاب. وهي بكفاءاتها تقرأ كل الرسائل التي يرسلها المواطنون من خلال كل عملية انتخابية. فلما ذا لا تؤخذ تلك الرسائل مأخذ اعتبار في دوائر القرار؟ وما الذي يمنع الجزائريين، كل الجزائريين، من أن يشاركوا في إدارة شئون حياتهم السياسية؟ ألم يبق للجزائريين بعدُ، إن كان بقي لهم شيء في الجزائر يمكن أن يلتمسوا منه الاستماع إلى همومهم وانشغالاتهم ومخاوفهم، سوى الصحافة الوطنية؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح